إنها مصادفة لطيفة أن ريشي سوناك قد فاز بقيادة حزب المحافظين، وبالتالي منصب رئيس الوزراء، في أهم أيام عيد "ديوالي"، أو "مهرجان الأنوار" الذي يحتفل به الهندوس، بجانب السيخ والجايني وبعض البوذيين.
ويُعتقد أن مهرجان "ديوالي" يرمز لانتصار "الضوء على الظلام، والخير على الشر، والمعرفة على الجهل"، كما أنه مرتبط بالثروة والرخاء.
في فبراير 2020، أدى سوناك القسم عند تولي منصب وزير المالية ممسكاً بنسخة من الـ"بهاغافاد غيتا"، الكتاب المقدس في العقيدة الهندوسية، واحتفل بعيد "ديوالي" بإشعال الأضواء خارج مقره الرسمي في رقم 11 داونينغ ستريت. والآن سيصبح أول هندوسي يتولى رئاسة وزراء بريطانيا. وسوف تعتمد مدة بقائه في المنصب على قدرته على تحقيق قدر معقول من الازدهار في بلاد تمر بمسارات اقتصادية عصيبة.
لدى سوناك فرصة قتالية لاستعادة النظام إلى حزب المحافظين وحكومة المملكة المتحدة. وهي أفضل قطعاً من فرصة بيني موردونت التي خرجت من السباق في اللحظة الأخيرة، والتي، رغم شعبيتها، تفتقد إلى الخبرة نسبياً، ولم تنضم إلى مجلس الوزراء إلا أشهراً قليلة في منصب وزيرة الدفاع.
لسنا في حاجة إلى إعادة ترديد السيرة الخاصة ببوريس جونسون، صاحب الشخصية المدمرة والعابثة. وقد حضر سوناك بهيئة مثالية مرتدياً بدلة وربطة عنق ضيقة في حضور قيادي مقارنة مع جونسون. وعندما نضع الرجلين في معادلة ماكس فيبر يصبح سوناك تجسيداً لـ"أخلاق المسؤولية" بينما يجسد جونسون "أخلاق اللامسؤولية".
برلماني يعشق كرة القدم
من جوانب عديدة، يُعدّ سوناك رئيس وزراء لبريطانيا تقليدياً تماماً. فقد تلقى تعليمه في مدرسة "وينشستر كولدج" (حيث تولى دوراً قيادياً حسب النظام واللغة المميزة لتلك المدرسة)، ثم كلية "لينكولن كوليدج" بجامعة "أكسفورد" حيث حصل على درجة علمية في الفلسفة والسياسة وعلم الاقتصاد، وهي المواد العلمية الأساسية للسياسيين وموظفي الحكومة الطامحين.
سوناك مغرم أيضاً بكرة القدم بصورة مفرطة. فإذا كان أكثر الأفعال نزقاً عند تريزا ماي في مراحل نموها هو الركض في حقل من حقول القمح، فإن أكثر الأفعال نزقاً التي اقترفها سوناك عندما كان تلميذاً بالمدرسة هو تهريب تلفزيون محمول صغير إلى داخل المدرسة حتى لا تفوته مشاهدة مباراة مهمة واحدة في دوري أبطال أوروبا "يورو 96".
في عيد ميلاده الثامن عشر، تلقى بطاقة معايدة موقّعاً عليها من أعضاء فريقه المفضل كاملاً، فريق "ساوثهامبتون" لكرة القدم، وهي الهدية التي أصبحت واحدة من أغلى مقتنياته.
بعد أن كوّن ثروته مباشرة في عالم المال، التحق بالبرلمان في عام 2014، فورث مقعداً من أكثر المقاعد أماناً في البلاد نائباً عن حزب المحافظين لدائرة "ريتشموند في يوركشاير" عن قيادة حزبية سابقة هو ويليام هاغ. وارتقى بسرعة وسلاسة في السلك الوزاري بأن أصبح وكيلاً لوزارة الدولة لشؤون الحكم المحلي في 2018، ووزيراً للخزانة في 2019، ثم وزيراً للمالية في 2020، في صعود صاروخي شهد دخوله مجلس الوزراء بعد 50 شهراً فقط من فوزه بمقعده البرلماني.
