اختار بنك الاحتياطي النيوزيلندي التحرك في ضوء توقعاته بحدوث ركود اقتصادي بدلاً من الهروب من المواجهة، حيث صرّح مسؤولو البنك بأن رفع أسعار الفائدة بقوة يعرقل نمو الاقتصاد، كما إن التضخم لا يزال أعلى كثيراً من المستويات التي تبعث على الارتياح. واعتبروا أن الحديث عن تحويل مسار السياسة النقدية باتجاه التيسير الكمي، يرقى إلى كونه تحريضاً ضد مصلحة الدولة.
يفتخر البنك أيضاً، بكونه أحد أوائل الجهات التي اتخذت خطوات في معركتها ضد ارتفاع الأسعار، وربما يشهد قريباً شكلاً من أشكال إعادة ضبط السياسات الخاصة به. ويُرجَّح أن يأتي التحوّل -الذي بدأ منذ فترة في بعض مناطق العالم- في نيوزيلندا خلال الشهر الجاري.
لا يُتوقع أن يكون التغيير جذرياً، لكن مع ذلك لا يُرجّح أيضاً أن ينجم عن التحرك الهبوطي المتوقع في أسعار الفائدة تأثير متواضع، مثلما كان الحل مع الزيادة البالغة ربع نقطة مئوية التي أقرّها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مؤخراً.
توقعات المحللين
انشغل المحللون الاقتصاديون بخفض توقعاتهم، إذ بدأ بعضهم على الأقل يتوقعون ارتفاعاً قدره نصف نقطة مئوية في سعر الفائدة الرئيسي على الدولار النيوزيلندي يوم 22 فبراير الجاري.
إن كنا سنحكم على الأمور في ظل تصريحات الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا والبنك المركزي الأوروبي، سيتخلل قرار بنك الاحتياطي النيوزيلندي تأكيدات على أن تلك ليست آخر زيادات أسعار الفائدة . وسيتبنّى البنك سياسة نقدية تقييدية لفترة، وهي مهمة لم تكتمل بعد.
لكن ذلك لن يكون حلاً لكل الأزمات الحالية، فبمجرد خفض زيادة أسعار الفائدة من المستوى القياسي البالغ 75 نقطة أساس الذي وصلت إليه في نوفمبر الماضي، سيواجه محافظ البنك، أدريان أور، صعوبات في رفعها مرة أخرى في ضوء غياب تطور يلغي كل التهديدات القائمة بالفعل.
السيناريو الأكثر ترجيحاً
يرجح ظهور مؤشر في الأفق على وقف تحريك أسعار الفائدة لفترة، رغم أن البنك نفسه قد لا يرغب في الإعلان صراحة عن ذلك. والسبب وراء هذا ليس غياب فكرة التوقف لفترة لالتقاط الأنفاس، ولكن لأن البنك لن يرغب في تغير توقعات خفض أسعار الفائدة طريقة تفكير الشركات والمستهلكين، ناهيك عن المستثمرين.
يتوقع "جيه بي مورغان" زيادة قدرها نصف نقطة مئوية، تليها فترة سكون مطوّلة. وكتب توم كينيدي، أحد المحللين الاقتصاديين في البنك، في مذكرة نُشرت مؤخراً: "نحن نقترب من نهاية دورة رفع أسعار الفائدة".
هناك أسباب وجيهة لتخفيف نيوزيلندا سياستها النقدية المتشددة، على الأقل عملياً إن لم يكن نظرياً. ورغم ارتفاع التضخم، فهو أقل من توقعات البنك المركزي المتشائمة.
ارتفعت أسعار المستهلكين 7.2% في الربع الرابع مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، أي أقل من مستوى 7.5% الذي استعد له فريق أور. كما تواجه سوق العمل شحاً في المعروض من الأيدي العاملة، رغم أنها تتحسن قليلاً.
استهداف الركود الاقتصادي
ارتفع معدل البطالة إلى 3.4%، وهو أعلى قليلاً من توقعات المحللين. وإذا كنت تتساءل عما إذا كان هذا المستوى لا يزال منخفضاً، فالإجابة هي "نعم"، لكن مع احتمال حدوث ركود اقتصادي قريب، ومن الصعب توقُّع تحسُّن سوق العمل انطلاقاً من هذه المرحلة.
