لن تتوغل الصين في أفغانستان قريباً، سواء من أجل ملء الفراغ السياسي والأمني الذي خلَّفته الولايات المتحدة، أو ليتمدد فيها مشروع الرئيس شي جين بينغ المحوري المسمَّى "الحزام والطريق".
مهما بدا انتصار طالبان حاسماً حالياً، غير أنَّ شدَّة هشاشة أفغانستان تجعل بكين
لاتفكِّر بأبعد من تفاعل دبلوماسي براغماتي مع المجموعة التي أمضت عقوداً تحاول العمل معها. قد تغري الحركة الإسلامية المتمرِّدة التي تتطلَّع لترسيخ علاقات إقليمية رئيسية بوعد تعزيز العلاقات الاقتصادية، لكن تبقى احتمالية تبلور أي مشروع بنية تحتية على المدى القصير قاصية.
تملك أفغانستان مخزونات معدنية ضخمة، بما فيها النحاس، والفحم، وخام الحديد، والليثيوم، واليورانيوم، ناهيك عن النفط والغاز. لكن برغم أنَّ الشركات الصينية، وشركات التعدين بشكل عام، لديها درجة تحمُّل أعلى من المتوسط للمخاطر، إلا أنَّ قلَّة منها قرر دخول سوق الدولة التي مزَّقتها الحرب.
تنظر بكين لأفغانستان على أنَّها بيئة شديدة الخطورة، وتأتي رغبتها في جعلها فرصة من أي نوع كاعتبار ثانوي، وفقاً لأندرو سمول، وهو كبير باحثي شؤون ما وراء الأطلسي لدى معهد "صندوق مارشال الألماني"، ومؤلِّف كتاب "المحور الصيني-الباكستاني".
يعتقد سمول، الذي تابع علاقات بكين مع إسلام أباد وكابل لسنوات، أنَّ بكين تهتم أكثر بشأن الاستقرار الإقليمي، وضمان عدم ولوج حركات التمرُّد الإرهابية الجديدة لمقاطعة شينجيانغ. ترتكب الصين انتهاكات واسعة النطاق ضد السكان الأيغور المسلمين المحليين، وفقاً لمنظمات حقوق الإنسان الدولية، ودول مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا. كما تنفي بكين باستمرار هذه الادعاءات.
ستتوخى الصين الحذر بشأن تحويل دولة تقودها طالبان إلى أي نوع من مركز مرتبط إقليمياً
تهديد كامن
ترى بكين أنَّ نجاح حركة إسلامية راديكالية في أفغانستان تهديدٌ كامن، بحسب قول سمول، مما يجعلها أقل إقبالاً على نوع من الاستثمار في البنية التحتية قد يفتح عليها منطقة حدودية، تتسم بالخطورة دوماً.
قال سمول في حوار معي: "ستتوخى الصين الحذر بشأن تحويل دولة تقودها طالبان إلى أيِّ نوع من مركز مرتبط إقليمياً".
سبق أن اكتوت الصين جراء استثمارات فاشلة في أفغانستان، كان أبرزها مشروع نحاس "مس أيناك" الواقعة على 40 كيلومتراً خارج كابل. تعهدت طالبان تحديداً بعدم مهاجمة المنجم، لكنَّ الصين قرَّرت وقف العمل آنذاك، فقد جمَّدت عقد إيجار لمدة ثلاثة عقود وقَّعته شركة "ميتالورجيكال كوربوريشن أوف تشاينا" المملوكة للدولة في 2007. كانت صفقة بقيمة 2.83 مليار دولار، وُصفت حينذاك بأكبر استثمار أجنبي في تاريخ أفغانستان، وهي بلا شك صفقة مهمة على الورق، لكنَّها كانت عديمة الأثر على الأرض.
كان لدى الصين متسع سنين للانخراط في أفغانستان باعتبارها إحدى ست دول تجاورها. أصبحت الآن الدولة التي تفتقر لمنفذ بحري أكثر اضطراباً، وليس فيها وجود أجنبي مثل قوات الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي لتوفر ضمانات أمنية.
