يقولون إن ضحية الحرب الأولى هي الحقيقة، وأضيف لذلك أن الحقيقة ضحية بالقدر نفسه في حالة حدوث حرب باردة أو جائحة، أو كوارث أخرى يلقي فيها البشر اللوم على بعضهم البعض. في هذه الأيام، هناك لغزان يتسمان بأهمية خاصة قد لا نعرف حقيقتهما أبداً.
يرتبط اللغز الأول بالعدوان الروسي على أوكرانيا، والمواجهة الأوسع نطاقاً بين موسكو والغرب. وهذه المسألة تتعلق بالجهة المسؤولة عن تخريب خطّي أنابيب "نورد ستريم" اللذين ينقلان الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، وذلك عبر 4 عمليات تفجير ضخمة تحت سطح البحر في سبتمبر الماضي.
أما اللغز الثاني، فهو يرتبط بجائحة كورونا، التي تسببت في وفاة نحو 7 ملايين شخص. والمسألة هنا ترتبط بما إذا كان فيروس "سارس-كوف-2" (SARS-CoV-2) قد ظهر بشكل طبيعي في الصين في أواخر 2019 –من خلال انتقاله من الحيوانات إلى البشر ثم انتشاره– أو ما إذا كان قد صُنّع في أحد مختبرات الطب الحيوي في مدينة ووهان الصينية، قبل وصوله إلى السكان. ويرتبط هذا اللغز بالعلاقة بين الصين وبقية العالم، في سياق يبدو بشكل متزايد أنه حرب باردة جديدة بين بكين وواشنطن.
تفجيرات خطوط أنابيب "نورد ستريم"
وقعت الانفجارات الأربعة لخطّي الأنابيب في بحر البلطيق بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية. ربما تبدو الانفجارات بعيدة عن أرض المعركة في أوكرانيا من حيث الموقع الجغرافي. لكن من الناحية الجيوسياسية، فقد وقعت على الخطوط الأمامية نظراً لارتباطها بعاملَين استراتيجيين.
العامل الأول كان اعتماد أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، على الغاز الطبيعي الروسي في تلك الفترة، والثاني كان مدى ترابط التحالف الغربي أو انقسامه في دعم كييف ومقاومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هناك إجماع على أن الضربة الموجّهة لخطّي "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2" –اللذين يتكون كل منهما بالفعل من خطّي أنابيب تحت سطح البحر– مهمة تطلّبت حنكة ومهارة، وفي حكم المؤكد أنها حصلت على تمويل حكومي.
بالتأكيد أحضر الغواصون –دون أن يُفتضح أمرهم– كميات ضخمة من المتفجرات إلى المواقع المحددة في البحر المفتوح، ثم ثبتوا العبوات الناسفة في الأعماق.
من وراء العملية؟
كالمعتاد، ألقت كل الأطراف في النزاع اللوم فوراً على أي كان من يعتبرونه عدوهم. قالت أوكرانيا وبولندا إن الكرملين وراء عملية التخريب، كجزء من "حربه الهجينة". وعلى نحو متوقع، نفت روسيا أنها لعبت دوراً في التفجيرات.
لكن فيما يُذكرنا بـ"الميمز" الخاصة بأفلام "جيمس بوند"، اتّهم الكرملين المملكة المتحدة بالقيام بالتفجيرات، وهو ما نفته بريطانيا بدورها.
في الآونة الأخيرة، ألقى محقق صحفي أميركي باللوم على الولايات المتحدة، وهو ما نفته واشنطن على الفور. تظهر الآن نظريات جديدة تشير إلى أن من وراء التفجيرات إما مجموعة غير معروفة الهوية موالية لأوكرانيا وتعمل بشكل مستقل عن حكومة كييف، أو روسيون يعملون ضد نظام بوتين. كما هو الحال دوماً، كل الأطراف تنكر تورّطها، ولا توجد أدلة ملموسة.
سلاح بيولوجي أم تسرب عن طريق الخطأ؟
أما بالنسبة لمصدر فيروس "سارس-كوف-2"، فهناك إجماع على أنه لم يُصمَّم يوماً ليكون سلاحاً بيولوجياً. لكن منذ أوائل الوباء، تكهّن بعض السياسيين في الدول الغربية والخبراء أن الفيروس ربما يكون قد تسرّب عن طريق الخطأ من معهد ووهان لعلم الفيروسات، الذي أجرى تجارب على سلالات من فيروس كورونا مثل هذه، كما أنه جغرافياً يقع بالقرب من مركز ظهور الفيروس للمرة الأولى.
ومن بين أوائل من أيّدوا هذه النظرية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، ومدير مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) حينذاك، روبرت ريدفيلد. وإلى يومنا هذا، تنقسم آراء العلماء والمسؤولين الحكوميين وأجهزة الاستخبارات.
