
يصعب تبرير الحرب التجارية التي يشنّها الرئيس دونالد ترمب فيما يؤرق التضخم معظم الأسر الأميركية.
من أبرز نظريات من يبررون هذه السياسة أن أسواق صرف العملات تنزع إلى تعديل سعر الصرف بما يوازن تأثير الرسوم الجمركية الجديدة، فتحيد مفاعيل الزيادة المحتملة في أسعار السلع الاستهلاكية محلياً.
استعرض وزير الخزانة، سكوت بيسنت، هذه الفكرة خلال جلسة تثبيت تعيينه أمام لجنة المالية في مجلس الشيوخ الشهر الماضي، رداً على على المخاوف التي عبر عنها أحد أعضاء اللجنة بشأن انعكاسات زيادة الرسوم الجمركية على التضخم. لكن يجب توضيح مدى غرابة هذا المنطق على أرض الواقع.
تهديدات ترمب الجمركية تعيد للدولار هيبته وتقلق سكينة سوق العملات
لنلقي نظرة إلى الحوار الذي دار بين بيسنت والسيناتور الديمقراطي عن أوريغون رون وايدن:
خطر ارتفاع الأسعار
وايدن: أعتقد أن هذه الرسوم، بغضّ النظر عن أي محاولة لتجميلها، في النهاية سيدفع ثمنها عمالنا وشركاتنا الصغيرة. طوال الحملة الانتخابية، قيل لنا إن ذلك لن يحدث وأن الدول الأجنبية ستتحمل التكلفة، لكنني أعتقد أن هذا هراء. في الواقع، سيقع العبء على عاتق العمال والشركات الصغيرة. فما ردّك؟
بيسنت: مع احترامي أيها السيناتور، أخالفك الرأي. تاريخ الرسوم الجمركية ونظرية الرسوم، وبالأحرى نظرية الرسوم المثلى لا تدعم ما تفضلت به. تقليدياً، نرى أن الرسوم الحالية ولنقل أنها 10% مثلاً —وهي النسبة التي ترددت في وسائل الإعلام— ترتفع قيمة العملة بنحو 4%، ما يعني أن العبء لا ينتقل بالكامل إلى الأسعار. إلى ذلك، هناك متغيرات أخرى أيضاً، مثلاً قد تتغير تفضيلات المستهلكين. وأخيراً، ستستمر الشركات المصنعة الأجنبية، وخاصة في الصين التي تركز على التصدير للخروج من مشكلتها الاقتصادية الحالية، في خفض أسعارها للحفاظ على حصتها في السوق.
لا أدري من أين أتى بيسنت بهذه الأرقام، لكنني أستغرب جداً سماع هذا التبرير من مسؤولين يزعمون أنهم يسعون إلى نهضة في القطاع الصناعي المحلي. فالصناعة الأميركية تنطلق أصلاً من أساس هش، إذ لم يحقق الإنتاج الصناعي والتوظيف في القطاع أي تقدم يُذكر منذ عام 2022، نظراً لقوة الدولار وارتفاع أسعار الفائدة.
إذا أدت الرسوم الجمركية إلى زيادة سعر الدولار مقارنة بالعملات الأخرى، فستضر المصدرين الأميركيين الذين يُفترض ظاهرياً أنها تهدف لحمايتهم، وستكون ضئيلة الأثر من حيث موازنة تنافسية السلع المستوردة. يظهر هذا التأثير بشكل أكبر إذا صحّ ما أبرزه بيسنت، وخفّض المصنعون الأجانب أسعارهم للحفاظ على حصتهم في السوق الأميركية.
اقرأ أيضاً: بيل ددلي: تعريفات ترمب الجمركية أسوأ مما كنت أتخيل
النظرية تختلف عن الواقع
حتى في عالمٍ توازن فيه العملة تأثير زيادة الرسوم الجمركية بشكل مثالي، أقصى ما يمكن الطموح إليه هو أن تحقق الحكومة مزيداً من الإيرادات عبر الرسوم الجمركية (على افتراض أن التداعيات السلبية للحرب التجارية من حيث الاقتصاد الكلي لا تؤثر على إيرادات الحكومة بطرق أخرى). وفي هذه الحالة، لن يساعد ذلك كثيراً في تقليص العجز التجاري الأميركي.
على أرض الواقع، هذا التوازن الذي تحدثه أسعار العملة لا يكفي لتجنب أن تزيد الرسوم الجمركية التكاليف المترتبة على الشركات والمستهلكين. أولاً، عادةً ما تكون فواتير الواردات بالدولار الأميركي وهي تُعدل فصلياً وليس يومياً أو أسبوعياً، فيما تقلبات الحرب التجارية التي يشنها ترمب يبدو أنها تغير الواقع على الأرض كل دقيقة. لذا رغم أن ارتفاع الدولار قد يساعد على تخفيف شيء من كلفة الواردات، وجدت الباحثة في صندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث أن هذا التأثير ليس قوياً بقدر ما قد تعتقدون.
ثانياً، يرتبط التضخم الذي قد ينجم عن زيادة الرسوم الجمركية بالدول وبأزواج من العملات المعنية بالحرب التجارية. في حالة الصين، ما حدث خلال رئاسة ترمب الأولى يدعم إلى حد ما نظرية موازنة العملة لتأثير الرسوم. فقد سمحت الصين لليوان بالانخفاض لتخفيف تأثير الرسوم الجمركية، ويبدو أن إجراءاتها خففت أيضاً من تأثير هذه السياسة على المستهلكين الأميركيين. على أساس سنوي، لم يتخط انكماش نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي بشكل يُذكر هدف الاحتياطي الفيدرالي للتضخم البالغ 2%. بالمثل، فإن القاعدة الصناعية الواسعة للصين وانكشافها المحدود على الواردات المقومة بالدولار لم يحمّل مستهلكيها تكاليف انخفاض قيمة عملتها.
