شهدت السنوات الثلاث الماضية أحداثاً كئيبة للغاية - جائحة كورونا، أعقبها غزو أوكرانيا -إلى درجة أصبحنا معها نميل للقول إنَّ الفترة التي سبقتها كانت بمثابة أيام مثالية. تماماً كما كان الوضع بالنسبة إلى الناجين من الحرب العالمية الأولى، والذين دفعتهم التجربة إلى تذكّر "الحقبة الإدواردية" (نسبة إلى الملك إدوارد السابع الذي حكم المملكة المتحدة بين 1901 و1910)، وكأنَّها عطلة نهاية أسبوع طويلة في أحد المنازل الريفية. ("هل تقف ساعة الكنيسة عند الساعة العاشرة أو الثالثة؟ وهل
مايزال هناك عسل للشاي؟"). لذلك؛ قد يرى من يراقب أوجاع أوكرانيا أنَّ عالم "ما قبل ووهان"، كان حافلاً بالسلام والازدهار. ومع ذلك؛ فقد كانت في الواقع حقبة من خيبة الأمل المستمرة، تخلّلتها أزمة عرضية.
اقرأ أيضاً: سنفتقد العولمة لدى زوالها
على مدى معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين، اعتمدت الدول المتقدّمة على نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأكثر من 2% سنوياً. وخلال الفترة بين عامي 2000 و2016، هبط معدل النمو هذا في أمريكا وأوروبا إلى النصف ليصل إلى 1% سنوياً، على الرغم من أسعار الفائدة المنخفضة والأرباح المرتفعة والطفرات التكنولوجية المذهلة.
اقرأ المزيد: لماذا تسعى دول للنأي بنفسها عن الحرب الباردة الجديدة؟
أعراض مروّعة
ترافق هذا التباطؤ مع مجموعة من الأعراض المروّعة، مثل انحسار المنافسة، إذ عززت الشركات العملاقة موقعها في قمة الاقتصاد العالمي، وتراجعت وتيرة إنشاء شركات جديدة، لا سيما الشركات ذات النمو المرتفع، فضلاً عن اندلاع أزمة مالية ضخمة، وارتفاع هوامش الربح بشكل مطّرد (أي الفارق بين تكلفة إنتاج السلع أو الخدمات وسعرها في السوق)، وشعور عام بالإرهاق، إذ يضطر الناس إلى الركض لمواكبة مستوى المعيشة بصعوبة أكبر من أجل البقاء على الواقع ذاته، مع ثقافة شعبية أعادت إلى ما لا نهاية الموضوعات والميمات المرهِقة ذاتها. وفي بعض الأحيان، بدا العالم المتقدّم أنَّه قد أنتج اقتصاد خدمات من دون أي خدمة فعلية، وفئة إبداعية من دون أي ذوق إبداعي، ونخبة معرفية ليس لديها سوى الجهل المطبق. الوضع كان أفضل من الحرب والطاعون، لكنَّه لم يكن يمثل الفردوس.
ينقسم طلاب ما يمكن وصفه بـ"خيبة الأمل الكبيرة" إلى معسكرين. روبرت غوردون مثلاً؛ يُرجع معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة بالأمس إلى أنَّها تحققت نتيجة المكافأة التكنولوجية التي لن تُنتج مرة أخرى، في حين يعترض كلٌ من إريك برينيولفسون وأندرو مكافي على أنَّ معدلات النمو المنخفضة خلال الفترة من 2000 إلى 2016 كانت ظاهرة مؤقتة، فقد تراجعت التقنيات الجديدة، وتأهبت لإطلاق العنان لمعجزاتها في زيادة الإنتاجية. وعلى غرار حال الكهرباء التي لم تحدث ثورة في التصنيع حتى عشرينيات القرن الماضي، عندما أعيد تنظيم المصانع؛ فإنَّ منظومة الكمبيوتر المدعومة بالإنترنت، ما تزال تنتظر إحداث ثورة في الاقتصاد الحقيقي.
