انتقل صناع السياسة النقدية في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على ما يبدو من سعر فائدة صفري إلى معدلات قياسية. في أوائل السنة الماضية، أشار منتقدون كثيرون إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تخلف بطريقة يُرثى لها عن مواكبة صعود منحنى التضخم في الولايات المتحدة، وأن الطريقة الوحيدة التي يمكنه عن طريقها الانتصار في المعركة هي دفع الاقتصاد إلى الدخول بركود له تداعيات ضارة بواسطة زيادة أسعار الفائدة لمستويات مرتفعة بشدة وبسرعة هائلة.
في حقيقة الأمر، قام الفيدرالي بذلك بالضبط، إذ رفع سعر الفائدة الأساسي من صفر تقريباً إلى 5.50%. تباطأ التضخم في الولايات المتحدة بالوقت الحالي مقترباً من مستهدف البنك المركزي الأميركي البالغ 2%. لكن عوضاً عن حدوث الانكماش، اكتسب الاقتصاد قوة دافعة، وحقق نمواً للربع الثالث بنسبة 5.2% على أساس سنوي، في أسرع وتيرة منذ 2014 مع استبعاد فترة التقلبات الداخلية خلال أعوام وباء كورونا. واستمر معدل البطالة دون 4% لـ21 شهراً متتالياً، ما يُعد أطول مدة منذ حقبة الستينيات من القرن الماضي.
لكن ماذا عن منتقدي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي؟ يعترف كثير منهم بالوقت الحالي بأن الاقتصاد ربما ينجز ما قالوا عنه مستحيلاً وهو سيناريو "الهبوط السلس".
التضخم في الولايات المتحدة
لكن قبل احتفال بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بهذا الانتصار، يجدر بنا أن نسأل عن مدى مساهمة أفعاله في تباطؤ معدلات التضخم في الولايات المتحدة. قد لا تكون الإجابة كثيرة. وإذا صح كذلك الأمر، فإن الفيدرالي يخاطر بالتهويل من الفوائد والتهوين من التكاليف التي تفرضها أسعار الفائدة العالية على الاقتصاد.
الطريقة المنطقية لعمل السياسة النقدية هي أن البنك المركزي يزيد من أسعار الفائدة لكبح الطلب عبر كافة أنحاء الاقتصاد ويقلصها لتحقيق الأثر المعاكس. وتدل أحدث البيانات على أن الفيدرالي شدد من سياسته النقدية تحديداً بما يكفي للحد من الطلب والضغط على التضخم في الولايات المتحدة الزائد دون التسبب بزيادة هائلة لمعدل البطالة. رغم ذلك، يصعُب تحديد أي قطاعات الاقتصاد -عدا الإسكان- أدت السياسة النقدية فيها إلى كبح الطلب بشكل حاسم.
نظرياً، ينبغي لارتفاع أسعار الفائدة أن يثبط عمليات الاقتراض، وبالتالي يقلص عمليات الإنفاق، لا سيما بالنسبة للمستهلكين، الذين تشكل نفقاتهم ثلثي حجم الاقتصاد تقريباً. عوضاً عن ذلك، ارتفعت الديون المستحقة لأشياء على غرار بطاقات الائتمان وقروض السيارات مستحقة السداد بوتيرة متسارعة. ربما يرى البعض أن هذا مجرد انعكاس لتأثير التضخم في الولايات المتحدة العالي، ويضطر المستهلكون للاستدانة لتغطية نفقاتهم. وتتمثل الحقيقة في أن المستهلكين يفكرون بمنطقية ويميلون من الناحية التاريخية لزيادة عمليات الاقتراض فقط عندما يشعرون بالرضا تجاه مستويات دخلهم ووظائفهم، ما يُعد منطقياً بالوقت الراهن مع الأخذ بعين الاعتبار قوة سوق العمل.
