تأتي الأوقات الاستثنائية بضرائب جديدة، إذ دفعت الأزمات التاريخية الحكومات لفرض ضريبة على الدخل، كما حدث خلال الحرب الأهلية الأميركية، وضريبة على الخروج من البلاد خلال الحرب الباردة. والآن، تواجه المملكة المتحدة ضغوطاً لفرض ضريبة على الأثرياء المغادرين، وسط محاولة حكومة "حزب العمال" لسد فجوة الميزانية البالغة 22 مليار جنيه إسترليني (29 مليار دولار).
كذلك، تفرض بعض الدول الأوروبية الأخرى، مثل فرنسا والنرويج، ضرائب خروج، لكن خطوة المملكة المتحدة في هذا الشأن ستشكل تحولاً كبيراً عن سياسات الحكومة السابقة التي كانت "متساهلة للغاية" تجاه الأثرياء.
نادراً ما تكون ضرائب الخروج مصدر إيرادات كبير للحكومات، خاصة عندما يتم تحصيلها في شكل ضريبة على المكاسب الرأسمالية المستقبلية في حال بيع الأصول. ففي فرنسا، على سبيل المثال، جلبت ضريبة الخروج المعدلة إيرادات بين عامي 2012 و2017 قدرها 140 مليون يورو فقط (153 مليون دولار). كما أنها ليست فعالة للغاية، إذ يعمل المسؤولون في النرويج على تعديل النظام الحالي، الذي يحتوي على ثغرات معقدة، وواجه معارضة شديدة من رواد الأعمال، بمن فيهم رجل كتب أغنية معارضة لهذه الضريبة.
لا تخطط حكومة المملكة المتحدة حالياً لفرض مثل هذه الضريبة، حسبما ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" يوم الخميس الماضي، نقلاً عن مسؤولين حكوميين لم تكشف عن هوياتهم.
تصاعد المنافسة الضريبية
في ظل اشتداد المنافسة الضريبية عالمياً، قد تحقق ضريبة الخروج تكافؤ فرص بين الدول. ويتضح تأثير المنافسة من خلال تدفق الأموال إلى المناطق ذات الضرائب المنخفضة أو المعدومة مثل دبي.
وفقاً لشركة "هينلي آند بارتنرز" (Henley & Partners)، من المتوقع أن ينتقل حوالي 6700 مليونير إلى الإمارات العربية المتحدة هذا العام، مما يجعلها الوجهة الأولى لأصحاب الثروات المرتفعة، فيما يُتوقع أن تخسر المملكة المتحدة حوالي 10 آلاف مليونير.
وتتمتع الإمارات بالعديد من عوامل الجذب، من بينها الشمس والبحر وعدم وجود ضرائب على الدخل الشخصي أو المكاسب الرأسمالية أو الميراث أو الهدايا أو الممتلكات. أما الضريبة الجديدة على الشركات، التي تفرض في إطار سعي الدولة للامتثال للمعايير العالمية والاستعداد لحقبة ما بعد النفط، فتظل منخفضة عند نسبة 9%.
كما أن الإمارات حققت تقدماً كبيراً في مكافحة التمويل غير المشروع، ما أدى إلى شطبها هذا العام من القائمة الرمادية الدولية لمكافحة غسل الأموال. ومع ذلك، تخللت هذه الخطوة انتقادات من البرلمان الأوروبي.
دبي وجهة للأثرياء
تشهد دبي وأبوظبي تحولاً إلى نسخ جديدة من مناطق مثل تشيلسي ومايفير، حيث أصبحت هاتان المدينتان وجهة لجذب الثروات التي كانت تُشتهر لندن بها ذات يوم. تستقطب دبي أكثر من 40 صندوق تحوط يدير كل منها أكثر من مليار دولار، كما أن شركة "بريفان هوارد" (Brevan Howard) تبني مقراً جديداً لها في أبوظبي، ليصبح مركزاً بقيمة 10 مليارات دولار.
تضم الإمارات حالياً متحف اللوفر، وقريباً سيكون هناك متحف غوغنهايم. كذلك، أطلق نيك كاندي، أحد الشقيقين المؤسسين لمشروع "ون هايد بارك" (One Hyde Park) الفاخر، مشروعاً عقارياً جديداً في الإمارات، وسط ازدهار سوق العقارات في دبي، حيث تم بيع 282 منزلاً بأكثر من 10 ملايين دولار لكل منها هذا العام.
