لا ينعم المنجمون بفرصة أن تصدق نبوءاتهم في كارثتين إلا نادراً، فحتى كاساندرا، المنجمة الأولى في الأساطير الإغريقية، لم تحقق نجاحاً واحداً ملحوظاً بعد تنبؤها بسقوط طروادة. ومع ذلك، فعندما ينجح أحد المنجمين في التنبؤ بكارثة ويحذر من أخرى قادمة، فقد نرغب في الاستماع إليه.
قبل سنوات من وقوع الأزمة المالية، رأى ديفيد بيرت أن المشاكل تختمر في قروض الرهن العقاري عالية المخاطر، وبدأ يراهن على وقوع أزمة شاملة، فربح أموالاً طائلة بالإضافة إلى ورود اسمه في كتاب مايكل لويس الشهير "الرهان الكبير: داخل آلة نهاية العالم" (The Big Short: Inside the Doomsday Machine).
يدير بيرت حالياً شركة الأبحاث "دلتا تيرا كابيتال" (DeltaTerra Capital) التي أسسها لتحذير المستثمرين من الأزمة العقارية القادمة التي سيتسبب فيها تغير المناخ.
في ندوة عقدها مع الصحفيين عبر الإنترنت الشهر الماضي، قال بيرت إن أصحاب العقارات في الولايات المتحدة الأميركية الذين يتعرضون لأخطار الفيضانات وحرائق الغابات يعانون من نقص التغطية التأمينية بقيمة 28.7 مليار دولار سنوياً.
أزمة تشبه الركود العظيم
نتيجة لذلك، يتعرض أكثر من 17 مليون منزل، تمثل نحو 19% من إجمالي الثروة العقارية للولايات المتحدة، لخسائر في قيمتها قد تصل إجمالاً إلى 1.2 تريليون دولار.
لاحظ بيرت أن إجمالي قيمة سوق العقارات في الولايات المتحدة تبلغ نحو 45 تريليون دولار، وقال: "إن الأزمة القادمة لن تكون نوعاً من الأزمة المالية العالمية. لكن المجتمعات التي ستعاني من آثارها ستشعر أنها شبيهة بالركود العظيم".
وحقيقة الأمر أن تقديرات بيرت ربما كانت محافظة، حيث قدرت شركة أبحاث مخاطر البيئة المناخ "فيرست ستريت فاونديشن" (First Street Foundation) في العام الماضي أن 39 مليون منزل في الولايات المتحدة -أو ما يقرب من نصف جميع منازل الأسر الخاصة في البلاد- تعاني نقصاً في التغطية التأمينية ضد الكوارث الطبيعية، ومن بينها 6.8 مليون منزل تعتمد على شركات تأمين مدعومة من الدولة في نهاية المطاف.
المشكلة أن الأقساط التأمينية في كثير من أنحاء الولايات المتحدة لا تعكس حجم الأخطار الناجمة عن الكوارث المناخية، التي تتزايد مع ارتفاع حرارة الكوكب أو الاحترار العالمي.
تسبب عدد قياسي بلغ 28 كارثة مناخية في الولايات المتحدة العام الماضي في خسائر قيمتها مليار دولار أو أكثر، بحسب "الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي".
خسائر قياسية من الكوارث الطبيعية
يتجه العام الحالي إلى تسجيل ذلك العدد القياسي من الكوارث المناخية على الأقل، بعد أن شهد 15 حدثاً مماثلاً حتى الآن، وهو رقم لا يشمل إعصار بيريل، الذي ربما تسبب في خسائر قيمتها 30 مليار دولار.
تجاوزت الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية على مستوى العالم 120 مليار دولار منذ بداية هذا العام، بحسب تقديرات شركة إعادة التأمين "ميونيخ ري" التي نشرتها الأسبوع الحالي.
وكانت التغطية التأمينية تشمل 62 مليار دولار فقط من تلك الخسائر، بما يزيد عن متوسط المدى الطويل بنسبة 70%.
معظم هذه الخسائر وقعت في الولايات المتحدة، وقد تحمل ملاك المنازل جانباً كبيراً منها.
ترفع شركات التأمين قيمة الأقساط استجابةً لهذه الكوارث ولتغطية التكاليف المتزايدة لإعادة البناء وشراء عقود إعادة التأمين الخاصة بها من شركات مثل "ميونخ ري".
ارتفعت أقساط التأمين على أصحاب المنازل بنسبة 11% في المتوسط في الولايات المتحدة في عام 2023، وفقاً لشركة "إس آند بي غلوبال ماركت إنتليجنس" (S&P Global Market Intelligence). وقد ارتفعت بأكثر من الثلث في السنوات الخمس الماضية فقط. وفي الولايات الواقعة على الخطوط الأمامية لتغير المناخ، بما في ذلك كاليفورنيا وفلوريدا وتكساس، كانت الزيادة أعلى من ذلك.