شخصية غير تقليدية
من ناحية أخرى، فإن سوناك شخصية غير تقليدية بداية من عقيدته الهندوسية. وهو جزء من موجة من الأقليات العرقية الصاعدة التي تدفقت على حزب المحافظين متحدية الوهم اليساري بأن السكان من غير البيض اشتراكيون بطبيعتهم (كان كواسي كوارتنغ، وزير مالية ليز ترَس، مثالاً آخر ضمن هذه الظاهرة).
هاجر والداه إلى بريطانيا من الهند بعد قضاء فترة في شرق أفريقيا وبنيا مستقلبهما المهني في قطاع الرعاية الصحية– فكان أبوه طبيباً في مدينة ساوثهامبتون وكانت أمه تملك صيدلية صغيرة.
إن حقيقة أن سوناك لم يتمكن من الحصول على منحة دراسية في "وينشستر"، الكلية الخاصة باهظة التكلفة التي تتطلب بذل جهود أكاديمية كبيرة، اضطرت الأسرة إلى الاقتصاد الشديد في نفقاتها حتى تتحمل سداد مصروفات الدراسة.
يتسم سوناك بأنه مواطن عالمي أكثر من معظم زملائه في حزب المحافظين، فقد أتم تعليمه في كلية "ستانفورد للأعمال" (Stanford Business School)، في قلب وادي السيليكون، حيث التقى زوجته الهندية الأميركية أكشاتا مورثي. ووضع أساس تكوين ثروته الشخصية بعمله في مجموعة "غولدمان ساكس" في نيويورك قبل انضمامه للعمل في أحد صناديق التحوط بالولايات المتحدة. وهو يحب الروح التجارية الأميركية، وتحديداً تلك الروح الخاصة بكاليفورنيا، ويمتلك منزلاً في سانتا مونيكا بلوس أنجلوس.
أغنى رئيس للوزراء
سوناك أيضاً أغنى بكثير– في الحقيقة نستطيع القول إنه أغنى رئيس للوزراء منذ أن كان آرثر بلفور يقضي وقت توليه المنصب يلعب الغولف في ملاعب ضيعته الخاصة في أسكتلندا. أما زوجته فهي ابنة واحد من أغنى الرجال في الهند، إذ إن نارايانا مورثي هو أحد سبعة أشخاص أسسوا شركة "إنفوسيس" (Infosys)، عملاقة التعهيد وتكنولوجيا المعلومات، وهو أيضاً أحد الأثرياء من أصحاب النفوذ في حزب استولت عليه البرجوازية المكافحة.
ينتمي سوناك إلى الجناح الحاكم في حزب المحافظين الذي يتأرجح تأرجحاً شديداً بين الممارسة المسؤولة للحكم والنزعة الشعبوية غير المسؤولة. وهو مدير ممتاز، تلقى مديحاً وثناءً من الخدمة المدنية الدائمة في كل وزارة كان جزءاً منها. توم سكولار –وكيل وزارة الخزانة الدائم سابقاً الذي أقالته ليز ترَس ضمن الإجراءات الأولى التي حكمت عليها بالفشل كرئيسة للوزراء– تحدث بحماس شديد عن قدرات سوناك عندما تولى منصب وزير الخزانة. علاوة على أنه تكنوقراطي طبيعي، ويتحدث بنفس لغة التكنوقراط في مختلف أنحاء العالم.