يرغب أور في حدوث ذلك التحول الهبوطي. وعندما سُئل خلال جلسة للجنة برلمانية أواخر العام الماضي عمّا إذا كان هدفه مواجهة الركود الاقتصادي، ردّ محافظ البنك قائلاً: "نعم، هذا صحيح. نحن نحاول عمداً إبطاء الإنفاق الإجمالي في الاقتصاد".
يستحق المحافظ الإشادة على صراحته. فمن الصعب تخيّل رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول، وهو يتحدث أمام لجنة في مجلس الشيوخ بهذا القدر من الوضوح.
وعادةً ما يردّ مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي على الأسئلة المتعلقة بالركود بإجابة مثل: "ذلك ليس من ضمن توقعاتنا"، أو "هناك مسار ضيق للهبوط السلس".
ارتباط البنوك بالسياسة
المشكلة في الميل نحو توقعات حدوث ركود، أو حتى الإعلان صراحة عن ذلك، هي أن المعاناة بسببه ستظهر في مرحلة ما. رغم استقلال أغلب البنوك المركزية عن حكوماتها –كما هو الحال في نيوزيلندا– تُعتبر بيئة عمل هذه البنوك ذات طبيعة سياسية، وقد تكون لقرارات البنوك تداعيات على الانتخابات.
يمكن للمشرّعين أيضاً، الذين ينتابهم شعور بالقلق بشأن المحافظة على مقاعدهم، تحدي صنّاع السياسة النقدية بسهولة، وسؤالهم عمّا يمكن عمله حيال الركود المتوقع.
في بيئة يُعتبر فيها التضخم أكبر الشرور، مثلما كان الوضع عليه منذ 2021، يميل محافظو البنوك المركزية إلى استخدام لهجة مفادها أن أفضل طريقة لتشجيع النمو المستدام على المدى الطويل هي دعم استقرار الأسعار.
الخبر الجيد هنا هو أن التضخم يتراجع في اقتصادات كبرى عديدة، كما يبدو أن هناك شهية ضعيفة لرفع تكلفة الاقتراض إلى المستويات التي شهدها عهد رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الشهير الأسبق، بول فولكر، رغم كل التشبيهات التي انتشرت في العام الماضي وربطت بينه وبين زيادات الفائدة الأخيرة.
تطورات السياسة النقدية
وصل سعر الفائدة القياسي للاحتياطي الفيدرالي إلى 20% في عام 1980، أما اليوم، فيتأرجح سعر الفائدة بين 4.5% و4.75%. كما يتراجع الدولار الأميركي مقابل العديد من العملات، بسبب توقعات اقتراب الاحتياطي الفيدرالي من إنهاء دورة التشديد النقدي الحالية بشكل أساسي. وقد ارتفع الدولار النيوزيلندي بنحو 6% خلال الأشهر الـ3 الأخيرة.
بغض النظر عن اقتصادها الصغير وموقعها الجغرافي النائي، عليك مراقبة تطورات السياسة النقدية في نيوزيلندا، حيث تحب الدولة أن تكون الأولى في فئتها. وكان بنك الاحتياطي النيوزيلندي رائداً في استهداف التضخم، إذ تبنّى مستوى مستهدفاً عند نحو 2% قبل 3 عقود، وهو طموح انتشر على نطاق واسع منذ ذلك الحين.
لا يرى النيوزيلنديون غضاضة في التأكيد على أنهم عادةً ما يكونون بين أول من يتحرك عندما تأخذ الأسعار في الارتفاع، مثلما فعلوا في 2021.
إذا ظهرت ولو بادرة بسيطة على تحرك حازم يستهدف تحقيق المصلحة العامة خلال الشهر الجاري، فسندرك أننا دخلنا مرحلة جديدة في السياسة النقدية، مهما كان عدد صانعي تلك السياسة الذين سيعترضون على ذلك.