في مذكراته الرائعة التي صدرت عام 1941 بعنوان "عالم الأمس" (The World of Yesterday)، يروي شتيفان تسفايغ الحالة المزاجية المتفائلة لأوروبا قبل عام 1914، عندما بدا أن الحضارة البرجوازية في ازدهار دائم.
كانت الأعاجيب التكنولوجية مثل منطاد "زبلين" تملأ الجميع بالأمل في مستقبل بلا حدود. كتب تسفايغ بطريقة مؤثرة: "كنا لا نزال نشعر بعدم الارتياح إلى حد ما عندما دوّت الطلقات في البلقان". لكن ما ظن هو وأصدقاؤه أنه لون الفجر الأحمر كان حقاً ضوء لنار حريق دولي قادم.
تكرار الخطأ
نحن نواجه خطر ارتكاب نفس الخطأ مرة أخرى. قال فريد زكريا، مؤلف الكتاب الذي يحمل نبوءات، وصدر في عام 2003، تحت عنوان "مستقبل الحرية الديمقراطية غير الليبرالية في الداخل والخارج": "كفانا التحدث عن ضعف الديمقراطية... دعونا نتحدث عن نقاط قوتها".
بينما يشير مايكل أبراموفيتز، رئيس "فريدوم هاوس"، وهي منظمة يصعب خلال السنوات الأخيرة اتهامها بالإفراط في التفاؤل: "الوقت والتاريخ ليسا في جانب الديكتاتوريين".
من السهل معرفة سبب وجود الكثير من الابتهاج إذ ارتكب قائدا "الفريق الأوتوقراطي" - فلاديمير بوتين وشي جين بينغ - سلسلة من الأخطاء الجسيمة، واستنزف غزو بوتين لأوكرانيا خزينته ومصداقيته. وبالمثل، فعلت حرب شي على كوفيد.
هزيمة روسيا استراتيجياً في الحرب "نظرية حالمة"
كذلك يتلاشى بريق دونالد ترمب، وفقاً لاستطلاع جديد أجرته صحيفة "يو إس إيه توداي"، و"جامعة سافولك" إذ قال 61% من الناخبين الذين ينتمون إلى "الحزب الجمهوري" أو يميلون إليه إنهم يفضلون شخصاً آخر ليكون مرشح الحزب في عام 2024. بينما لم يخسر البرازيلي جايير بولسونارو الانتخابات فحسب، بل التزم بنتيجتها.
تحديات الديمقراطيات المتقدمة
في ظل تودد إيمانويل ماكرون إلى جو بايدن، وكتابة أولاف شولتس مقال في الإصدار الجديد من مجلة "فورين أفيرز" واعداً بأن ألمانيا ستفعل المزيد وتنفق المزيد للدفاع عن النظام الدولي، يبدو أنه لدى قادة التحالف الغربي قوة أكبر مما كان لديهم منذ سنوات.
مع ذلك، فإن العديد من هذه الإشارات مفتوحة لتفسير مختلف. أظهر غزو بوتين لأوكرانيا مدى اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، ولا يزال من الممكن أن يسقط سلاح الطاقة الذي تمتلكه موسكو الحكومات الغربية. لقد تخلى شي عن سياسته "صفر كوفيد" في ضوء الاحتجاجات الشعبية، مما يشير إلى أنه قادر على اتباع نهج مرن عندما يكون في موقف صعب وبخيارات محدودة.
أجندة بايدن الاقتصادية بحاجة إلى تجديد يواكب التطورات
جعلت رئاسة ترمب الزعماء الأوروبيين لا يثقون – بشكل مشروع - في قدرة أميركا على البقاء زعيمة للعالم الحر؛ لكن ذلك كان أيضاً بمثابة أخبار جيدة للمصممين الجادين للشعبوية المحافظة. لقد مهد عصر النظام الدولي القائم على القواعد الطريق لعصر جديد من سياسات القوى العظمى.
انظر إلى الأنماط الأعمق وتجد أن الوضع أسوأ بالنسبة لليبرالية. توقفت مسيرة الديمقراطية التي اتسمت بها حقبة ما بعد الحرب - والسرعة التي اكتسبتها تلك المسيرة مع انهيار الشيوعية - توقفاً مروعاً.
يحسب لاري دايموند من جامعة "ستانفورد" أن النسبة المئوية للبلدان (التي يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة) التي تعد ديمقراطيات بلغت ذروتها عند 57% في عام 2006، وانخفضت إلى أقل من الأغلبية (46%) في عام 2019.
