هيمنة الدولار العامل الرئيسي في تمويل ديون أميركا وعجز الموازنة

تغلغل العملة الخضراء في الاقتصاد العالمي يدعم سيطرتها ومن مصلحة ترمب إدراك قيمتها الاستراتيجية

time reading iconدقائق القراءة - 9
أوراق نقد أميركية من فئة 100 دولار - المصدر: بلومبرغ
أوراق نقد أميركية من فئة 100 دولار - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

يُتوقع منذ فترة طويلة أن تنتهي هيمنة الدولار الأميركي ومعها قدرة الولايات المتحدة على الاقتراض لدرجة قد تعجز أي دولة أخرى عن تحملها، فمنذ خمسين عاماً على الأقل، يتوقع المشككون أن يحدث شيء- أو يأتي شخص- يزيح الأصول الأميركية عن عرشها، إلا أن هذا لم يحدث حتى الآن.

تغلبت العملة الخضراء على تحديات كبيرة، مثل التحول إلى أسعار الصرف المرنة في السبعينيات، وظهور اليورو، وصعود نجم اليابان والصين، فضلاً عن العجز الكبير في الموازنة والميزان التجاري. ويعد عجز الموازنة في الأغلب عاملاً رئيسياً في توقعات أن الإنفاق سيصل حتماً إلى مستوى لا يحتمل، وستؤدي أي أزمة إلى تدهور سوق السندات، ليهبط معها الدولار.  إلا أن هذا لا يحدث.

شكل باراك أوباما لجنة رفيعة المستوى لتقديم توصيات عن مسار للسيطرة على عجز الموازنة، ورغم الإشادة الكبيرة باللجنة، إلا أنها لم تحرز أي تقدم.  وحذر أحد كبار مسؤوليها من أن تتعرض الولايات المتحدة لأزمة ديون مشابهة لما حدث في اليونان، وهذا لم يحدث. ويرجع ذلك إلى سبب وجيه: فبينما مرت اليونان بأزمة كبيرة، تمثل جزء كبير من المشكلة في عدم قدرة أثينا على طباعة عملتها، إذ إنها جزء من منطقة اليورو. (بالمناسبة أصبحت اليونان وجهة مفضلة للمستثمرين في الفترة الحالية، وبصدد سداد قروضها قبل الموعد المحدد).

دور محوري للدولار في الاقتصاد العالمي

هل تسبب الرئيس المنتخب دونالد ترمب، الذي انتقد الدولار مثلما دافع عنه ويدعم سياسة مالية توسعية صريحة، في أن يحين موعد مواجهة العواقب؟ صحيح أن أسعار الفائدة على السندات الحكومية الأميركية لأجل 10 سنوات- التي تعد معياراً عالمياً- ارتفعت بعد الانتخابات، إلا أن العائدات أقل بكثير عن مستواها خلال معظم سنوات التسعينيات، التي شهدت ذروة ما يطلق عليه "الاعتدال الكبير" (Great Moderation)، وهي فترة تلت الحرب الباردة واتسمت بالتضخم المعتدل، والتقلبات الطفيفة في الدورات الاقتصادية، والإجماع على ضرورة تراجع دور الدولة- وليس زيادته- في الحياة الاقتصادية.

لن تفقد العملة الخضراء مكانتها قريباً، إذ أن هيمنتها لا تقتصر على رغبة الحكومة في ارتفاع الدولار أو انخفاضه أو ما بينهما، بل تضطلع بدور محوري متغلغل في نسيج الاقتصاد الحديث، فهي تشكل معظم الاحتياطيات النقدية على مستوى العالم، حيث تعد طرفاً في 90% من عمليات تداول العملات الأجنبية، كما تُقدم معظم القروض العابرة للحدود بالدولار، إلى جانب أنه العملة المستخدمة في سداد حجم هائل من تكلفة التجارة.

لا توجد أي عملة أخرى تحظى بهذه المكانة، رغم التقدم المذهل الذي حققته الصين خلال العقود الأربعة الماضية، شهدت الحصة الضئيلة لليوان في تسوية المدفوعات الدولية تراجعاً طفيفاً في 2024، بحسب خدمة التراسل المالي "سويفت" (SWIFT).

رغم التغييرات الدورية في المحافظ الاستثمارية، ما يزال بحيازة المستثمرين الأجانب أدوات دين أميركية بتريليونات الدولارات، تمثل سندات الخزانة جزءاً كبيراً منها. ربما تستأثر اقتصادات آسيا بمعظم النمو الاقتصادي على مستوى العالم خلال الأعوام المقبلة، لكنها تواجه تحديات في إيجاد عدد كافٍ من الأصول الآمنة والسائلة في منطقتها.

عصر "معيار سندات الخزانة"

هذه القائمة المذهلة من المميزات تؤكد وجهة نظر قوية؛ عوضاً عن الثيران أو البرونز أو الفضة التي توجد في دول كثيرة، تتربع السندات الحكومية الأميركية على قمة النظام المالي، فتتسم الفترة المعاصرة بوجود "معيار سندات الخزانة" (Treasury Standard)، بحسب بحث أعده جوشوا هندريكسون، الأستاذ بجامعة ميسيسبي.

حل هذا النظام محل نظام "بريتون وودز" الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن سندات الخزانة ليست مجرد أداة تمويل مناسبة، بل هي أصل استراتيجي، إذ تمكن واشنطن من جمع مبالغ كبيرة لتمويل البرامج الجديدة، أو الإنفاق العسكري، أو كما حدث في الآونة الأخيرة، التصدي لطوارئ الصحة العامة.