يعتقد البعض أن الفيروس حيواني المنشأ، بمعنى أنه انتقل من الحيوانات للبشر، أما البعض الآخر، ومن بينهم وزارة الطاقة الأميركية، فيعتقدون أن تسرب الوباء من أحد المختبرات يُعد سيناريو أكثر ترجيحاً.
لا أحد بريء من الشبهات
مثلما هو الحال في لغز تخريب خطّي الأنابيب، لكن لا أحد يبدو بريئاً من الشبهات في نظرية تسرب كوفيد من أحد المعامل. بدلاً من التحلّي بالصراحة في أي مرحلة خلال الجائحة، حجبت الصين الأدلة أو منعت نشرها أو فرضت عليها رقابة أو دمرتها.
ويشير ذلك إلى أن النظام في بكين –بقيادة الرئيس شي جين بينغ، الذي اعتُبر أمر حصوله على فترة ولاية ثالثة مسلّماً به– يكترث بالحفاظ على ماء الوجه أكثر من اكتراثه بحياة البشر أو بالحقيقة فعلاً. (وعلى نحو ملائم، اتكأت بكين أيضاً على منظمة الصحة العالمية لتجاوز الحرف اليوناني "ساي" (Xi) -وهي نفس حروف اسم الرئيس الصيني باللغة الإنجليزية- في تسمية متحورات كوفيد واختيار "أوميكرون" (Omicron)، بدلا منه).
كما أن الرد السياسي لأميركا ليس غنياً بالمعلومات المفيدة، ففي جلسات الكونغرس خلال الأسبوع الماضي، انقسم الجانبان على أسس حزبية بشكل كبير– في قضية لا ينبغي لأمر فيها أن يكون له وزنه سوى العلوم البحتة أو الحقيقة المستندة للأدلة.
قواسم مشتركة بين اللغزين
يملك اللغزان الكثير من القواسم المشتركة. أولاً، من المحتمل ألا نستطيع حلهما. وثانياً، لن يدفع ذلك الناس بعيداً عن زرع بذور نظريات مؤامرة جديدة بما يتواءم مع أهدافهم الدعائية أو آرائهم. كما أن الطبيعة البشرية ستساهم في نشرها. تؤكد دراسة جديدة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المثل القديم القائل يأن الكذبة تنتشر كالنار في الهشيم قبل أن تخرج الحقيقة للنور.
يستغل البعض هذه النزعة البشرية دون شفقة أكثر من غيرهم. على مدى عقود، طوّر بوتين –بعقليته التي دربتها المخابرات الروسية– من أساليبه في إقناع الجماهير، داخل البلاد وخارجها، أن "كل الأمور غير حقيقية وكل شيء ممكن"، مثلما يقول الكاتب بيتر بومرانتسيف.
هدف بوتين الدعائي بالفعل هو إقناع حلفائه وأعدائه على حد سواء أن الواقع الموضوعي لا وجود له على الإطلاق، لكي يتمكن من تشكيله كيفما يود. ويبدو أن الرئيس الصيني والحزب الشيوعي يسلكان النهج نفسه.
هل من دروس مستفادة؟
في أي موقف يضعنا ذلك؟ ظاهرياً، هناك دروس لنستفيد منها فوراً في الحالتين، بغض النظر عن الجهة المسؤولة. الدرس الأول هو حماية الطاقة وغيرها من البنية التحتية الخاصة بنا، لأن مزيد من محاولات التخريب سيقع حتماً.
والثاني هو تجديد الجهود متعددة الأطراف لزيادة الأمن في المختبرات الحيوية في العالم، التي يتعامل نحو 69 منها مع بعض أخطر مسببات الأمراض التي يمكن تخيلها.
أما على مستوى أدق، فعلينا أيضاً ممارسة ضبط النفس والتواضع الفكري، من خلال عدم الإسراف في التكهن حينما لا نملك الحقائق. لكن رغم العيوب الواضحة من الطبيعة الخاصة للمجتمعات المفتوحة في الغرب، فإن هذه المجتمعات تملك ميزة ليست موجودة في أنظمة الحكم الاستبدادي، مثل روسيا والصين؛ وهي أنها تتيح إمكانية ظهور الحقيقة بشكل أكبر، على الأقل على المدى الطويل.
وفي ظل ذلك، فإن خصومنا ليسوا فقط موسكو وبكين، بل أيضاً السخرية في حد ذاتها. لكي نسود ولكي يكون لانتصارنا مغزى، علينا أن نؤمن بفكرة الحقيقة. وذلك ينطوي على الصمود في وجه الغموض في أي وقت، وأيا كانت المدة، عندما تختفي الحقيقة.