لهذا السبب، لن تدفع بكين الشركات المملوكة للدولة لدخول أفغانستان في وقت قريب، وفقاً لرأي رافايللو بانتوتشي، وهو زميل بارز في كلية "اس. راجاراتنام للدراسات الدولية" في سنغافورة.
ضمان طالبان للطالبات
لا شكَّ في أنَّ طالبان ستقدِّم جميع أنواع الضمانات، وقد وعدت بالفعل بالامتناع عن أعمال القتل الانتقامية، وأن تسمح للنساء والفتيات بمواصلة الدراسة، لكن في هذه المرحلة، لا أحد يعرف بعد كيف ستحكم؟. يرى بانتوتشي أنَّ الاعتراف بطالبان كسلطة أمر واقع سياسية، والتعاطي معها أمر منطقي بالنسبة للصين.
استقرار أفغانستان عامل أساسي لحماية استثمارات بنحو 60 مليار دولار في مشاريع الحزام والطريق في باكستان المجاورة، وهي توفِّر طريقا برياً إلى المحيط الهندي.
استضاف وزير الخارجية الصيني وانغ يي وفداً رفيع المستوى من مسؤولي طالبان الشهر الماضي، و وضع تلك المخاوف في الاعتبار، إذ ضغط على كبير مفاوضي الحركة الملا عبد الغني بردار لنبذ الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، ومنعها من شنِّ هجمات على مصالح الصين انطلاقاً من التراب الأفغاني.
استهدفت الجماعات الإرهابية بالفعل الصين في باكستان، معتدةً بمكاسب طالبان في أنحاء أفغانستان هذا العام. فقد ضربت سيارة مفخخة فندقاً فخماً يستضيف سفير بكين في كويتا في إبريل، وتبنَّت الهجوم حركة طالبان باكستان، وهي جماعة إرهابية ذات تنظيم فضفاض متصلة بتنظيم القاعدة، وتتمركز على طول منطقة الحدود الأفغانية الباكستانية الشاسعة. كما قتل هجوم في منطقة داسو بالقرب من الحدود الباكستانية مع الصين 12 شخصاً الشهر الماضي، بينهم تسعة مواطنين صينيين.
سلام مستدام؟
ضغطت بكين فوراً على إسلام أباد للعثور على مرتكبي الحادث، وسلَّطت الهجمات الضوء على هشاشة العلاقة بين البلدين. قال سمول، إنَّ الصين لم تكن أبداً على ثقة بأنَّ لباكستان سيطرة حقيقية على تلك الجماعات المتمرِّدة.
من قندهار إلى كابول.. كيف بدأت طالبان رحلة الحرب والسلطة؟
لدى باكستان علاقات عميقة بطالبان، ولعبت منذ فترة طويلة دور الوسيط مع بكين. يحذِّر سمول، أنَّ كلَّ هذا يمكن أن يرتد سلباً على إسلام أباد في وقت ما.
تقارب بكين هذا الشأن متوخية الأمان، فقد قالت المتحدِّثة باسم وزارة خارجيتها هوا تشون ينغ للصحفيين في بكين الإثنين: "تأمل الصين في أن تتمكَّن حركة طالبان الأفغانية من الاتحاد مع الأحزاب السياسية الأخرى، ومع جميع الجماعات العرقية، وأن تبني إطاراً سياسياً يتماشى مع الظروف الوطنية، إذ يكون شاملاً على نطاق واسع، وأن ترسي الأساس لسلامٍ مستدامٍ".
تودُّ الصين على المدى الطويل أن تكون شينجيانغ منطقة مزدهرة ومستقرة، مما يتطلَّب عدم حدوث أي اضطراب في ساحتها الخلفية. لكن لن تجلب عودة طالبان للسلطة سوى عدم الاستقرار.