معسكر ثالث
أما المعسكر الثالث، فقد ظهر من خلال كتاب جديد رائع، قام بتأليفه جوناثان هاسكل، من "كلية لندن الإمبراطورية"، وستيان ويستليك، الرئيس التنفيذي لجمعية الإحصاء الملكية البريطانية، ويتناول فكرة التفاؤل المشروط. فالكتاب الذي جاء بعنوان: "إطلاق العنان للمستقبل مجدّداً: سبل إصلاح الاقتصاد غير المادي"، يشير إلى أنَّنا نشهد ولادة نوع جديد من الاقتصاد يعتمد على الأصول غير المادية، وليس على الأشياء التي يمكنك لمسها. في يوم من الأيام، كانت الشركات تستثمر غالباً في رأس المال المادي، أي الآلات، والمباني، والمركبات، وأجهزة الكمبيوتر. أما استثمارات الأعمال اليوم فتتجه في معظمها إلى أشياء غير قابلة للمس، مثل البحث، والتطوير، والعلامات التجارية، وأنظمة الإدارة، والبرمجيات. وبدلاً من الاعتماد على العاملين اليدويين بالأمس، والأشخاص الحاصلين على درجات علمية من المدارس الفخمة؛ نجد الشركات الثرية في مجالات الأنشطة غير الملموسة، تهيمن على أسواق الأسهم العالمية.
شركات عملاقة
بلغت القيمة السوقية لشركة "أبل" في عام 2018 حوالي تريليون دولار. لكن 9% فقط من الشركة كانت تحتسب كأصولٍ مادية، مثل المباني والسيولة النقدية. وتوزّعت النسبة المتبقية بين مجالات البحث، والتطوير، والتصميم، والسُمعة، وتوطيد العلاقات بعناية مع مورّديها. وفي هذا الصدد، افترض باروخ ليف من جامعة نيويورك، وفينغ غو من جامعة مدينة نيويورك، أنَّنا نشهد "نهاية المحاسبة" لأنَّ الحسابات المالية الرسمية لا تخبرنا كثيراً عن القيمة السوقية للشركات المدرجة.
يرى هاسكل وويستليك أنَّ سبب الكساد الكبير، هو أنَّنا نحاول إدارة اقتصاد غير مادي وفقاً للقواعد المتّبعة في الاقتصاد المادي، على غرار البداية البطيئة للثورة الصناعية، لأنَّ المؤسسات المصمّمة لتناسب المجتمع الإقطاعي اعترضت طريقها. تتطلب الشركات العاملة بشكل مكثف في المنتجات والخدمات غير المادية، رؤوس أموال لتثبيت أنظمة الكمبيوتر هذه، وتوظيف الخريجين الأذكياء والمفعمين بالحماس والطاقة. لكنَّ البنوك تطلب بصورة روتينية ضمانات مادية لتأمين استثماراتها على شكل مبانٍ وآلات.
تستفيد الشركات التي تركّز على الأنشطة غير المادية من قربها لبعضها في المدن المزدحمة، لأنَّ ذلك يجعل من السهل مطابقة الفرص مع عدد العمال، وتآلف الأفكار معاً في مجموعات جديدة ("المدن هي المكان الذي تتزاوج فيه الأفكار"، على حد وصف مات ريدلي في عبارته الشهيرة). لكنَّ مزيجاً من ارتفاع أسعار المساكن والقواعد الناظمة، جعل من الصعب للغاية العثور على أماكن للعيش أو مكاتب للإيجار، حتى قبل تفشي الوباء، إذ توقّفت عدّة من المدن الأكثر جاذبية عن التوسع، مثل باريس، ولندن، ونيويورك. وعلى عكس الحكمة الشعبية؛ فقد أصبح الأمر الآن أقل احتمالاً بأن ينتقل الناس من مكان إلى آخر، أو من عمل إلى آخر، مقارنة بما كانوا عليه قبل ثلاثة عقود.
المتطفلون
يستغل جيش متزايد من المتطفلين أيضاً فشل المنظومة التشريعية في اللحاق بركب التطورات بالعالم الجديد. فالمحتالون على براءات الاختراع يكسبون عيشهم من ادّعاء ملكية أصول غير مادية يصعب تحديدها بشكل دقيق؛ فقد قضى مالكو شركة "ريسيرش إن موشن" (Research in Motion) المصنّعة لهواتف "بلاكبيري" ست سنوات، ابتداءً من عام 2000، في دعوى قضائية مكلفة مع "إن تي بي" (NTP)، والتي يبدو أنَّها ضالعة في استغلال قوانين براءات الاختراع، ودفعت الأولى مبلغ تسوية للثانية يبلغ 612.5 مليون دولار. وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ربما شكّلت مصاريف التقاضي في قضايا براءات الاختراع 14% من إجمالي تكاليف البحث والتطوير. أما شركة "إن آي إم بي واي" (NIMBY)؛ فقد جعلت عملية إعادة التطوير في المدن باهظة التكلفة، وتستغرق وقتاً طويلاً لدرجة أنَّه من المفارقة أنَّ إنشاء أي شيء أصبح يقتصر على الشركات متعددة الجنسيات مجهولة الهوية دون غيرها.
