يندر أن تأتي المبالغة في تقدير تأثيرك على أسواق الطاقة بخير. حين حظرت دول منظمة الدول المصدرة للبترول العربية تصدير النفط إبان حرب أكتوبر 1973، سارعت الدول المستوردة لتنمية حقول النفط المحلية وتطوير مصادر الطاقة البديلة، فترتب على ذلك أكبر انخفاض باستهلاك النفط في تاريخ العالم.
تمثل هذه الحقيقة تهديداً خطيراً لروسيا إذا سعت بدورها لاستغلال موقفها كمورد للطاقة كرافعة جيوسياسية بعد هجومها الخميس على أوكرانيا.
رغم ارتفاع أسعار الغاز واختراق النفط مستوى 100 دولار للبرميل وما قد يوحي به ذلك من امتلاك روسيا زمام الأمور، قد يثبت أن تأثير تلك الزيادة عابر. يرجع ذلك إلى أن اعتماد روسيا على زبائن نفطها الأوربيين أكثر بكثير من احتياج أوروبا لبترولها.
استهلكت أوروبا نحو 465 مليار متر مكعب تقريباً من الغاز في 2020، أتت 169 مليار متر مكعب منها من خطوط الأنابيب وموانئ الغاز الطبيعي المسال الروسية، أو ما يزيد على ثلث الكمية الإجمالية. قد يبدو من ذلك أن ذراع أوروبا تلويها موسكو، غير أن الاعتمادية أكبر من ذلك بكثير على الضفة الأخرى، إذ أن أوروبا تستقبل ما يزيد على 70% من صادرات الغاز الروسية.
تتمتع أوروبا بميزة إضافية أخرى تنبع من انتشار سلسلة من جزرها على حافة المحيط الأطلسي التي يتيح لها بسهولة تنويع مصادر طاقتها نسبياً عبر اللجوء للسوق العالمية للغاز الطبيعي المسال.
رخيصة واعتمادية؟
تباطأت القارة في استخدام هذه الوسيلة على مدى العقد الماضي، وكان ذلك جزئياً بسبب أنها كانت تنتظر من روسيا أن تثبت أنها موردة طاقة اعتمادية وقليلة التكاليف.
تستطيع موانئ الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة استقبال 196 مليار متر مكعب إجمالاً من الغاز سنوياً، وفق تقديرات "الاتحاد الدولي للغاز"، وهو ما يعادل تقريباً ما تستطيع موانئ كوريا الجنوبية استقباله أو نحو ثلثي طاقة موانئ اليابان.
ما يزيد الطين بلة، هو أن هذه الطاقة الاستيعابية لا تستغل كاملةً إلا فيما ندر. فقد سجلت الواردات 89 مليار متر مكعب في 2020 تاركة أكثر من نصف الطاقة التشغيلية معطلة.
إن استغلال الطاقة الاستيعابية في مختلف أنحاء القارة بنسبة 90% أو نحو ذلك كما هو شائع في مناطق أخرى مثل الصين وبلجيكا وإيطاليا قد يضاعف إجمالي الواردات تقريباً.
حدث هذا فعلاً في الأسابيع الأخيرة، بعدما تسبب ضعف توريدات الغاز الفورية عبر خط الأنابيب من روسيا لانخفاض مخزون أوروبا إلى مستوى يستدعي القلق.
حلقت واردات الغاز أثناء يناير حتى بلغت نحو 100% تقريباً من الطاقة الاستيعابية، وفق حسابات شركة الاستشارات "ريستاد إنيرجي" (Rystad Energy)، وجاءت 56% من هذه الواردات من الولايات المتحدة وحدها.
شح الشحنات
يسهل الكلام عن استمرار معدل الاستيراد ذاك بينما يصعب تنفيذه، حيث إن معظم شحنات الغاز الطبيعي المسال في المحيط متعاقد عليها فعلاً. كما تسببت أوضاع الاقتصاد العالمي بوجه عام بنقص المعروض بالأسواق، لذا لا يوجد إلا قليل جداً من شحنات الغاز الثمينة الزائدة لإعادة ملء الخزانات في أوروبا. قد تحتاج القارة لبناء مزيد من المخازن في المدى الطويل كي تحافظ على استمرار التوريد إلى محطات الإمداد بالغاز خلال شهور الصيف لدى انخفاض الطلب.
لكن لا يستحيل حل أي من هذه المشاكل في المدى المتوسط. يستغرق بناء محطات إسالة الغاز الطبيعي نحو ثلاثة أعوام، وهناك مشروعات تنتظر تصديقاً على استثماراتها وهي تكفي لتوفير نحو 1213 مليار متر مكعب في الأسواق العالمية، وفق تقديرات "الاتحاد الدولي للغاز".
