من بين الأمور القليلة التي يمكن أن يتفق عليها الأمريكيون في عصر الاستقطاب الحالي عديم النتيجة، سواء كانوا من الجمهوريين أو الديمقراطيين؛ هو هذا التحوّل الحاد للشباب نحو اليسار. وليس المقصود هنا، تلك النزعة نحو الليبرالية والتحرر وعدم المبالاة تجاه المال التي نجدها لدى صغار السن، بل يشمل أيضاً التحول الأكثر عمقاً وفلسفة، نحو تبني مبدأ "سيطرة الدولة". في مقالي الأخير، اقتبست - بتكاسل إلى حد ما - من استطلاعات الرأي، التي أظهرت أنَّ حوالي 40% من الشباب الأمريكيين، يفضّلون الاشتراكية على الرأسمالية.
اقرأ أيضاً: الاشتراكية والرأسمالية.. من ينقذ مناخ الكوكب؟
هذا الاعتقاد بانجراف الشباب نحو اليسار، له تداعيات مهمة. يبرر الناشطون الجمهوريون مسألة احتضانهم لكبار السن المتذمرين، بالقول إنَّ الشباب "قضية خاسرة". (تشير الإعلانات على برنامج "تاكر كارلسون الليلة" إلى أنَّ الجمهور بلغ حالة متقدمة من التحلّل المادي). ويبرر نظراؤهم من الديمقراطيين، تحولهم الاقتصادي والثقافي نحو اليسار، بأنَّهم يجارون توجهات ناخبي المستقبل. أما الرؤساء التنفيذيون في الشركات؛ فيبررون اتباعهم سياسات تقدّمية بشكل متزايد، لأنَّهم بحاجة إلى توظيف العمال الشباب والمحافظة عليهم.
اقرأ المزيد: الرأسمالية بحاجة إلى الإصلاح لا الثورات
من السهل معرفة سبب تجذّر هذا الافتراض. لا شكّ في أنَّ ثمة إحباطاً لدى العديد من الشباب من الطريقة التي يسير بها العالم، وهذا الإحباط يأخذ أحياناً شكل امتداح "الاشتراكية". حدد النشطاء الواعون اجتماعياً وسياسياً، مسار الجامعات والشركات البارزة بيقينهم الواثق. ويجتذب أبطال الجناح اليساري، مثل السيناتور بيرني ساندرز، والنائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، الأنصار من الشباب المتحمسين.
لكنَّ دراسة جديدة أجراها "مركز دراسة الرأسمالية" التابع لـ"جامعة ويك فورست" (Wake Forest University) - التي تحمل اسماً رائعاً - على الأمريكيين الأصغر سناً، يجب أن تستوقفنا قليلاً. اتصلت شركة الاستطلاعات "يوغوف" (YouGov) بعينة تمثيلية ديموغرافياً تتألف 1,999 مشارك، تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً. ثم قُسّمت العينة إلى ثلاث مجموعات عمرية: الفئة الأكبر سناً من "الجيل زد" (18-24)، وفئة "جيل الألفية الأصغر" (25-31)، وفئة "جيل الألفية الأكبر" (32-40).
اقرأ أيضاً: كيف يرى الصينيون بلادهم بعد 10 سنوات من الآن؟
مواقف الشباب
يأتي الاستطلاع مصحوباً بجميع التحذيرات المعتادة؛ إذ تعتمد نتائج الاستطلاع على الأسئلة التي يطرحها، وغالباً ما يؤمن الناس بالأشياء المتناقضة. مع ذلك، تشير النتائج، على أقل تقدير، إلى أنَّ مواقف الشباب لم تعد كما كانت "غير قابلة للتغيير". تعتمد مواقفهم تجاه الرأسمالية، على استعداد السياسيين لجذبهم، وقدرة النظام الاقتصادي على خلق الفرص لهم.
توضّح الدراسة أنَّ الأمريكيين الأصغر سناً، ما زالوا يؤمنون بالثالوث المقدس: المنافسة، والمسؤولية الفردية، وتحقيق النجاح. إذ يوافق حوالي 68% من "جيل الألفية الأصغر" على أنَّ "المنافسة جيدة"، و"تحفّز الناس على العمل الجاد وتطوير أفكار جديدة"، مقابل 9% منهم لا يتفقون مع هذا الرأي.
