لم تنته حرب "الاحتياطي الفيدرالي" على التضخم. وبعد خمسة أيام من الاضطرابات في القطاع المصرفي، ألغت الأسواق المالية تقريباً احتمال حدوث زيادات إضافية في أسعار الفائدة. لكن أحدث بيانات "مؤشر أسعار المستهلكين" تُظهر لماذا كان هذا التقييم سابقاً لأوانه؟.
أظهرت الأرقام الجديدة التي صدرت يوم الثلاثاء أن "مؤشر أسعار المستهلكين" الأساسي ارتفع 0.5% عن الشهر السابق، متجاوزاً (وإن كان بشكل طفيف فقط) متوسط توقعات الاقتصاديين في استطلاع أجرته "بلومبرغ". على أساس سنوي لمدة ثلاثة أشهر، وضع التقرير "مؤشر أسعار المستهلكين" الأساسي عند حوالي 5.2%، ما يسلط الضوء على التحدي الذي يواجه "الاحتياطي الفيدرالي" في محاولته للتوفيق بين مهمته المزدوجة المتعلقة بمكافحة التضخم وتحقيق العمالة القصوى.
تغيير التوقعات
حتى الأسبوع الماضي، لم تكن التوقعات بشأن رفع سعر الفائدة موضع نقاش، لكن انهيار مصرف "سيليكون فالي بنك" أدى إلى إعادة تقييم واسعة النطاق وسريعة، حيث انخفضت عائدات السندات لأجل عامين بمقدار 109 نقاط أساس خلال ثلاث جلسات تداول. من جانبهم غيّر الاقتصاديون في بنك "غولدمان ساكس"، و"باركليز بي ال سي" توقعاتهم لتعكس عدم وجود تغيير من جانب "الاحتياطي الفيدرالي" في اجتماعه الأسبوع المقبل، في حين ذهب الاقتصاديون في "نومورا سيكيوريتيز" (Nomura Securities) إلى أبعد من ذلك ليقولوا إن "الاحتياطي الفيدرالي" قد يخفّض أسعار الفائدة ويوقف التشديد الكمي. سيكون القيام بذلك بمثابة تحول كامل في نهج البنك المركزي الذي كان لغاية منتصف الأسبوع الماضي يطرح بشكل نشط إمكانية زيادة سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس إلى نطاق من 5% إلى 5.25%.
بعد الحصول على بيانات مؤشر أسعار المستهلكين الجديدة، من غير المرجح أن يقوم "الاحتياطي الفيدرالي" بإعادة تقييم جذرية لمساره. فكما أظهر تقرير يوم الثلاثاء، لا يزال التضخم واسع الانتشار في الاقتصاد الأميركي، وتعليق مكافحته الآن قد يقوّض مصداقية بنك "الاحتياطي الفيدرالي".
مؤشر "الخدمات الأساسية باستثناء المأوى"
لعدة أشهر، وجه جيروم باول، رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" انتباه المتداولين إلى مؤشر مفصّل يُعرف باسم "الخدمات الأساسية باستثناء المأوى"، الذي قد يشير إلى ارتفاع التضخم الإجمالي على الرغم من أن أسعار السلع الأساسية قد بلغت ذروتها، ويبدو أن انخفاض تكاليف الإسكان أصبح مرجحاً جداً.
في فبراير، ارتفع هذا المؤشر بشكل طفيف إلى 0.5%، ما أوصله إلى حوالي 5.1% على أساس سنوي لمدة ثلاثة أشهر. ضمن هذه الفئة التي تخضع للمراقبة عن كثب، تسارع تضخم خدمات النقل والترفيه على حد سواء.
أهمية مؤشر أسعار المستهلك تتراجع مؤقتا أمام الأزمة المصرفية
سيقول بعض المحللين إن كل هذا يبدو وكأنه تراجعاً، ولن يكونوا مخطئين. من الممكن أن تؤدي عمليات التهافت على مصرف "سيليكون فالي بنك" إلى زيادة المنافسة بشكل هادف بين البنوك على الودائع وتشديد معايير الإقراض، ما يحفز على تشديد الظروف المالية بشكل فعلي سيجعل بيانات التضخم تبدو مختلفة كثيراً في غضون عدة أشهر.
