بلغ البحث عن حلول مناخية نقطة تحوّل حاسمة في الآونة الأخيرة، حيث خلص العلماء إلى أن معالجة مشكلات المناخ تتطلب أكثر من مجرد خفض الانبعاثات. فالمطلوب هو تفريغ الكربون الذي ضُخَّ بالفعل في الجو.
لا شك في أنه يتعين على القادة والمستثمرين العالميين، السعي إلى تحقيق هدف إزالة الكربون من الأنشطة الاقتصادية للحد من الضرر قدر الإمكان. لكن تقريراً جديداً من جامعة أكسفورد، يلحظ أن هناك بالفعل الكثير من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لدرجة أن التركزات الحالية ستدفع كوكبنا إلى تخطي حاجز 1.5 درجة مئوية من الاحترار فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، حتى لو بنينا غداً اقتصاداً خالياً من الكربون تماماً.
يُعد تقرير "حالة إزالة ثاني أكسيد الكربون"، أحد التقييمات المستقلة الأولى لمقدار ثاني أكسيد الكربون الذي أُزيل حتى الآن من الغلاف الجوي، وذلك الذي يلزم إزالته، عاماً بعد عام، لتثبيت مستويات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بحلول منتصف القرن. كما يُعد التقرير مساهمة مهمة في محادثات المناخ، وسيحظى موضوعه بقدر أكبر من الاهتمام في المستقبل.
إغفال إمكانات الطبيعة الهائلة
لكن، هنالك مواطن عدة لا يصيب فيها التقرير الهدف؛ فهو يقلل من الإمكانات الهائلة للطبيعة الأم لأن تزيل الكربون بنفسها، حيث ينأى، في السياق عينه، عن الاعتراف بالآفاق المتنامية للابتكار التكنولوجي الذي يمكن أن يعزّز قوة الطبيعة في حل مشكلة تغيّر المناخ بدرجة كبيرة.
يدعو معدّو تقرير أكسفورد إلى تطوير استراتيجيات إزالة ثاني أكسيد الكربون "الجديدة". وتتراوح هذه من "الفحم الحيوي"، إلى "إنتاج الوقود الحيوي" عن طريق احتجاز الكربون وتخزينه، وصولاً إلى البدائل الأكثر خيالية، مثل الأشجار الميكانيكية والآلات الأخرى المصممة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتحويله إلى كتل كربون، أو أشكال أخرى قابلة للتخزين. كما يخلص التقرير إلى أن إزالة ثاني أكسيد الكربون بواسطة التقنيات الجديدة، يجب أن تزيد "30 مرة بحلول عام 2030، وبمقدار 1300 مرة (حتى بنحو 4900 في بعض السيناريوهات) بحلول منتصف القرن".
الاستثمارات العالمية الخضراء تتجاوز تريليون دولار للمرة الأولى
بينما أؤيد شخصياً بشدة الاستثمارات الجديدة في التكنولوجيا الذكية الخاصة بالمناخ، وأحتفي بها دورياً في مقالاتي، لا بد من التنويه بأننا ما زلنا على بعد سنوات، إن لم يكن عقوداً، من تطوير آلات يمكنها إزالة ثاني أكسيد الكربون على نطاق يقترب حتى مما يمكن أن تقوم به الطبيعة. فهناك استثمارات بمليارات الدولارات تُضخ في ما يُسمى "تقنيات احتجاز الكربون من الهواء مباشرة" (كالأشجار الميكانيكية وما شابه ذلك)، إلا أن أياً منها لم ينجح حتى الآن على نطاقٍ واسع.
إزالة الكربون طبيعياً
في موازاة ذلك، تقوم الغابات والأراضي العشبية والمزارع المدارة جيداً في الوقت الحالي بإزالة مليارات الأطنان من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وعزلها كل عام عن طريق التركيب الضوئي. أما مسألة عدد مليارات الأطنان تلك، فهي خاضعة للنقاش.
