يمثل اليورانيوم اختزالاً لحال كوكب ترتفع حرارته ونظام عالمي يتداعى وسوق تتطلّع لتكسب من كلا الأمرين. فسعر هذا المعدن، الذي يشغل مفاعلات طاقة بلا انبعاثات وكذلك رؤوس حربية تستطيع إبادة حضارة برمتها، قد تخطى فيما مضى من العام جميع الارتفاعات في أسعار السلع في مؤشر بلومبرغ، باستثناء عصير البرتقال، مرتفعاً 68%.
يتناقض هذا مع تراجع فرص النهضة النووية الأميركية، التي تلقت ضربة أخرى مع انهيار مشروع مفاعل صغير من أجزاء مسبقة الصنع، الذي كانت تعد له شركة "نوسكايل" (NuScale) للطاقة. كما واجه قطاع الطاقة النووية انتكاسات في أوروبا، وعلى الأخص في ألمانيا، مع إغلاق عدد كبير من المفاعلات، يثير هذا كله تعجباً من ارتفاع سعر اليورانيوم من نحو 30 دولاراً للرطل في صيف 2021 إلى أكثر من 80 دولاراً اليوم، وهو أعلى مستوياته منذ 2008.
آفاق نموّ واعدة
رغم انخفاض الإنتاج في المفاعلات النووية بنسبة 4% في 2022، بقي المعدل قريباً من المستوى الذي كان عليه منذ بداية الألفية. إلى ذلك، فإن ثلث الانخفاض في العام الماضي نجم عن عدد استثنائي من الانقطاعات المؤقتة في الإنتاج في بعض المحطات في فرنسا.
في الولايات المتحدة، على الرغم من أن بناء المفاعلات من أجزاء مسبقة الصنع ما يزال مشروعاً طموحاً لم يتحقق بعد، إلا أن مفاعلاً جديداً تقليدياً افتُتح أخيراً في جورجيا بعد طول انتظار، فيما يُتوقع افتتاح مفاعل آخر قريباً، كما سيؤجّل على الأرجح إغلاق معمل الطاقة في ديابلو كانيون في كاليفورنيا.
علاوة على ذلك، تستفيد المحطات النووية القائمة ممّا يمكن اعتباره أسعار حدّ أدنى غير رسمية جلبتها حسومات ضريبية ينص عليها قانون مكافحة التضخم. في غضون ذلك، تواصل الصين توسيعها السريع لطاقتها النووية، فيما أعادت اليابان تشغيل بعض المفاعلات التي كانت قد أغلقتها إثر حادثة فوكوشيما عام 2011.
تبدو آفاق نموّ قطاع الطاقة النووية واعدة أيضاً على المدى الطويل، ولو أن معظم هذا النموّ سيحدث في آسيا. إذ تتوقع وكالة الطاقة الدولية زيادة في السعة العالمية بمقدار 50% بحلول 2050 حتى في ظلّ السيناريو الذي تبقى فيه الأمور على حالها، فيما قد تُسجَّل زيادة بأكثر من الضعف، إن حقق العالم طموحه بتحييد الانبعاثات.
لكن قوّة اليورانيوم الحالية ناجمة عن حاضر قاتم أكثر من كونها بشرى بمستقبل أقلّ تلوثاً.
أسفر تاريخ من التخزين الاستراتيجي وإعادة التدوير وتفكيك ترسانة الأسلحة النووية إلى الإفراط في الاعتماد على المخزونات لتلبية الطلب. وقد أسهم الاعتماد على مثل هذه المصادر الثانوية في تأمين 15% من الطلب الإجمالي على اليورانيوم في العقد الماضي، وأكثر من ربع الطلب في العام الماضي، كما أن التنقيب عن اليورانيوم متركز نسبياً، حيث تسهم دولتان فقط هما كازاخستان وكندا بنحو 60% من الإنتاج.
قبضة روسية
يفترض أن يشجع ارتفاع الأسعار على زيادة الإنتاج وطرح المخزونات في السوق، ما يؤدي بالتالي إلى خفض الأسعار. لكن الاضطرابات التي تعترض عملية التعدين وزيادة المخاطر الجيوسياسية يعترضان ذلك حالياً. وعلى سبيل المثال، خفضت شركة "كاميكو" (Cameco) حديثاً أهدافها الإنتاجية بعدما اعترضتها مجموعة مشاكل تشغيلية. "كاميكو" هي أكبر شركة تنقيب عن اليورانيوم في كندا وثاني أكبر شركة في العالم على صعيد الإنتاج.