يعترض المنتقدون بأن هذه الأهمية البالغة تمكن الولايات المتحدة من إنفاق ما يتجاوز إيراداتها. ما لا يُقال في معظم الأوقات، بل وتتمناه بعض الأوساط، أن هذا الوضع سينتهي في وقت ما، وسيواجه الأميركيون الخيارات الصعبة نفسها مثل الدول الأخرى.

 

قبل عقود من إصدار اليورو، انتقد شارل ديغول قوة الدولار. وقوبل طرح العملة المشتركة بالاحتفاء والطموح، إذ إن أوروبا لم تسع إلى شيء يثبت التكامل الاقتصادي فقط، بل يمكن القارة أيضاً من مواجهة هيمنة العملة الأميركية. حقق اليورو أداءً جيداً في البداية، إلا أن الآمال المعلقة عليه تراجعت بسبب سلسلة من الأزمات الداخلية.

يبرز ذلك جانباً مهماً من قوة الدولار يتمثل في جاذبية السندات الأميركية، مقارنة بأي خيار آخر. ففي الوقت الحالي، لا تقدم أي عملة أخرى مجموعة كبيرة وآمنة من الأصول السائلة. فحتى الصين، التي كثيراً ما تعتبر الدولة الأكثر ترشيحاً لمنافسة الهيمنة الأميركية، لا تثق بالأسواق، فيتعرض اليوان لكل أنواع التدخل، بدءاً من نطاقات أسعار التداول اليومية التي يحددها البنك المركزي ووصولاً إلى فرض قيود على الكمية التي يمكن للمستثمرين إدخالها أو إخراجها من البلاد، وسهولة ذلك.

غياب البديل يدعم هيمنة الدولار

هذا لا يعني أنه لن تظهر عملة موثوقة تنافس الدولار، ولا أن بمقدور مرشح ترمب لتولي وزارة الخزانة الأميركية، سكوت بيسنت، الإنفاق حسبما يريد مغفلاً أي تبعات. 

قال لي هندريكسون: "الميزة الأكبر للدولار هي عدم وجود بديل، ما يقلل فرص حدوث أزمة. تبدأ التفكير فيما سيحدث في المستقبل، وهذا عالم حافل باحتمالات وأفكار نظرية لا حصر لها، لكن مدى واقعيتها غير واضح. الخلاصة أننا نواصل المضي قدماً دون يقين نوعاً ما".

في ظل مواطن القوة هذه، هل يهم ما إذا كان الرئيس الأميركي يعطي أولوية واضحة لقوة الدولار، الشعار الكبير الذي ساد منذ فترة رئاسة بيل كلينتون حتى انتخاب ترمب أول مرة في 2016؟ رغم هذه التصريحات عن النوايا، فالأغلب أن لها هدفاً أساسياً كما أنها تعكس توجهات في تدفق رأس المال.

قلما حاد روبرت روبين، وزير الخزانة الذي صاغ سياسة "الدولار القوي"، عن مساره، وساعده انتعاش الاقتصاد في ذلك. وتذكر أن روبين وخليفته لاري سمرز لم يعارضا بيع الدولار من وقت لآخر. واضطلعت البراغماتية بدور كبير أيضاً.

 

ربما تعكس تصريحات ترمب المتكررة عن قوة الدولار المفرطة رغبة في دعم التصنيع، ورغم قسوة ألفاظه، فإن تدهور الدولار ليس في صالحه.

دولة وحيدة قادرة على إنهاء سيطرة الدولار

كذلك ليس من مصلحة القوى الصاعدة أن تتعرض لهذا النوع من الانهيار، المؤكد أن يصاحب تغيير النظام في عالم العملات. فإذا فقد الدولار أهميته، سيعاني أيضاً من يتنافسون على احتلال مكانته، إذ لديهم احتياطيات كبيرة من الدولار ويقترضون بالعملة الخضراء.

فضلاً عن ذلك، بينما ازدهرت مناطق كبيرة في آسيا، وأصبحت الصين والهند من أكبر الاقتصادات، ما تزال أسواقهما صغيرة نسبياً، وتستخدم الحكومات الدولار لأن ذلك في مصلحتها، وليس محاباة للدولة التي تقود العالم الحر. لذلك لم تكن هناك حاجة لتهديد ترمب لدول مجموعة "بريكس"، فإصدارها عملة مشتركة سيستغرق سنوات، إن حدث أساساً. سواء أعجبك الوضع أو لا، فنحن نعيش في عالم يهيمن عليه الدولار. (باعت الصين سندات دولارية بقيمة ملياري دولار في السعودية).

ربما تكون الدولة الوحيدة التي يمكنها إنهاء هيمنة الدولار هي الولايات المتحدة نفسها، وحينها سيتكبد الجميع خسائر فادحة. فما دامت أميركا لم تضر بنفسها، مثل أن تبالغ في فرض القيود والعقوبات إلى حد يكتسب فيه البحث عن بديل حقيقي زخماً حقيقياً، سيواصل الدولار هيمنته، وستستمر دول العالم في تمني انتهاء هذه السيطرة، إلى أن تقيّم البدائل المتاحة.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

واشنطن

1 دقيقة

-4°C
غيوم متفرقة
العظمى / الصغرى -5°/-3°
16.7 كم/س
54%