تتحول "النيوليبرالية" (Neoliberalism) سريعاً إلى أيديولوجية لا تجرؤ على ذكر اسمها. قبل ثلاثين عاماً، تغنى أعضاء النخبة العالمية في انتشاء بمبادئ النيوليبرالية وترانيمها المقدسة؛ أي أفضلية السوق على الدولة، وتبني حرية حركة رأس المال والبضائع، وأن يصبح قطاع الأعمال قطاعاً للأعمال. اليوم، حتى صندوق النقد الدولي، كنيسة هذه العقيدة ومحرابها، يعلن أن زمنها قد ولى. وفي 27 أبريل، ألقى مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، خطاباً يمكن إدراجه تحت عنوان: "انتهى عصر النيوليبرالية، وانزاحت الغُمة".
فهل كانت غُمة حقاً؟ هل كان العالم سيصبح عالماً أفضل إذا بقي الليبراليون الجدد في مراكزهم البحثية بدلاً من دخول أروقة السلطة؟ وهل سيصبح عالماً أفضل إذا قضينا على النيوليبرالية؟ الإجابة على كلا السؤالين هي بالقطع لا.
التجربة البريطانية
بدأ تأثير النيوليبرالية في ظل الركود التضخمي واضطرابات السبعينيات من القرن الماضي. (عمل مفكرون، مثل فريدريك هايك وميلتون فريدمان، لعقود على صياغة الفكرة). وكانت بريطانيا حالة تجريبية لاختبارها؛ إذ أصبحت الإضرابات أمراً معتاداً، وأطاحت النقابات العمالية بحكومة إدوارد هيث في 1974، وبلغ معدل التضخم 25%، وقضى ارتفاع معدلات الضريبة الحدية إلى 98% على حوافز الاستثمار. ألقى جويل بارنيت، كبير أمناء وزارة الخزانة، مزحة حول قيام العقد الاجتماعي الكينزي على مبدأ الأخذ والعطاء بين الحكومة والنقابات، والحكومة أعطت، والنقابات أخذت.
صممت رئيسة الوزراء، مارغريت تاتشر، على استعادة قدرة الحكومة على الحكم، وقدرة رجال الأعمال على الإدارة، عبر تطبيق العقيدة النيوليبرالية، (يقال إن تاتشر كانت تحمل نسخة من كتاب هايك "دستور الحرية" “Constitution of Liberty” في حقيبتها). وتتمثل تلك العقيدة في السيطرة على المعروض النقدي، ومواجهة النقابات العمالية، ورفع القيود عن رأس المال. طبق رونالد ريغان فكرة مشابهة في الولايات المتحدة، وحذت الحكومات الأوروبية حذوه في نهاية المطاف. بالطبع، انطوت الثورة النيوليبرالية على معاناة لبعض العمال (لا سيما عمال المناجم البريطانيين) وبعض القطاعات الاقتصادية (الصناعة بوجه خاص). لكن الذرى الجديدة التي وصلها توني بلير وبيل كلينتون أثبتت عدم الرغبة في العودة إلى الحرب الأهلية التي شهدتها السبعينيات.
ظهور مفهوم العولمة وزيادة النمو
تزامنت هاتان الثورتان المحليتان مع حدثين عالميين خطيرين: "نهاية المسافات"، التي حققتها ثورة الاتصالات والإنترنت، وانهيار الاتحاد السوفييتي. وانتهز الليبراليون الجدد هاتين الفرصتين لطرح فكرة "العولمة": وهي فكرة تجمع بين الحماس للحد من الحواجز في إطار الإيمان بنظام عالمي جديد قائم على القوانين تحت حراسة المنظمات الدولية. وحثوا دول العالم، الغنية والفقيرة، على الحد من الحواجز التجارية، كما شكلوا تحالفات عالمية وأسسوا منظمات دولية، لا سيما "منظمة التجارة العالمية" (World Trade Organization)، للتأكد من تطبيق القواعد نفسها على الجميع.
سرّع تحرير التجارة وتيرة النمو العالمي، بالأخص في الأسواق الناشئة. إذ أثبت عديد من الدراسات الحديثة ارتفاع النمو الاقتصادي بنحو نقطة مئوية إلى 1.5 نقطة مئوية بعد الإصلاح التجاري، إضافة إلى زيادة تتراوح ما بين 10% إلى 20% في الدخل بعد 10 سنوات. أطلق تحرير التجارة "الموجة الثالثة" من التحول الديمقراطي، حيث يُرجح أن تجري الدول الديمقراطية عملية الإصلاح التجاري، وأن يعتنق مُصلحو التجارة الفكرة الديمقراطية. كما أنه خفض مستوى الفقر في العالم، إذ تراجعت نسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع من 42% في 1981 إلى 10% في 2015، وفقاً للبنك الدولي، وخلق طبقة وسطى جديدة في دول الاقتصادات الناشئة، وكذلك أبقى على معدلات التضخم في الدول الغنية تحت السيطرة، بينما أغدق على مستهلكيها بالبضائع الرخيصة. وهي بالكاد بضاعة تجار الكوارث قساة القلوب الذين يعكفون على استغلال الفقراء.