حلول بديهية وإبداعية
يطرح هاسكل وويستليك توليفة من الحلول البديهية والإبداعية للمشكلة التي يحدّدانها. وتشمل الحلول المنطقية، وتسهيل تصاريح التخطيط في المدن، وتخفيف قواعد براءات الاختراع لجعل الاحتيال عليها أكثر صعوبة، والاستثمار بشكل أكبر في السلع العامة مثل البحث العلمي الأساسي والتدريب التقني. أما الحلول الإبداعية؛ فهي عملية إنشاء جهة تنظيمية ذات مهام وصلاحيات فائقة، تتمثل وظيفتها في إعطاء الضوء الأخضر، على سبيل المثال لمدة خمس سنوات، للشركات الجديدة التي تتعارض نماذج أعمالها مع التشريعات الحالية، والتي ستشكّل نموذج "أوبر"، ونموذج"إير بي إن بي" المستقبليين. مشكلة الحلول البديهية هي أنَّنا نسلّم بها جميعاً، حتى يصبح الشارع الذي نعيش فيها هو المهدَّد بإعادة التطوير. أما مشكلة الحلول الإبداعية، فهي أنَّ القليل من الناس بعيداً عن مهنة الاقتصاد، يمكنهم استيعابها.
يواجه هاسكل وويستليك أيضاً، إشكاليتين كبيرتين تتعلقان بالجانب الهيكلي، وتعترضان طريق مخاض العالم الجديد. الأولى: تتمثل في جوهر الاقتصاد غير المادي؛ إذ من الصعب تحديده، ناهيك عن قياسه وتقييمه. وجدتُ نفسي أخيراً أسيرُ في سوهو عند الساعة 2:30 بعد الظهر في يوم مشمس نادر. كانت المطاعم مليئة بأنماط إبداعية تستمتع بها. فهل كانت تنتج أفكاراً جديدة رائعة للأعمال الدرامية التي تُعرض على تلفزيون "بي بي سي"، أم مجرد لهو؟ وماذا كنتُ أفعل أثناء التنزه في يوم عمل؟ أكتب عموداً من بنات أفكاري، أم هو مجرد استمتاع بالشمس؟
الركّاب بالمجان
أدت معضلة "الركّاب بالمجان" إلى اضطراب أنظمة القياس والتقييم. ومع ذلك؛ فهذه ليست مشكلة مضيّعة للوقت فحسب، إذ أمضى صديق أكاديمي لي أخيراً فترة في شرح "الغرض" من بحثه في شكل إلكتروني فقط، ليواجه سؤالاً ثانياً يطالبه بشرح "أهدافه"، ولكن يمكن أيضاً في كثير من الأحيان أن تأتي هذه المشكلة بنتائج عكسية. سيركز الأشخاص الذين يخضعون للإشراف على الأشياء القابلة للقياس، حتى لو لم يضيفوا أي قيمة. ولا يبدو أنَّ أي قدر من القياس يتعامل مع المشكلة الأكبر؛ وتتمثل في تنامي المهن التي من المرجح أن تكون مدمّرة للقيمة أكثر من خلق القيمة، كالإداريين الأكاديميين ومتخصصي الموارد البشرية. وبحسب ما كتب عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر في كتابه الكلاسيكي "وظائف تافهة" (Bullshit Jobs)، "من خلال بعض الكيمياء الغريبة"، يتزايد عدد شاغلي الوظائف تافهة القيمة الذين يتقاضون أجوراً بشكل مرعب، حتى في الوقت الذي تقع مسؤولية تسريح الموظفين، وتسريع وتيرة الأداء على عاتق الأشخاص الذين يصنعون الأشياء، ويحركونها، ويحافظون عليها.