تفيد دراسة جامعة أكسفورد بأن النظم البيئية الأرضية تزيل حالياً ملياري طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وتُقدّر أن هذا الرقم قد يتضاعف إلى 4 مليارات بحلول عام 2050. لكن هذا أقل من الحد الأدنى لتقديرات الإزالة المحتملة في بيانات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، والتي تتنبأ بأن النظم البيئية الأرضية يمكن أن تزيل نحو 5 إلى 8 مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي سنوياً بحلول 2050، وذلك ببساطة من خلال تحسين ممارسات الإشراف على الأراضي.
6 شركات تطلق مشروعاً ضخماً لزراعة ملياري شجرة في البرازيل
تقوم الأشجار والمحاصيل بمعجزة مناخية، لأنها تحيل الشيء الضار إلى نافع. فهي تتنفس ثاني أكسيد الكربون من خلال أوراقها، وتحوّله إلى مواد مفيدة، ليس فقط في مواد مثل الذرة والقطن والخشب، ولكن أيضاً من خلال جذورها في الأرض، حيث يصبح الكربون شريان حياة للتربة الخصبة.
الاستثمار في الطبيعية
بحسب غريغوري نيميت، وهو مشارك في إعداد تقرير "حالة إزالة ثاني أكسيد الكربون" وأستاذ السياسة العامة في جامعة ويسكونسن في ماديسون، فإن كل عمليات إزالة ثاني أكسيد الكربون الناجحة تقريباً حتى الآن جاءت من حلول طبيعية لمشكلة المناخ، مثل حماية الغابات وغرس الأشجار وتحسين إدارة التربة. لذلك سألته: "لماذا لا تستثمر بكثافة في ذلك؟". ففي رأيي، إن دعم الإمكانات الاستثنائية للنظم البيئية الطبيعية وتوسيعها للقيام بإزالة الكربون، هو ما يجب أن يركز عليه المستثمرون وصنّاع السياسات، وليس على الآلات الخيالية.
مزيد من الأشجار يعني مدناً ألطف جواً وأكثر جمالاً
أمّا نيميت، فيرى أن منطلق التقرير هو أن "هناك حداً لما يمكن أن تفعله الحلول المناخية القائمة على الطبيعة". لكنني أعتبر أن هذا التقييد (لقدرات الطبيعة) هو فشل في التفكير الإبداعي.
فعلى سبيل المثال، يفترض التقرير أننا سنلتزم بالأنماط الحالية لاستخدام الأراضي، والتي تميل بشدة نحو الزراعة. فالأراضي الزراعية تغطي حالياً أكثر من نصف مساحة الولايات المتحدة، ونحو 40% من مساحة اليابسة في العالم. والغالبية العظمى من هذه الأراضي مخصصة للحبوب والإنتاج الحيواني التقليدي. لكن مزيجاً من التقنيات والسياسات الجديدة يمكن أن يجعل من الممكن زراعة المزيد من المحاصيل الغذائية على مساحة أقل بكثير من الأراضي. وعليه يتسنّى تحويل الأراضي المحررة من الاستخدام الزراعي إلى برارٍ وغابات، وبالتالي تحويل مليارات الأطنان من التلوث الكربوني إلى أنظمة بيئية حية.
نظم بيئية معقدة
ما من شك في أن الإدارة الأفضل للغابات والأراضي الزراعية يمكن أن تقلل بشكل كبير من زيادة حرارة الغلاف الجوي حتى خلال العقد المقبل. وعلاوة على ذلك، يمكن إزالة المزيد من الكربون بشكل كبير من الغلاف الجوي إذا استثمرنا في التقنيات التي تدعم قوة الطبيعة وتوسعها. (إيضاح: شارك أخي برونسون غريسكوم في كتابة دراسة عن حلول المناخ الطبيعية، وهو يقود الأبحاث الجارية في هذا المجال لصالح منظمة "كونزيرفيشن إنترناشيونال" Conservation International).
يتمثل التحدي الأكبر لهذه الحلول الطبيعية في أنها تأتي من خلال مجموعة معقدة من النظم البيئية المنتشرة في كل أنحاء الأرض. ومن الأهمية بمكان تطوير تقنية مراقبة منخفضة التكلفة، بحيث يمكن قياس هذه الشبكة الواسعة وإدارتها. ويمكن لأنظمة المراقبة عن بعد، ومنها الأقمار الصناعية والرادارات التي يمكنها تتبع التغيرات في استخدام الأراضي بدقة متزايدة، أن تقطع شوطاً طويلاً للمساعدة، كما يمكن للأجهزة التي تُثبت على الأشجار مراقبة معدلات عزل الكربون.