مزايا وخطايا
وضع السير كيث جوزيف، توأم تاتشر الأيديولوجي خلال إصلاحات الثمانينيات، يديه على أسباب أزمة السبعينيات: "بزيادة الضرائب، وارتفاع التضخم، وطوفان القوانين والتشريعات القاسية، والقيود، وتدخل السلطة المتعسف باستمرار، سلبت الحكومات المتعاقبة منذ الحرب بشكل تراكمي المتعة والمكاسب التي تجعل تقبل المخاطرة يستحق العناء". استعاد الليبراليون الجدد عائد الإقبال على المخاطرة، والأهم، متعتها. بشّرت حقبة النيوليبرالية بأعظم فترة لتأسيس الشركات العملاقة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فليس من الصدفة أن يكون أكبر مركز لتأسيس الشركات في تلك الحقبة هي الدولة التي قادت الثورة النيوليبرالية بأقصى طاقتها. فأخرجت الولايات المتحدة سلسلة من الشركات التي أعادت تشكيل معالم صناعاتها، "مايكروسوفت" و"أبل" في الحوسبة، و"أمازون" في تجارة التجزئة، و"بلاك روك" في الاستثمار المالي، و"غوغل" في المعلومات، و"فيسبوك" في التواصل الاجتماعي. ساعدت أهمية تلك الشركات على استمرار النمو في الاقتصاد الأميركي، حتى في ظل معاناة الاقتصادات المتقدمة الأخرى، إذ يشكل الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 57% من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة الدول السبع، مقارنةً بنسبة 40% في 1990.
بالطبع ارتكب الليبراليون الجدد أخطاء جسيمة وعانوا من جوانب غامضة خطيرة، فدُمج الفكر الجديد في عقيدة، ومن سبق أن انتقدوا السعي وراء الريع أصبحوا هم أنفسهم أحياناً يسعون وراءه. واتضح أن الليبراليين الجدد في غاية السذاجة فيما يخص واقع السلطة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، عندما خصخصوا كل ما وقعت عليه أياديهم. (وتبين أن حضور بعض الفصول في مدرسة كينيدي بجامعة هارفارد ومشاهدة فيلم "دكتور جيفاغو" ليس استعداداً كافياً للتغلب على دهاء المافيا الروسية). بالمثل، أوهموا أنفسهم بحتمية ترسخ الديمقراطية في الصين في بداية الإصلاحات الاقتصادية. وفي وطنهم، اتضحت سذاجتهم بالقدر نفسه في التعامل مع المصرفيين الذين راكموا ديناً فوق الآخر، وخطراً تلو الآخر.
ما بعد أزمة 2008
لكن، في القطاع المصرفي على الأقل، أثبت النيوليبراليون أن لديهم حيلة أخيرة في جعبتهم: هي البراغماتية الجامحة. وصف تيم غايتنر تجربته في منصب رئيس "البنك الاحتياطي الفيدرالي" في نيويورك خلال الأزمة المالية العالمية في 2007 و2008 بأنها تشبه تجربة خبير المفرقعات في فيلم "ذا هرت لوكر" (The Hurt Locker) للمخرجة كاثرين بيغلو، والذي يفكك القنابل مرتدياً بدلة واقية. ولتفكيك قنبلة الأزمة المالية العالمية، سرعان ما تخلى صانعو السياسات من الليبراليين الجدد عن أيديولوجياتهم، وارتدوا بدلة البراغماتية الواقية، وفعلوا ما يلزم لإنقاذ النظام المصرفي، فضخوا أموال الدولة في البنوك، وأمموا الشركات الصناعية، وفرضوا قيوداً أشد على الأسواق المالية.
خرج النظام النيوليبرالي سليماً إلى حد ما من الأزمة المالية العالمية، ليواجه بعدها سلسلة من الصدمات المتلاحقة: انتخاب دونالد ترمب، وجائحة كورونا، وغزو بوتين لأوكرانيا، وفي الخلفية من ذلك كله تعاظم نزعة إثبات الذات عند الصين.
ينفق جوزيف بايدن تريليوني دولار لإعادة تشكيل الاقتصاد استعداداً لعالم ما بعد النيوليبرالية، عبر حماية قطاعات معينة من المنافسة، وفرض قيود على التجارة مع الصين، وتسريع وتيرة "التحول الأخضر". وفي خطاب لها بمعهد بترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن، انحازت راشيل ريفز، المُرجح أن تشغل منصب وزيرة الخزانة في حكومة حزب العمال في المستقبل، إلى سياسات بايدن (أطلقت عليها اسم "علم اقتصاد الأمن القومي" (securonomics)، في تعبير مصيره النهاية السريعة)، لتعد بمزيج من الاستثمارات الحكومية والتوجيه الحكومي لإعادة بناء البنية التحتية الصناعية في بريطانيا. برانكو ميلانوفيتش، الاقتصادي البارز الذي وُلد خلف الستار الحديدي، غرّد مؤخراً: "شهدت في حياتي انهيار أيديولوجيتين كبيرتين، الشيوعية والنيوليبرالية".