رؤية محافظة تقليدية
هذا لا يعني أنه يقل بأي درجة عن أعضاء حزب المحافظين كما يتصور بعض نقاده، بمن فيهم جاكوب ريس-موغ، منظّر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" الذي وصف سوناك بأنه "اشتراكي". (يسجل ريس-موغ نوعاً ما من الأرقام القياسية عن طريق تحوّله إلى شخصية أكثر سخفاً مع تقدمه في العمر)، كان سوناك مؤيداً للخروج من الاتحاد الأوروبي عندما لم يكن جونسون قد اتخذ موقفاً حاسماً في هذه المسألة، معتبراً أوروبا منطقة راكدة ومنعزلة في عالم سوف تزداد سيطرة عمالقة آسيا ودينامية أميركا على أركانه. كذلك فإن رئيس الوزراء القادم يتبنّى منذ عهد طويل رؤية الدولة صغيرة الحجم وسياسة تخفيض الضرائب. وفي سجال حول الموازنة العامة في يوليو 2015، أي بعد شهرين فقط من انتخابه عضواً بالبرلمان لأول مرة، أعلن أن "الإنفاق العام لا ينبغي أن يتجاوز 37% (من إجمالي الناتج المحلي) في الظروف العادية، فذلك هو أفضل تقدير قياساً على دخل الحكومة وبالتالي أفضل دليل يرشدنا إلى ما نستطيع أن نتحمل من إنفاق".
كان خلافه مع يمين حزب المحافظين يتعلق بالتوقيت والبراجماتية– ولا يتعلق بالرغبة في ترك النقود في جيوب الناس حتى تثمر. فقد فضّل ضخ "كمية كبيرة من الإنفاق الحكومي" أثناء تفشي وباء كوفيد حتى يمنع انهيار الطلب في الاقتصاد ("فهذا ليس وقت الأيديولوجيا والعقيدة الجامدة")، وعارض خطة ترَس التي جمعت بين تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق العام لأنه اعتقد أن ذلك سيصيب الاقتصاد بأزمة.
لذلك، فإن سوناك محافظ تقليدي من تيار ما بعد التاتشرية الذي يدعم ويؤيد نفس الأهداف التي يدعمها معظم أعضاء البرلمان الآخرين من حزب المحافظين، ولكنه أيضا من أنصار فكرة الحكومة الرشيدة.
شعبويون وقوميون متعصبون
هذه التركيبة سيكون لها تأثير جيد في الأسواق، التي لا تريد إلا الاستقرار بدلاً من الفوضى التي عمّتها في الأسابيع الأخيرة، وكذلك بين التكنوقراط في بروكسل وواشنطن ومناطق أخرى، الذين يعتبرون سوناك واحداً منهم.
غير أن صعوده يهدد بظهور توترات خطيرة وسط المحافظين. فهذا الحزب يضم داخله سلالة خطيرة من المتعصبين القوميين لإنجلترا. وفي مقابلة على راديو "إل بي سي" انتشرت كالنار في الهشيم، أعلن عضو بحزب المحافظين أنه يؤيد جونسون لأن سوناك من أنصار العولمة وله أصول هندية ولا يحب إنجلترا بنفس طريقة حب جونسون لها.
إن حقيقة احتفاظ سوناك ببطاقته الخضراء الأميركية عندما أصبح وزيراً للمالية وأن زوجته طالبت بوضعية الإعفاء من الضرائب زعما أنها ليست من المقيمين بالمملكة المتحدة تعطي ذخيرة قوية لموقف القوميين المتعصبين لإنجلترا، سواء من اليسار أو اليمين. غير أنها تنازلت عن هذه الوضعية منذ ذلك الوقت مثلما تخلى سوناك عن الإقامة الأميركية.
يضم الحزب أيضاً سلاسة أكثر عدداً من الشعبويين تشكو من حكم التكنوقراط والخبراء– وتستنكر القيود على الإرادة الشعبية، سواء فرضها القضاة أو المتعاملون في السندات. وقد تعززت قوة النزعة الشعبوية ونزعة التعصب القومي لإنجلترا بدرجة كبيرة بسبب سياسة البريكست نفسها التي دعمها سوناك لأسباب مختلفة تماماً.
لدى سوناك مؤيدون من مختلف أجنحة الحزب، يساره ويمينه، وعنده كذلك ميل إلى تفضيل النظام والعمل، غير أننا سننتظر حتى نتبين هل يستطيع حزب المحافظين في وضعيته الحالية –مصدوماً بعد البريكست، ومتمرساً على التمرد ومنقسماً على مبادئ جوهرية– أن يتعافى ويتصرف بعقلانية أم لا.