قوة أوضاع الأسر المالية
وربما يُعزى ذلك جزئياً إلى قوة الأوضاع المالية للأسر. فبحسب بعض المقاييس، ما يزال المستهلكون يحتفظون بجزء كبير من المدخرات التي تكدست خلال حقبة الوباء. علاوة على ذلك، أعاد عشرات الملايين من الأشخاص تمويل قروضهم العقارية بفائدة منخفضة قياسية، ما أدى إلى إنفاق أموال نقدية كبيرة كانوا سيخصصونها لخدمة قروضهم العقارية. وذهب جزء من هذه الأموال الإضافية، بجانب مدفوعات برامج التحفيز الحكومية، لعمليات تسديد الديون. وتبلغ نسبة إجمالي مدفوعات ديون الأسرة إلى الدخل المتاح 9.83%، ما يعني بقاءها دون تغيير مقارنة بمستويات ما قبل وباء كورنا وأقل 13.2% عن ذروة القرن الحالي التي وصلت لها خلال 2007.
إذا كان لتشديد السياسة النقدية تأثير محدود على المستهلكين، عندئذ لا بد أن تأثيره كان كبيراً على الشركات. فعملياً، تباطأ نمو الاستثمار التجاري من 5.8% على أساس سنوي خلال الربع الثالث من 2022 إلى 4% خلال نفس الربع للسنة الجارية. لكن التباطؤ يُعد محدوداً من حيث القيمة المطلقة وبالنسبة لدورات التشديد النقدي السابقة. هذا التكيف يُعتبر نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية للرئيس الأميركي جو بايدن، والتي عوضت بصورة أساسية السياسة النقدية الأكثر تشدداً من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
وتتضمن "اقتصاديات بايدن" أو(Bidenomics) -حسبما يُطلق عليها- مجموعة حوافز ضريبية وتنظيمية للشركات الأميركية للتشجيع على إعادة أعمال التصنيع من الخارج إلى الداخل البلاد.
ومن ثم، إذا أخفقت السياسة النقدية الأكثر تشدداً بشكل أساسي في كبح الطلب في الاقتصاد الأوسع نطاقاً، فماذا أسفرت عنه؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى معرفة سبب التضخم في الولايات المتحدة بالمقام الأول. فمن المؤكد أن الكم الهائل من التحفيز المالي لدعم المستهلكين والشركات أثناء عمليات الإغلاق بسبب وباء كوفيد كان ذا صلة، لكن يبدو أن اضطرابات سلاسل التوريد التي جرى إصلاحها في الوقت الراهن كانت السبب الرئيسي وراء ذلك.
تأثير الطلب على التضخم
يقدم بنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند مقياساً يحسب مقدار مساهمة عوامل جانب العرض بارتفاع التضخم في الولايات المتحدة. كما أن طرح ناتج هذا المقياس من معدل التضخم الفعلي يعطي تقديراً تقريبياً لحجم الطلب الزائد الذي يساهم في صعود الأسعار. يتمثل الأمر المثير للانتباه أكثر في أن جزء التضخم الذي يعزز الطلب الزائد هبط 2.3 نقطة مئوية فقط من 7.3% إلى 5.0% منذ بلوغ ذروته خلال سبتمبر 2022. رغم ذلك، تراجع المؤشر الإجمالي لأسعار المستهلكين 5.9 نقطة مئوية منذ وصوله لذروته مسجلاً 9.1% خلال يونيو 2022.
هذا الانخفاض الضئيل القابل للمقارنة والمدفوع بزيادة التضخم في الولايات المتحدة يتماشى مع فكرة أن عمليات رفع أسعار الفائدة الفيدرالية كان لها تأثير محدود على الطلب.
وبالفعل يرجع تراجع معدل التضخم الإجمالي غالباً إلى عوامل جانب العرض، والتي تحولت من زيادة بنحو 3 نقاط مئوية إلى تراجع بقيمة 1.75 نقطة مئوية حالياً.
يبدو أن جهود بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لعبت دوراً ثانوياً -في أفضل الأحوال- بعملية إبطاء التضخم في الولايات المتحدة، ويبدو أن تنامي فرص حدوث هبوط سلسل جاء من قبيل الصدفة أكثر من كونه ناجماً عن حنكة في تطبيق سياسات الاقتصاد الكلي.
يظهر بالتأكيد أثر السياسة النقدية بوقت متأخر، وقد نرى أن قرارات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسفرت عن تقويض الطلب عبر كافة أنحاء الاقتصاد. لكن حتى يحدث ذلك على أرض الواقع، من الإنصاف أن نسأل عما إذا كنا -بمن فينا صناع السياسة النقدية- نحتاج لإعادة التفكير في آلية التحول إلى رفع أو خفض أسعار الفائدة.