وتعد هذه المنازل الفاخرة مقصداً للأثرياء، إذ يشكل الأجانب نسبة 27% من مالكي العقارات في دبي، وفقاً لتقرير مرصد الضرائب بالاتحاد الأوروبي، الذي وصف هذا الاتجاه بأنه "البنوك السويسرية الجديدة". وبحسب تحليل أجري عام 2022، فإن 70% من المنازل التي يملكها النرويجيون في دبي لم يتم الإبلاغ عنها لأغراض الضرائب في عام 2019.
مع تزايد صعوبة الظروف المعيشية للأثرياء في أوروبا، أصبحت الإقامة في الإمارات أكثر جاذبية سواء من الناحية المالية أو الحياتية. فقد أظهر استطلاع أجراه بنك "لومبارد أودييه" (Lombard Odier) في مايو أن نحو ثلثي المغتربين الأثرياء في الإمارات يخططون للبقاء لفترة تتراوح بين عامين إلى خمسة أعوام.
وأوضح عامر مالك، رئيس وحدة الشرق الأوسط لدى البنك، أن "دبي كانت تقليدياً مركزاً لتدفقات الأموال القادمة من الشرق الأوسط وأفريقيا وشبه القارة الهندية. وبمرور الوقت بدأت العائلات البريطانية والأوروبية في التدفق إلى المدينة بأعداد كبيرة. وبعد جائحة كورونا، والإعجاب بكيفية التعامل مع الأزمة، جذبت دبي اهتمام العالم بأسره".
التعاون الدولي حل أمثل
كل هذا يبدو إيجابياً بالنسبة للإمارات، إلا أن أي تصعيد للصراعات في المنطقة قد يُعرض هذا التفاؤل للخطر. لكن الوضع الحالي، يؤدي بشكل مؤكد إلى ليالٍ بلا نوم في وايت هول، إذ تسعى المملكة المتحدة جاهدة لتحسين العدالة الضريبية والمساواة بعد أعوام من الفشل في مواجهة الأموال غير المشروعة والاحتيال الضريبي بشكل صحيح.
ومع تزايد اعتماد المملكة المتحدة على الأثرياء، حيث يأتي أكثر من 60% من إيرادات ضريبة الدخل من 10% فقط من الممولين الأعلى دخلاً، فإن مغادرة هؤلاء الممولين أو أصحاب الأعمال المربحة للبلاد سيجعل تمويل الخدمات العامة، مثل دفع تكاليف المستشفيات ومعلمي المدارس، أكثر صعوبة.
كما أن قرارات مثل إلغاء وضع الأجنبي "غير المقيم" يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة، وسط انتقال المنافسة الضريبية إلى الثروات النمطية للأفراد، حيث تجد الإمارات نفسها في موقع قوي.
من الناحية المثالية، يعتبر التعاون الدولي الحل الأمثل للحد من آثار المنافسة الضريبية العالمية، وذلك على غرار الجهود المتفق عليها لمكافحة التهرب الضريبي من قبل الشركات متعددة الجنسيات. ومع ذلك، فإن فرص التوصل إلى اتفاق دولي على غرار ما حدث في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في ما يتعلق بالضرائب على الأثرياء تبدو ضئيلة للغاية.
تأثير ضريبة الخروج
في هذه الأثناء، من المتوقع أن تزداد قوة أفكار مثل فرض ضريبة خروج في المملكة المتحدة. وبالرغم من أن هذه الضريبة لن تكون مصدراً كبيراً للإيرادات الحكومية، إلا أن تقريراً صادراً عن مركز تحليل الضرائب قدر أنها قد تسد فجوة تصل إلى 500 مليون جنيه إسترليني سنوياً، ناتجة عن تهريب الأرباح الرأسمالية إلى الخارج.
ومع ذلك، من المتوقع أن تنشأ عواقب غير مقصودة، مثل ظهور ثغرات جديدة وإيجاد فائزين وخاسرين لهذا النظام. وقد تتسبب هذه الضريبة في تثبيط الأثرياء عن مغادرة البلاد أو على الأقل تقليل عددهم، مما يبعث برسالة إلى الناخبين مفادها أن حماية القاعدة الضريبية الوطنية أصبحت أولوية تفوق جذب الأموال من الخارج.