كما تسبب انقلاب النيجر هذا الصيف بعرقلة التنقيب عن اليورانيوم ومعالجته في سابع أكبر دولة من حيث الإنتاج، وهي تسهم بنحو 4% من إمدادات اليورانيوم المستخرج، كما أثار ذلك شكوكاً حيال خطط التوسع.
وبينما لا تعدّ روسيا أحد أكبر المساهمين بإمدادات اليورانيوم المستخرج، حيث تحتلّ المرتبة السادسة عالمياً، إلا أن احتياطاتها التي تعتبر الرابعة على صعيد العالم ومخزوناتها الاستراتيجية، إلى جانب الدور الرائد لشركة "روساتوم" التابعة للدولة في قطاع الطاقة النووية العالمي، تجعلها مورّداً مهماً لوقود المفاعلات على المستوى الدولي.
قد يختلف الكونغرس (الأميركي) على كثير من الأمور فيما يخصّ الطاقة والمناخ، إلا أن دعم الطاقة النووية والعداء لروسيا ما يزالان هدفين يتفق الحزبان (الجمهوري والديمقراطي) بقدر كبير على السعي لتحقيقهما.
ما يزال قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2024، الذي أُقرّ بأغلبية كبرى في مجلس الشيوخ (الأميركي) خلال الصيف، عالقاً فيما يتخبط مجلس النواب للتوصل إلى حلول مؤقتة لتمويل الإنفاق حتى نهاية العام. وقد تضمّن القانون بندين مهمين، أولهما تأمين الأموال لتشجيع الإنتاج المحلي لليورانيوم، في وقت بلغت مساهمة الولايات المتحدة 0.2% من كمية اليورانيوم المستخرج عالمياً في العام الماضي، وثانيهما يتعلق بمنح الإدارة صلاحية حظر واردات الوقود النووي من روسيا والصين.
نظراً للتصدعات التي طرأت على التجارة الدولية نتيجة الحرب في أوكرانيا، يزداد احتمال فرض حظر مطلق على الوقود الروسي، بعدما أتى ثُمن اليورانيوم الذي اشترته المحطات النووية الأميركية العام الماضي من روسيا. وإذا ما أضيفت إلى ذلك الكميات المستقدمة من كزاخستان وأوزباكستان الأقرب إلى النفوذ الروسي، يعني ذلك أن أميركا تستورد نصف كمية اليورانيوم من الجمهوريات السوفياتية السابقة الثلاث. كذلك، تعتمد المفاعلات في الاتحاد الأوروبي الذي تأثر بشدّة باضطرابات تدفق الطاقة من الشرق، على هذه الدول للحصول على نسبة مشابه من اليورانيوم.
سوق اليورانيوم أصغر من سوق الليثيوم
بالتالي بدل الإفراج عن المخزونات، لدى مشغلي محطات الطاقة النووية أسباب وجيهة لتعزيزها، سواء من خلال المحافظة على المخزونات التي تملكها أو المزايدة على شحنات أو السعي للإنتاج من مناجم جديدة، وكلّ ذلك يتطلب رفع الأسعار.
ضخّت الأسواق المالية مزيداً من الغريزية فوق كلّ هذا. إن سوق اليورانيوم صغيرة وغير سائلة، وهذا هو الأفضل إذا ما فكرنا بالأمر ملياً. إذ تقدّر قيمة السوق الاسمية بـ14 مليار دولار في السنة فقط، حتى في ظل السعر الحالي، ما يعني أنها أصغر من سوق الليثيوم الناشئة نسبياً، وبالتالي يكفي قليل من المضاربات لرفع الأسعار.
هنالك ثلاثة صناديق متداولة مدرجة في البورصة مدعومة بكميات ملموسة من اليورانيوم، أكبرها صندوق "سبروت فيزيكال يورانيوم ترست" (Sprott Physical Uranium Trust) الذي تجاوزت أخيراً قيمة أصوله الصافية 5 مليارات دولار. وقد أضافت هذه الصناديق معاً نحو 22500 طن من اليورانيوم إلى مخزوناتها بين 2020 و2022 مع تدفق الأموال عليها، أي ما يوازي نحو 30% من الطلب السنوي العادي على اليورانيوم، ما دفع الارتفاع الأولي في الأسعار بشدّة.
إلا أن مثل هذه الآلية الاستثمارية سيف ذو حدين في أي سوق سلع، إذ تطرح عنصراً جديداً متقلباً، وتمثّل فائضاً من الإمدادات المحتملة التي قد تغرق السوق عند التغيير الحتمي في المعنويات. لكن في المستقبل المنظور، يبدو أن التخزين الممارس ينسجم مع سوق اليورانيوم التي تعيش تحولات بفعل الحرب والاحترار.