تظهر استطلاعات "مركز بيو للأبحاث" باستمرار أن نسبة كبيرة من الجمهور في البلدان الديمقراطية غير راضية وتريد إصلاحاً سياسياً جوهرياً: قال 56% في 17 دولة إن أنظمتهم بحاجة إلى إعادة تأهيل كبرى أو كاملة.
كان التراجع مقلقاً بشكل خاص في مكانين: الولايات المتحدة، أكبر مناصرة للديمقراطية على مدى معظم تاريخها، والهند، أكبر ديمقراطية في العالم.
حتى لو كان بريق ترمب يتلاشى - ولا ينبغي لنا أبداً أن نقلل من قدرته على التجدد - فإن سقوطه لن يزيل المشاكل التي أوجدت "الترامبية" في المقام الأول. أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته شبكة "سي إن إن" خلال انتخابات التجديد النصفي الأميركية أن 93% من الناخبين الجمهوريين، و60% من جميع الناخبين، يعتقدون أن بايدن لم يتم انتخابه بشكل شرعي، وأن 75% يعتقدون أن الديمقراطية في خطر "إلى حد ما" أو "للغاية".
هل يوشك الجمهوريون والشركات الكبرى على الانفصال؟
بينما أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" في وقت سابق من العام الجاري أن نسبة ضئيلة من المستجيبين لديهم ثقة متوسطة إلى عالية في المؤسسات الحيوية: 25% في المحكمة العليا، و16% في الصحف، و7% في الكونغرس.
تراجع الديمقراطية في الهند
نجح رئيس الوزراء ناريندرا مودي في تسطيح معظم المؤسسات الليبرالية في الهند باسم الأغلبية الهندوسية، وحشد تأييد السلطة القضائية واللجنة الانتخابية، وترهيب وسائل الإعلام، ونشر السلبية بين الأقليات.
جحافل القوميين الهندوس - الرجال الذين يسيرون في مواكب في الشوارع مرتدين الزي الرسمي ويطلقون هتافات مروّعة - تثير الرعب في خصومه. وتصبح هوية الهند بشكل متزايد هوية قوة قومية هندوسية متشددة، بدلاً من كونها من الدعاة للقيم الديمقراطية الليبرالية.
استنساخ النموذج الصيني لن يخفف تباطؤ اقتصاد الهند في 2023
لطالما كان لدى الليبراليين ميل متفائل للاعتقاد بأن مسار التاريخ ينحني لصالحهم، وأن مسيرة التقدم ستؤدي إلى تراجع الشعبوية الاستبدادية، التي تعتمد على التقاليد القديمة (الاستبداد الروسي، على سبيل المثال) أو التحيّز القديم (كره الأجانب).
التقدم الشعبوي
رغم ذلك، فإن العديد من السمات المركزية للحداثة تدفع بعودة اللاليبرالية. تُسهّل العولمة على الأنظمة الاستبدادية تصدير الفساد إلى العالم الحر. مثل هذا الفساد لا يتخذ فقط شكل دكتاتوريات مُشابهة ورجال أعمال مراوغين يختلسون الأموال. تعمل بعض المؤسسات الأكثر شهرة في الغرب، ليس أقلها في المملكة المتحدة، كخادمين للمال: المحامون، والمعلمون، ووكلاء العقارات يتملقون للأوليغارشية المرتبطة بالسياسة، وأزكت وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الكابل التلفزيونية الانقسام ونشر المعلومات المضللة.
كتب المراسل الإعلامي السابق لشبكة "سي إن إن" براين ستيلتر في كتابه "الخدعة": "(فوكس نيوز) كانت محطة الوقود حيث توقف ترمب لملء خزّانه بالاستياء". بغض النظر عن مستقبل ترمب، تظل "فوكس نيوز" شبكة مركزية لوسائل الإعلام الأميركية.
مكافحة المعلومات المضللة عن لقاحات "كوفيد" يجب أن تستمر
حتى الديمقراطية نفسها يمكن أن تثبت أنها العدو الأكثر فاعلية للديمقراطية الليبرالية: لقد أتقن القادة ذوو العقلية الاستبدادية، لا سيما الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، ورئيس الوزراء فيكتور أوربان في هنغاريا، فن استخدام الأغلبية (أو وهم الأغلبية) لتقييد حقوق الأقليات، وتقييد المنافسة السياسية، وإزالة القيود المفروضة على ممارستهما للسلطة بشكل عام.