اقرأ أيضاً: العجز التجاري الأميركي يتفاقم قبيل بدء حرب رسوم ترمب الجمركية
ورقة تفاوضية
لكن الحرب التجارية هذه المرة قد تكون أوسع وأشمل، وتطال عدة دول، فلا يمكن التعويل بالضرورة على الدور الموازن للعملة. إلى جانب الصين، وجه ترمب سهامه نحو المكسيك وكندا، ويبدو أنه يمهّد لمواجهة مع الاتحاد الأوروبي، كما لوّح بفرض رسوم جمركية تشمل جميع الأطراف. وفقاً لمحللين في مؤسسة "وولف ريسيرتش" (Wolfe Research)، قد تؤدي هذه الحرب إلى ارتفاع متوسط سعر السيارة الجديدة في الولايات المتحدة بنحو 3000 دولار. وحسب ما نقلت بلومبرغ نيوز عن ديفيد بيلمان، المطور العقاري في ويسكونسن، فإن الرسوم المعلنة قد تزيد تكلفة بناء منزل نمطي بنحو 29000 دولار.
قد يساعد تكيّف قيمة العملة على تخفيف بعض هذه التقديرات، لكنه لن يمنع ارتفاع الأسعار بالكامل. على عكس الصين، التي تتحكم بسعر الصرف، فإن المكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي تترك تحديد سعر العملة للسوق، ما يعني أنها تتأثر بعوامل متعددة غير التجارة، بما فيها التضخم وأسعار الفائدة وأسعار السلع وثقة المستثمرين. منذ أواخر سبتمبر، عندما برز ترمب كالمرشح الأوفر حظاً للرئاسة، تراجع كل من البيزو المكسيكي والدولار الكندي واليورو أمام الدولار الأميركي بنحو 4.3% و5.5% و6.5% على التوالي.
في حال فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على المكسيك وكندا، يتوقع الخبراء الاستراتيجيون في "جيه بي مورغان تشيس" أن تنخفض قيمة عملتيهما أكثر، لكن ليس بنفس نسبة الرسوم الجمركية. المفارقة أن تقلبات ترمب نفسه قد تعيق تكيف السوق على نطاق أوسع، إذ لا يأخذ كثير من المحللين والمتداولين في وول ستريت بتهديداته حرفياً، ويشككون عن حق بقدرته على الإبقاء على رسوم مرتفعة في ظل ضغوط السوق والتحديات القانونية. ربما يعتبر ترمب صعوبة التنبؤ بخطواته ورقة تفاوضية، لكن في هذه الحالة، سيشكل ذلك عبئاً على المستهلكين الأميركيين.
سلاح الرسوم
من ناحية أخرى، على المكسيكيين والكنديين والأوروبيين ألا يستعجلوا لخفض قيمة عملاتهم من أجل المحافظة على قدرتهم التنافسية. فطبيعة علاقتهم التجارية مع الولايات المتحدة تعني أنهم سيتكبدون تكاليف استهلاكية عالية إذا ما اعتمدوا مثل هذه السياسة، بالأخص المكسيك وكندا. يبقى خطر هروب رؤوس الأموال مرتفعاً في كل الأحوال. في أغسطس، أدى ارتفاع مفاجئ وسريع في قيمة الين الياباني إلى اضطراب الأسواق المالية العالمية، ويمكن لمثل هذا التقلب أن يتسبب بـ"حادث مالي" يسفر عن تباطؤ اقتصادي أوسع.
الواضح أن الأوضاع تتغير سريعاً. فقد وافق ترمب على تأجيل فرض الرسوم الجمركية بنسبة 25% على كل من كندا والمكسيك لشهر شريطة أن تلتزما بتعهدهما بوقف تدفق الفنتانيل والمهاجرين. كما فتح الباب أمام احتمال إلغاء زيادة الرسوم الجمركية بالكامل، في حال إجراء مفاوضات إضافية وتعاون البلدان في المسائل الحدودية. المشكلة في ترمب أنه يسارع ليشهر سيف زيادة الرسوم الجمركية كسلاح في وجه كل مشكلة يواجهها.
لكن عموماً، مجرد أن حرب ترمب التجارية السابقة لم تسفر عن نتائج كارثية لا يكفي للاطمئنان بأن حربه هذه المرة لن تؤدي إلى ذلك، وأسباب ذلك كثيرة. فاقتراحاته الحالية أكثر شمولية من تلك التي طبقها في 2018 و2019، والوضع الاقتصادي العام أصعب، فما تزال آثار التضخم حاضرة وحجم العجز الاتحادي لا يترك للحكومة حيزاً واسعاً للمناورة.
علاوة على ذلك، يصعب التنبؤ بدقة بكيفية تفاعل أسواق العملات مع الرسوم الجمركية. في أفضل الأحوال، قد تكشف تحركات أسعار الصرف أن الهلع من التضخم أدى إلى المبالغة في توقع التأثير على المستهلكين. لكن ليصح ذلك، سيتعين على القطاع الصناعي الأميركي التضحية بجزء من قدرته التنافسية. في النهاية، نظرية موازنة العملة لخطر التضخم أبعد ما تكون عن تبرير منطقي للمضي قدماً في سياسة مبنية على مشورة سيئة تعرض الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي لمخاطر جديدة بلا موجب.