من الممكن أيضاً أن يكون لموجات الفوضى تأثير مثبط على الاقتصاد الاستهلاكي الأميركي، الذي تمتع بالحماية لغاية الآن بفضل مدخرات الأسر القوية التي خلفها كوفيد-19.
مخاطر تعليق مكافحة التضخم
لكن وضع سياسة على هذا الأساس سيكون بمثابة العودة إلى أيام منح بيانات التضخم الثقة الأولية، ونعلم جميعاً كيف انتهى ذلك الأمر: انتظر "الاحتياطي الفيدرالي" حتى مارس 2022 لمعالجة مشكلة كانت واضحة بالفعل في أواخر عام 2021. الآن، إذا كانت البيانات غير واضحة، فإن نهج إدارة المخاطر لدى "الاحتياطي الفيدرالي" قد يدعو إلى اتباع أسلوب أكثر استباقية لمكافحة التضخم.
تكمن المشكلة الأخرى في تعليق مكافحة التضخم الآن هي الرسالة التي سيرسلها حول الاستقرار المالي. إن تغيير المسار بشكل مفاجئ سيخبر العالم أن الخطوات التي تم اتخاذها خلال عطلة نهاية الأسبوع لدعم البنوك ليست كافية وأن الضرر الجسيم للاقتصاد أمر لا مفر منه بالفعل.
السياسة النقدية ليست الحل الوحيد
عادة ما يتطلب الأمر خفض أسعار الفائدة لترسيخ الاعتقاد تجاه حدوث كارثة اقتصادية، لكن في ظل ارتفاع التضخم كما هو الآن، فإن التخلي عن مكافحة الأسعار المرتفعة والمتقلبة سيرسل نفس الرسالة: "احذروا من هبوط قادم". إذا كان بنك "الاحتياطي الفيدرالي" يعرف شيئاً لا نعرفه نحن عن المخاطر المستقبلية، فعندئذٍ يجب عليه التراجع عن مساره الحالي فوراً.
ولكن كما قال رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" في نيويورك جون ويليامز في تصريحات معدة مسبقاً في نوفمبر الماضي، لا ينبغي النظر إلى السياسة النقدية على أنها الحل الوحيد لكل مشكلة.
الجميع على دراية بفكرة "تعدد المواهب". يمكن أن يؤدي استخدام السياسة النقدية لتخفيف مواطن ضعف الاستقرار المالي إلى نتائج غير مرغوبة على الاقتصاد.ولا ينبغي أن تحاول السياسة النقدية أن تكون "متعددة المواهب" ولا تحترف أياً منها. لا بد أن يكون هناك طريقة أفضل.
ترجيح رفع الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس
يتماشى هذا مع شعور مماثل صرّح به عضو مجلس محافظي "الاحتياطي الفيدرالي" كريستوفر والر في أكتوبر (أُعيد تداوله في مقال نشره مؤخراً نيك تيميراوس من صحيفة "وول ستريت جورنال"):
"لقد قرأت مؤخراً بعض التكهنات بأن المخاوف بشأن الاستقرار المالي قد تدفع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) إلى إبطاء زيادات أسعار الفائدة أو إيقافها في وقت أبكر مما كان متوقعاً. اسمحوا لي أن أوضح أن هذا ليس شيئاً أفكر فيه أو أعتبره تطوراً محتملاً جداً... إلى جانب الإطار التنظيمي المحسن، أعتقد أن لدينا الأدوات المناسبة لمعالجة أي مخاوف تتعلق بالاستقرار المالي ولا ينبغي أن نتطلع إلى السياسة النقدية لهذا الغرض. يجب أن ينصب تركيز السياسة النقدية على مكافحة التضخم".
يدعم المنطق السليم الآن زيادة بمقدار 25 نقطة أساس في النطاق المستهدف لبنك "الاحتياطي الفيدرالي" الأسبوع المقبل. يمكن أن يتغير الكثير في الأيام المقبلة -بما في ذلك تطورات القطاع المصرفي والبيانات المهمة عن أسعار المنتجين، ومبيعات التجزئة، وثقة المستهلكين- لكن تعليق مكافحة التضخم الآن يبدو أنه سيقوّض مصداقية "الاحتياطي الفيدرالي"، وعندما يتم الأخذ في عين الاعتبار التأثير الناجم عن إصدار إشارات، من المرجح أن تكون النتيجة بالنسبة للاستقرار المالي دون تأثير يذكر في أفضل الأحوال.