قوى مناهضة الليبرالية لديها ما يدعمها
لدى القوى المناهضة لليبرالية الكثير من المحتوى المتاح لدعم قضيتها. إذ يبدو أن اقتصادات العالم الديمقراطي المتقدم قد فقدت القدرة على النمو بأي طريقة مستدامة، مما قلص تمويل الرفاه الاجتماعية الذي يعتبره مواطنو تلك الدول أمراً مفروغاً منه، كما أن تدفق اللاجئين من البلدان الفقيرة يضع ضغطاً متزايداً على العالم الأغنى بينما يستنزف الرغبة في التعاطف الشعبي.
يرسل الخليط بين أزمة الطاقة والطلب المكبوت بسبب كوفيد موجة من التضخم عبر العالم الغني ينتج عنها مطالب برفع الأجور، وإضرابات، وإحساس عام بأن الأشياء لم تعد تعمل كما يجب. المملكة المتحدة، التي قادت العالم للخروج من الأزمة بانتخاب مارغريت تاتشر عام 1979، ها هي تقوده مرة أخرى – لكن إلى الوراء.
أشعل الشعبويون النار في هذه المادة القابلة للاشتعال، فهم يعرفون كيفية الاستفادة من شكاوى الناس بشأن الظروف الاقتصادية، والتحولات الديموغرافية، والتغير الاجتماعي السريع، وهم يعرفون كيف يعيدون إلى الذاكرة صور عصر ضائع من الانسجام والتقدم الخيّر، ويعرفون أيضاً كيفية استخدام بؤر التوتر - اللاجئون المقيمون في الفنادق أو العصابات التي تقتل المتقاعدين - لاستقطاب الرأي العام.
تعبئة بوتين للجنود تكشف أنه يخسر
إن التوتر بين حاجة الغرب لاستيراد المهاجرين للتعويض عن انخفاض معدل المواليد، وخوفه من فقدان هويته المميزة، سيزود الشعبويين بوقود أكثر من أي وقت مضى. كما أن عقيدة المحافظة الوطنية الناشئة - بجاذبيتها للحمائية، والاستياء الشعبي من النخب، والهوية المفقودة - يمكن أن توفر لليمين في حقبة ما بعد ترمب صيحة حاشدة وجدول أعمال.
ابتعاد الليبرالية عن الجماهير
في الوقت نفسه، فقدت الليبرالية لمستها الشعبية. أصبحت الفكرة التي صاغها راديكاليون شجعان في القرن التاسع عشر عقيدة نخب اليوم الميسورة (التي غالباً ما تتعامل مع الذات). لقد انقسمت الليبرالية إلى فرعين، لا يتمتع أي منهما بجاذبية شعبية كبيرة.
هناك الليبرالية الجديدة، التي تستهوي التكنوقراط لكنها في حالة ارتباك متزايدة بسبب المشاكل التقنية، ليس أقلها مشكلة استعادة النمو.
البولنديون لا يستطيعون العيش مع الألمان ولا بدونهم
ثم هناك الليبرالية اليسارية، التي تتملّق غرور النخبة المثقفة حتى وهي تتعامل مع الجماهير على أنهم متعصبون وأغبياء، كما أنها تخلت عن الأفكار – الإطاحة بالقيادات الميسورة، ووضع الصالح العام فوق المصالح الطائفية - التي أعطتها ذات مرة مثل هذا الجاذبية الواسعة. بدون محاولة جادة لإحياء روح الليبرالية الراديكالية والإصلاحية، فإن الأفضلية ستكون بحوزة الشعبويين.
لا لفقدان الأمل
دعونا لا نفقد الأمل: لا يزال النظام العالمي الليبرالي أكثر جاذبية من الشعبوية المحافظة. لكن دعونا لا نرتكب خطأ الكاتب تسفايغ ومعاصريه ونفترض أن التوهج الأحمر في الأفق سيكون فجراً.
خمس أفكار تعيد تشكيل القرن القادم للرأسمالية
استعاد الكاتب تفاؤله بعد عام 1918، وأصبح أحد أنجح مؤلفي فترة ما بين الحربين العالميتين. لقد استمتع بعودة المجتمع الأممي والليبرالية والتجريب الفني، لا سيما في جمهورية فايمار التي كانت قائمة في ألمانيا، ثم انهار كل شيء مرة أخرى، إذ حطمه زميله في المواطنة النمساوية أدولف هتلر.
هرب تسفايغ من قصره في سالزبورغ ليسكن في غرفة واحدة في لندن، وحاول عبثاً تحذير البريطانيين ذوي الفكر المهادن من التهديد النازي، ثم هرب مرة أخرى إلى أميركا اللاتينية. في فبراير 1942، عندما أشتعل حريق هتلر في جميع أنحاء أوروبا، قتل تسفايغ وزوجته نفسيهما بموجب اتفاق انتحار في البرازيل.