برغم أنَّ هذا قد يبدو موقفاً عادياً؛ لكنَّ الأغلبية تدعم أيضاً اقتراحات أكثر تشدداً. ما يقرب من الثلثين يتفقون على أنَّه "لا حرج في محاولة جني أكبر قدر ممكن من المال بطرق نزيهة". يوافق ما يقرب من النصف على أنَّ "الأشخاص الذين يتغلبون على جميع المنافسين في طريقهم إلى النجاح، هم نماذج يجب على الشباب تقديرها".
اقرأ المزيد: داخل الـ"الميتافيرس".. حيث تتصادم الألعاب والعملات المشفرة والرأسمالية
يوافق حوالي 73% من "جيل الألفية الأصغر" على الفكرة القائلة، إنَّه "يجب السماح للأشخاص بالاحتفاظ بما يجنون، حتى لو كان هناك آخرون لديهم احتياجات أكبر". وهذا أقل بقليل من نسبة 78% من الأمريكيين الذين وافقوا على هذا الرأي في دراسة لـ"معهد كاتو" صدرت في عام 2019. تتشابه الأرقام بين الفئة الأكبر سناً من "الجيل زد"، والفئة الأكبر سناً من جيل الألفية.
الرعاية الصحية والتقاعد
تشكّك الأغلبية في نموذج النشاط الحكومي الشائع في أوروبا، رافضين فكرة أنَّ الحكومة يجب أن تكون وحدها المسؤولة عن الرعاية الصحية. وعند سؤالهم عن كيفية تقسيم المسؤولية عن التعليم ما بعد الثانوي بين الأفراد والشركات والحكومة؛ قال 51% منهم، إنَّ المسؤولية تقع على عاتق الأفراد، و11% على الأعمال التجارية، و38% على الحكومة. ورداً على السؤال ذاته بشأن التقاعد؛ يعتقد 43% منهم أنَّ المسؤولية تقع على عاتق الأفراد، و18% على الشركات، و38% على عاتق الحكومة. إنَّ هذا لا يجعلهم تماماً كالكاتبة آين راند، لكنَّه بالتأكيد ليس توجهاً نحو الاشتراكية أيضاً.
هذا لا يعني أنَّ الأمريكيين الأصغر سناً لا يشعرون بالإحباط من حصتهم. يتراجع اعتقاد الأمريكيين بقوة الفاعلية البشرية: 66% فقط ممن هم دون الأربعينيات من العمر، يوافقون على أنَّه "عندما أحصل على ما أريد، يكون ذلك عادةً لأنني عملت بجد من أجله"، مقارنة بـ78% من الأمريكيين المُستطلَعة آراؤهم في دراسة "معهد كاتو" لعام 2019 الذين قالوا الشيء نفسه. ونسبة مُحبطة بلغت 47% من فئة "الجيل زد" الأكبر سناً (باستثناء الطلاب) الذين يتوقَّعون أن يكسبوا أقل من 25 ألف دولار سنوياً في وظائفهم الحالية.
كما يظهر الاستطلاع أنَّ الإيمان برواد الأعمال يتلاشى. إذ إنَّ ما يقرب من نصف جميع من هم دون الأربعين، لا يوافقون على الرأي القائل بأنَّ "الأشخاص في القمة يستحقون مناصبهم الرفيعة". ويعتقد حوالي 41% من فئة "جيل الألفية الأصغر" أنَّ إيلون ماسك مدين بنجاحه لـ"الميزات والأفضلية"، في حين يعتقد 38% بأنَّه اكتسبه بنفسه. (بينما كان أداء لاعب كرة السلة ليبرون جيمس، أفضل بكثير، إذ اختار 62% أنَّ نجاحه "مكتسب"، و10% نسبوا ذلك النجاح إلى "الميزات والأفضلية").
معاملة غير عادلة
لكن هذا يتعلق بقصور النظام الحالي، أكثر من ارتباطه بثورة في القيم. فما من شك في أنَّ الشباب يحصلون على معاملة غير عادلة: فقبل الوباء؛ كان "جيل الألفية الأكبر" أقل ثروة بمقدار 11% من الأجيال الأكبر سناً في المرحلة ذاتها من الحياة، وكان "جيل الألفية الأصغر" يمتلك 50% أقل.
مع ذلك، هم يواصلون وضع ثقتهم في المنافسة المؤسسية، بدلاً من النشاط الحكومي، عندما يتعلق الأمر بحل مشكلاتهم. وهم يعتقدون بشدة أنَّ قطاعات كبيرة في الولايات المتحدة (لا سيما التأمين الصحي، ووسائل التواصل الاجتماعي، وشبكات الهاتف المحمول) لا تواجه منافسة كافية. (ليست لديهم الشكوك ذاتها بشأن البيع بالتجزئة، والترفيه، وخدمات سيارات الأجرة، والفنادق، والغريب من وجهة نظري؛ شركات الطيران، نظراً للخدمة الرديئة التي تقدّمها الشركات القائمة). وبشكل خاص، من المرجح أن يشير "جيل الألفية الأكبر" إلى أنَّ قلة المنافسة، هي السبب الجوهري لمشكلات الرعاية الصحية في أمريكا، وهو اعتقاد من شأنه أن يذهل البريطانيين من الفئة العمرية ذاتها.