أسعار غاز أوروبا تقفز 41% عقب هجوم روسيا على أهداف أوكرانية
لا يوجد أمام روسيا في المقابل إلا خيارات محدودة في تجارتها، فصادرات الغاز الكبيرة عبر الأنابيب خارج أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، تمر في خط أنابيب "باور أوف سيبيريا" (Power of Siberia) الذي يرسل الغاز للصين من حقول معزولة قرب بحيرة "بيكال" منذ 2019.
خط الغاز اللاحق، وهو "باور أوف سيبيرا 2"، سيكون أكثر أهمية بإتاحته للحقول الواقعة على شواطئ المحيط المتجمد الشمالي التي تستخدم بإمداد أوروبا بالغاز خطاً بديلا للتصدير إلى الصين.
إقلاق بكين
لكن إن هددت موسكو إمدادات الطاقة لأوروبا حالياً، فسيساور القلق بكين، حيث إن حكومتها أكثر هوساً بكثير حيال تأمين مصادر الطاقة. يبين هذا مدى حرص شركة "غازبروم" على تأكيد أنها تغطي جميع التزاماتها التعاقدية في أوروبا.
فيما توجد سبيل أخرى لتصدير الغاز الطبيعي المسال بالعموم، إلا أن أحوال الطقس القاسية تتطلب أسطولاً من الناقلات كاسحة الجليد لتنقل الغاز من موانئ روسيا الشمالية، ما يعني أنها لن تكفي أبداً لتحل مكان التصدير عبر خطوط الأنابيب.
قد لا يأتي التهديد الأكبر لصادرات روسيا من موردي الوقود الأحفوري المنافسين، بل من مصادر الطاقة المتجددة.
ستقتضي خطة الاتحاد الأوروبي تخفيض انبعاثات الكربون بنسبة 55% بحلول 2030 تحولاً سريعاً من استخدام الوقود الأحفوري. قد يؤدي ذلك لخفض طلب الاتحاد على الغاز في 2030 من 392 مليار متر مكعب حسب سيناريو الوضع الراهن لدى "الوكالة الدولية للطاقة" إلى نحو 315 مليار متر مكعب.
سينتج جزء من ذلك عن تخفيض توليد الكهرباء باستخدام مولدات الغاز بنسبة 20%، التي تتوقعها وكالة الطاقة الدولية في تلك الأوضاع، إلا أن التغيير سيشمل جوانب أخرى.
أعلنت المملكة المتحدة في أكتوبر رصد 3.9 مليار جنيه إسترليني (5.3 مليار دولار) بهدف نزع انبعاثات الكربون من مصادر التدفئة والمباني وإلغاء تركيب الغلايات التي تعمل بالوقود الأحفوري بحلول 2035.
تسريع النهاية
قد يختصر تحويل هذه الاستخدامات التي تحتاج لحرارة منخفضة بالاعتماد على المضخات الحرارية وتقنيات أخرى منخفضة الكربون نحو 48 مليار متر مكعب من الطلب الصناعي على الغاز في أوروبا خلال عقد، بحسب تقديرات أنوك أونوريه من "معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة".
لن يكون سهلا استخدام الكهرباء في الصناعات التي تحتاج درجة حرارة مرتفعة، غير أن الهيدروجين الأخضر الذي ينتج عن تفتيت جزيئات الماء باستخدام الطاقة المتجددة سيحل هذه المشكلة.
تتحدث استراتيجية الاتحاد الأوروبي لاستخدام الهيدروجين عن إنتاج ما يصل إلى 10 ملايين طن سنوياً بحلول 2030، أي ما يعادل نحو 34 مليار متر مكعب. يُتوقع أن يزيد حجم استخدام هذه التقنية بصورة كبيرة بعد ذلك. أضف كل هذه العوامل إلى بعضها فتدرك كيف أن أوروبا تستطيع أن تتخلص من الحاجة للغاز الروسي تماماً.
لن يأتي أبداً وقت أفضل من الوقت الحالي تستطيع فيه روسيا أن تحصد العوائد الجيوسياسية لصادراتها النفطية، لكن ينبغي أن تتلقى روسيا هذه الحقيقة على المستوى المحلي بقلق وليس بروح انتصار. حيث يسير العالم نحو الخروج من عصر الوقود الأحفوري. استهتار موسكو باستخدام البترول كرافعة سياسية لن يساهم إلا بتسريع وتيرة هذا الخروج.