أقساط تأمين عالية ولكن غير كافية
لكن أقساط التأمين لا تزال غير مرتفعة بما فيه الكفاية، ويرجع ذلك أساساً إلى أن الجميع تقريباً لا يرغبون في ذلك. فأصحاب المنازل لا يحبون دفع أسعار تأمين باهظة، ويميلون إلى معاقبة السياسيين الذين يسمحون بارتفاعها أكثر من اللازم. كما أن الأقساط المرتفعة تضر أيضاً بقيم العقارات، مما يهدد بنقص الإيرادات الضريبية. والنتيجة هي التلاعب بالسوق مثل الاقتراح 103 في كاليفورنيا، والذي يضع حدوداً صارمة على قدرة شركات التأمين على رفع الأقساط.
وحتى إذا استطاعت شركات التأمين زيادة الأسعار طوعاً أو كرهاً، فقد تفكر مرتين بشأن التسبب في هروب العملاء، خاصة عندما تكون القوانين واللوائح مصممة لتثبيط أصحاب المنازل عن ملاحقة شركات التأمين قضائياً بسبب الأضرار التي لا يغطيها التأمين.
قالت سوزان كروفورد، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، في الندوة عبر الإنترنت: "كل جزء من نظامنا المالي والقانوني في هذه النقطة مكرس بشكل منفرد للحفاظ على الوضع الراهن. ومن الصعب أن نتكيف مع ذلك".
استخدمت شركة "فيرست ستريت" منزلاً افتراضياً في كاليفورنيا لتوضيح مدى انفصال تكاليف التأمين عن الواقع في بعض الأماكن.
لنفترض أن سكان كاليفورنيا الافتراضيين بدأوا في عام 2010 بدفع قسط تأمين منزلي سنوي بقيمة 2000 دولار. إذا زاد هذا القسط بنسبة 7% سنوياً – وهو الحد الأقصى الذي ستسمح به الولاية، كما أنه أمر مستبعد جداً على أي حال – فإن هذا القسط سيصل إلى 4820 دولاراً في عام 2023. يا للهول! ومع ذلك، سيظل هذا الرقم أقل بقيمة 2900 دولار من السعر الذي يعكس حقاً مقدار ما تتحمله شركة التأمين الافتراضي من أخطار، وفقاً لتقديرات شركة "فيرست ستريت"، مع الأخذ في الاعتبار تغير المناخ والتضخم وإعادة التأمين والتكاليف الأخرى.
شركات التأمين تتجنب مناطق الخطر
لا عجب في أن شركات التأمين تهرب من كاليفورنيا وفلوريدا وغيرها من المناطق الخطرة في مجموعات، تاركة أصحاب المنازل الحقيقيين عالقين بالاعتماد على شركات التأمين الحكومية كملاذ أخير.
هذه البوالص باهظة الثمن وليست كافية في أغلب الأحوال. كما أن مقدمي التأمين معرضون باستمرار لخطر الإفلاس. واجهت خطة كاليفورنيا للعدالة التأمينية "فير" (FAIR) 311 مليار دولار من الخسائر المحتملة في آخر إحصاء، وواجهت شركة "سيتيزنز بروبرتي إنشورنس" (Citizens Property Insurance) للتأمين على الممتلكات في فلوريدا خسائر محتملة بقيمة 525 مليار دولار. أما البرنامج الوطني الفيدرالي للتأمين ضد الفيضانات، وهو أكبر مؤسسة للتأمين ضد الفيضانات في الولايات المتحدة، فيعاني دائماً من الخسائر المالية. من سينقذ هذه الخطط إذا فشلت؟ وجه نظرك إلى المرآة.
الحل المنطقي هو تسعير الأخطار المناخية تسعيراً دقيقاً، وقد بدأ البرنامج الوطني للتأمين ضد الفيضانات في محاولة القيام بذلك من خلال إنهاء اعتماده أخيراً على خرائط الفيضانات القديمة.
لن نقوم بعد ذلك بدعم بناء وإعادة بناء المنازل في المناطق الأكثر عرضة للطقس الفوضوي. لكن نتيجة القيام بذلك دفعة واحدة ستكون اكتشاف أسعار مفاجئة ومربكة في سوق الإسكان، حيث ستصبح خسائر بيرت البالغة 1.2 تريليون دولار حقيقة واقعة.
سيتعين علينا أن نجد وسيطاً مناسباً، يثبط الاستيطان على طول الخطوط الأمامية لتغير المناخ مع تجنب كارثة اقتصادية في الوقت نفسه. ولكن كما يمكن لأصحاب المنازل الذين انتهى بهم المطاف في مسار حرائق الغابات في كاليفورنيا أو فيضانات فلوريدا أن يشهدوا على ذلك، فإن الكارثة تأتي أحياناً عندما لا تكون مستعداً.