تحالف يدير أصولاً بـ39 تريليون دولار يحذر من تعويض الكربون
كما يجب على المستثمرين وصانعي السياسات دعم تطوير أنظمة تمويل متناهية الصغر يمكن أن تكافئ السكان بأكثر الغابات خصوبةً، ومعظمها في الدول الاستوائية، لتحقيق الإدارة المستدامة لبؤر الكربون الأساسية هذه. وسيُعوض البعض عن عدم قطع الأشجار، في حين سيحصل آخرون على أموال لإدارة عمليات مستدامة لزراعة الغابات وقطع الأشجار بطريقة تعود بالفائدة على سلامة الغابات على المدى الطويل. بالطبع سيكون هذا أكثر تعقيداً من نظام المدفوعات "باي بال" (PayPal)، فهو برنامج يراقب ويقيّم المؤشرات المعقدة لصحة النظام البيئي، ويقدّم المدفوعات وفقاً لذلك عبر الهواتف المحمولة للمزارعين ومديري الغابات.
تقنيات زراعية ذكية
الأهم من ذلك، أننا بحاجة إلى الاستثمار في تقنيات الزراعة الذكية مناخياً، من الجرارات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وروبوتات إزالة الأعشاب الضارة، إلى المزارع العمودية، والمحاصيل المعدّلة وراثياً والمزروعة وفق تقنية التكرارات العنقودية "كريسبر" (CRISPR) والمصممة لتحمل الظروف الضاغطة على نمو المحاصيل.
لديّ أيضاً ثقة كبيرة في التحول نحو ممارسات الزراعة المتجددة التي يمكن أن تزيد بشكل كبير من الخصوبة والقدرة على عزل ثاني أكسيد الكربون في تربة الأرض. وهناك إمكانات هائلة لتغيير أنماط استخدام الأراضي على نطاق واسع من خلال إنشاء واعتماد تقنيات قائمة على الطلب، وأبرزها بدائل اللحوم مثل المنتجات النباتية واللحوم المستنبتة التي تتطلب مساحة أقل بشكل كبير لإنتاج بروتينات عالية الجودة.
أودّ أن أوضح أنني لا أعارض التقنيات الخيالية التي يتبناها تقرير جامعة أكسفورد. فقد أحرزت شركة "كلايم ووركس" (Climeworks) السويسرية، على سبيل المثال، وكذلك شركة "كاربون إنجينيرينغ" (Carbon Engineering) الكندية، بعض التقدم المهم في الآونة الأخيرة في تطوير آلات تعمل مثل المكانس العملاقة لشفط ثاني أكسيد الكربون. وعلى المدى الطويل، نحتاج إلى كل الحلول التي يمكننا الحصول عليها، سواء من الآلات أو الطبيعة.
لكن ساعتنا المناخية تدقّ، وفي الوقت الحالي، يجب أن نركز طاقتنا واستثماراتنا على المسار الأكثر ملاءمةً. ولفترة طويلة، قاوم المدافعون عن المناخ مناقشة إزالة ثاني أكسيد الكربون خوفاً من أن يُصرف الانتباه عن الحاجة الملحة للحدّ من الانبعاثات. ولا يمكننا بالتأكيد أن ندع الصناعات الملوثة تفلت من مأزقها. لكن لا يمكننا في المقابل، تجاهل أهمية إزالة الكربون بعد الآن. وينبغي لنا ألا نركز كثيراً، في المدى القريب، على آلات امتصاص الكربون.
ختاماً، فإن المضي قدماً يتطلب التواضع. وإذا علّمنا تغيّر المناخ شيئاً، فهو أن الطبيعة أكثر ذكاءً وقوةً منا، وحان الوقت لنعترف بأن أكثر ما يزيل ثاني أكسيد الكربون من الجو، هي الطبيعة الأم.. فلنستثمر فيها.