الديموغرافيا
ثم هناك مشكلة الديموغرافيا. يذكّرنا كتاب جديد آخر، كتبه بول مورلاند، بعنوان: "شعب الغد: مستقبل الإنسانية في عشرة أرقام" بمدى الكآبة التي أصبحت طاغية على وضعنا الديموغرافي. ليس من قبيل المصادفة أنَّ الدولة التي قادت العالم إلى ركود طويل الأمد، هي أيضاً الدولة نفسها ذات متوسط العمر الأكبر. تزيد أعمار 28% من اليابانيين على 65 عاماً، وهي نسبة ستصل إليها إيطاليا في عام 2030، وألمانيا في حوالي عام 2035، والصين في حوالي عام 2050. (إحدى الحقائق الكثيرة المحبطة التي يرصدها هذا الكتاب هي مضاعفة أعداد "جنازات الصحة العامة" في هامبورغ خلال الفترة بين عامي 2007 و2017، والتي قامت الدولة خلالها بتنظيم الجنازات وسداد مصروفاتها نظراً لعدم وجود أقارب على قيد الحياة). فالشيخوخة لا تضغط على مستويات المعيشة فحسب، من خلال تقليل عدد العاملين نسبة إلى المتقاعدين، فهي تقلص المعروض من "الأحياء" في الاقتصاد، إذ يفوق عدد الأشخاص الذين يتّبعون الأنماط السلوكية نفسها على عدد الشباب ومن هم في مراحل التجريب، ومن المحتمل أن تؤجج الشيخوخة معدلات التضخم، إذ تتطلّب قوة العمل المخفّضة أجوراً أعلى. وأقوى التحالفات السياسية في البلدان الغنية هي التي تضم أشخاصاً مصنّفين بأنَّهم في سن الشيخوخة؛ وهم كبار السن من أصحاب المنازل، فضلاً عن مستهلكي المعاشات التقاعدية الذين لا يريدون أي شيء يزعج حياتهم الشبيهة بحياة شخصيات قصار القامة الخرافية "هوبيت" (Hobbit). حتى فلاديمير بوتين اضطر إلى التراجع عندما قرر رفع سن التقاعد.
قوانين معرقلة
مع ذلك؛ فإنَّ كتاب "إطلاق العنان للمستقبل مجدّداً" مهم، ويستحق النقاش على نطاق واسع. أما مفهوم "التفاؤل المشروط" فهو موقف أكثر صحة بالنسبة إلى العالم من الفرضية الحتمية لـ روبرت غوردون، أو هو تفاؤل برينيولفسون ومكافي "في انتظار غودوت". يحدد هاسكل وويستليك المشكلات التي يتعيّن معالجتها، حتى لو لم تكن حلولها مقنعة دائماً. إنَّ إظهار أنَّ قوانين التخطيط البلهاء تعرقل الديناميكية الاقتصادية، وتقييم الناس وفق أسعار منازلهم ما هو إلا إضافة إلى الحاجة الملحة لمعالجتها. كما أنَّها تسلط الضوء على بعض الحلول الناشئة. والمثال الأبلغ على ذلك يتمثل في صناعة رأس المال الاستثماري التي تطورت للاستثمار في المجالات غير المادية (مثل البرمجيات، والحوسبة، وخدمات الإنترنت، والأدوية) التي تجنّبها المصرفيون التقليديون. يعكف رواد الأعمال على تجربة التمويل الجماعي، في حين تسهم شركات "الشيك على بياض" في تسهيل طرح الشركات الجديدة للاكتتاب العام.
تسريع الابتكار
المأساتان اللتان بدأت بهما هذه المقالة قد تسرّعان أيضاً من الانتقال إلى اقتصاد أكثر اتساماً باللامادية والمنفعة. فقد أظهر التطور السريع لإنتاج اللقاحات الجديدة أنَّه يمكن تسريع الابتكار بشكل كبير إذا ركّزنا جهودنا المعرفية المشتركة في هذا الاتجاه، تماماً كما أظهر شراء بريطانيا السريع للقاحات كيف يمكن للحكومة أن تقدّم أداءً جيداً إذا قمت بتمكين الأشخاص المناسبين. كما أنَّ غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا يضفي جدّية جديدة في صنع السياسات الاقتصادية، لأنَّ تسريع الابتكار يمكن أن يصبح مسألة كسب حرب جديدة، وليس مجرد هروب من الركود. ويستند كلٌ من هاسكل وويستليك في جدليتهما إلى أنَّ الدول التي تبذل قصارى جهدها في التكيّف مع صعود الاقتصاد غير المادي، مثل إسرائيل، وتايوان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وفنلندا، لديها حساسية استشعار هدفها القومي والتهديد الخارجي القوي. وربما قدّم بوتين عن غير قصد للغرب ما يحتاج إليه بالضبط، ليس لحل مشكلة هويته فحسب؛ ولكن بشأن الركود المستمر منذ عقدين أيضاً.