عودة مشكلات السبعينيات
ما يأخذنا إلى سؤالنا الثاني: هل تعلن وفاة النيوليبرالية بداية عالم أفضل؟ من السهل تصور حدوث العكس. إذ نشهد عودة كثير من المشكلات التي ضربت السبعينيات، فمعدل التضخم مرتفع بشكل عنيد، والإنتاجية راكدة، والإضرابات منتشرة، وتعاني بريطانيا مرة أخرى من حالة مزمنة من الاضطراب الشائع. فهناك خطر ألا يؤدي التوجه الحالي للسياسة الصناعية وشعارات الإدارة المعنية برضا العاملين إلا لتفاقم الأوضاع. فأداء الدولة حالياً لمهامها الأساسية، مثل تأمين الشوارع، أو تنظيم مواعيد حركة القطارات، أو إقرار موازنة في الولايات المتحدة، سيئاً. إذاً، لماذا نظن أن أداءها سيتحسن عند اختيار الشركات مرتفعة النمو أو ابتكار تقنيات ثورية؟
رغم كل أخطائها، إلا أن النيوليبرالية قدمت على الأقل مصدراً للانضباط لأحلام حكومات النشطاء ومؤيديها، فذكرتنا بأن الحكومات ستتمدد وتتشعب إذا لم يُضغط عليها وتُقلص، وأن جماعات المصالح سوف تستولي على السياسات حسنة النوايا، وأن الشركات تساهم في تحقيق الصالح العام بالتمسك بمجالات خبراتها بدلاً من التغني بـ"هدف الشركة"، وأن البنوك المركزية تعمل بأفضل صورة عندما تواجه التضخم، عوضاً عن السعي لتحقيق قائمة طويلة من الأهداف الجيدة. الخطر هنا، مع تداعي النيوليبرالية، أن كل من لديه فكرة مفضلة سيجد آذاناً صاغية بين رؤوس الأموال العالمية، ما يفاقم الأزمة الحالية في القابلية للإدارة 10 أضعاف.
أميركا تتجاهل مخاوف أوروبا
أصبحت الحاجة لقبضة النيوليبرالية الحازمة ملحة بالقدر ذاته على الصعيد الدولي، فهناك إجماع كبير على ضرورة إعادة النظر في السياسة التجارية في ظل غزو روسيا لأوكرانيا، وتنامي قوة الصين. إذ كشف الغزو الروسي عن غباء الغرب في الاعتماد على قوة معادية في إمدادات الطاقة الضرورية، ويوضح تهديد الصين لتايوان الأمر ذاته فيما يخص أشباه الموصلات.
يبرر هذان الخطران المزدوجان السياسات التي عادةً ما أدانها النيوليبراليون، مثل اختصار بعض سلاسل التوريد (بالأخص عبر "الاعتماد على الحلفاء")، ورعاية الإنتاج المحلي للمدخلات الضرورية، مثل أشباه الموصلات. اتسع مفهوم "الصناعة الاستراتيجية" بصورة صحيحة، لكن علينا الانتباه كي لا يتحول الحذر إلى حماية الإنتاج الوطني، والتذرع بالاستعداد القتالي لتبرير تجاهل القوانين الدولية. فلم تكترث أميركا في حماسها لتقديم الدعم الحكومي لمنتجي السيارات الكهربائية المحليين بمخاوف أوروبا. كما تواجه خطر الخضوع للمنتجين المحليين الذين يفضلون تصنيف صناعة الجوارب والقمصان على أنها "أصول استراتيجية". يحيط ببايدن كثير من جماعات الضغط تهمس في أذنه عن مسألة إعادة الوظائف إلى الوطن. لكنه يحتاج أيضاً إلى نيوليبراليين يهمسون في أذنه الأخرى عن تأثير القيود التجارية على انخفاض مستويات المعيشة، وتراجع الابتكار، وتأجيج التوترات الدولية.
تحتاج النيوليبرالية إلى إعادة صياغتها في ظل ما عرفناه عن هشاشة النظام المالي وطموح شي جين بينغ، تحتاج إلى إثرائها بإعادة احتكاكها بالتقاليد الليبرالية المنافسة التي تؤكد مميزات الليبرالية الأخرى بخلاف رضا المستهلكين. لكن الشيطنة الحالية الخارجة عن السيطرة للنيوليبرالية تخاطر بتحويل التعديل الإيجابي على فوائض السنوات الماضية إلى عذر للعودة لسياسات السبعينيات الكارثية.