محافظون واشتراكيون
هناك دليل أيضاً على أنَّ القول المأثور القديم – "إذا لم تكن اشتراكياً عندما كنت صغيراً، فليس لديك قلب، وإذا لم تكن محافظاً عندما تكبر، فليس لديك رأس" – ما يزال ينطبق على أيامنا هذه. يستمر الناس في تحوّلهم ليصبحوا محافظين أكثر عندما يراكمون الأموال والمسؤوليات. إنَّ 20% فقط من فئة "جيل الألفية الأكبر"، عرّفوا أنفسهم بأنَّهم "ليبراليون للغاية" مقارنة بـ26% من فئة "الجيل زد". كما كانوا أكثر ميلاً إلى اعتبار أنَّ الدين "مهم جداً" في حياتهم (28%)، من فئة "الجيل زد" (22%).
ما هي دلالات كل هذا؟ الأمر الأكثر وضوحاً هو أنَّ الأمريكيين الأصغر سناً يشبهون كبار السن أكثر مما نتخيل في كثير من الأحيان. وغريزياً هم أكثر حذراً تجاه الحكومة من أبناء عمومتهم الأوروبيين. فهم ليسوا من دعاة الفضيلة والتفكير الصوفي كما يصوّرهم علم الشياطين الجمهوري، وليسوا من الكوادر التقدمية ممن ينقادون وراء أوهام ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز.
الأمر الثان؛ هو أنَّ هناك الكثير من "الأسماك" من فئة الشباب، التي يمكن أن يصطادها السياسيون الذين يركّزون على تحسين إمكانات الوصول إلى النظام الحالي بدلاً من المطالبة بتغيير جذري. هذا لا يعني نسيان عدم المساواة البنيوية في أمريكا، والناجم عن تاريخ طويل من القمع العنصري والإقصاء. لكنَّه يعني رفض كل من سياسات الحقوق الجماعية لليسار الراديكالي، والسخط من يمينية تاكر كارلسون.
نصيب من الحظ الجيد
في رواية للكاتب جون لانشيستر، يطلق عليها اسم "رأس المال" (Capital)؛ بدأ السكان المتأنقون والمعتدون بأنفسهم في أحد شوارع "بيبس" في جنوب لندن، بتلقي رسائل من خلال صناديق البريد الخاصة بهم تقول: "نريد ما لديكم". كانت الرسائل تأتي من مجموعة من الشباب الغاضبين من الارتفاع الفلكي لأسعار المساكن. كتب جون لانشيستر: "كان امتلاك منزل في شارع بيبس، أشبه بكونك في كازينو يكون فوزك فيه مضموناً". يريد الأمريكيون الأصغر سناً أيضاً أن ينعموا بنصيب عادل من حسن الحظ، الذي كان لدى كبار السن.
على السياسيين العقلاء إيلاء المزيد من الاهتمام بشأن اختزان الفرص لمصلحة المستفيدين من الوضع الراهن، سواء كانوا من الليبراليين (مثل الأكاديميين المثابرين وكبار المديرين) أو من المحافظين (كالرؤساء التنفيذيين). يجب عليهم أيضاً إعادة إحياء الأفكار القديمة حول تكافؤ الفرص، وتمكين الفرد لعصر جديد وأكثر صعوبة.
وماذا عن الرؤساء التنفيذيين؟. إنَّهم بحاجة إلى الاستماع بشكل أقل إلى الأعضاء الذين اختاروهم بأنفسهم من المجموعات ذات المصالح المشتركة. وبدلاً من ذلك عليهم الإنصات أكثر إلى الموظفين العاديين. وعليهم أن يتذكّروا أنّه، مهما كان الأمر؛ فإنَّ "تويتر" ليس العالم الحقيقي.
إنَّ خلاص الرأسمالية لا يكمن في تشويهها لنفسها كي تتبنّى الأنماط الأيديولوجية الصادرة عن الحرم الجامعي، بل يكمن في تبنيها لقوة الأسواق للاستجابة للنداء الذي وجّهه الشباب إلى سكان شارع "بيبس": "نريد ما لديكم".