عانت طوكيو طوال سنوات لإعادة تسويق نفسها مرة أخرى كمركز مالي رئيسي، لكن قد تُنقذ طموحاتها من خلال ما وصفهما هومر سيمبسون ذات مرة بأحلى كلمتين في اللغة الإنجليزية (De fault) أي تلقائياً.
كانت المدينة تحاول استرداد سمعتها التي تضررت. فبعد أن كانت في يوم من الأيام عاصمة للعالم المالي، خرجت الشهر الماضي من قائمة أفضل 20 مركزاً مصرفياً في أحد التصنيفات، لتصبح خلف منافسين آسيويين مثل سيول وبكين. أما شينزين، التي كانت بالكاد نقطة موجودة على الخريطة المالية عندما كانت أسواق طوكيو في قمة مجدها قبل ثلاثة عقود، فقد أصبحت تحتل الآن مركزاً يفوق طوكيو بتسع مراتب.
استعادة طوكيو جاذبيتها ببطء
اصطدمت المحاولات المختلفة لجذب المتداولين الأجانب بحقائق لا يمكن إنكارها كافح حتى أمثال العمدة يوريكو كويكي لإصلاحها: عبء ضريبي كبير مقارنة بهونغ كونغ وسنغافورة، وحقيقة أن اللغة اليابانية وليست الإنجليزية هي اللغة المستخدمة في الحياة اليومية، والبيروقراطية، وكذلك متاهة من التعقيدات الإدارية.
لكن تشير بعض الأدلة الإيجابية حالياً إلى أن طوكيو أكثر جاذبية حتى وإن لم يكن لأي سبب آخر سوى حقيقة أن منافسيها الرئيسيين يبدون أسوأ حالاً. أفادت "بلومبرغ نيوز" أن صندوق التحوط "سيتاديل" (Citadel) التابع لكين غريفين، يخطط لإقامة مركز له في المدينة لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية. يأتي ذلك بعد وصول شركة "سيتاديل سيكيوريتيز" -وهي كيان منفصل أسسه غريفين- إلى العاصمة اليابانية العام الماضي، وهي واحدة من تسع شركات مالية حصلت على تراخيص في عام 2022. وفي الآونة الأخيرة، أعلن ستيف كوهين أن "بوينت 72 أسيت مانجمنت" تزيد من عدد موظفيها هناك بنسبة 20%.
إنها بداية متواضعة، لكنها بداية رغم كل شيء. بعد إغلاق اليابان المطول في وجه العالم خلال "كوفيد"، بدأت الدولة الآسيوية تحظى باهتمام جديد. ومنحها وارن بافيت مباركته في وقت سابق من الشهر الجاري بزيارته الأولى منذ 12 عاماً، مشيراً إلى "شعور قوي" لديه بأن السوق ستستمر في النمو خلال نصف القرن المقبل.
تراجع المراكز المالية الآسيوية الأخرى
لكن إذا استعادت طوكيو سحرها المالي، فلن يكون ذلك بسبب الدفعة التي تقودها منظمة "فين سيتي طوكيو" (FinCity Tokyo) للترويج لجاذبيتها. فعندما تأسست هذه المنظمة في أبريل 2019، كان هناك شيء ذو تأثير أكبر يحدث في مكان آخر: الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ.
بعد أربع سنوات، تبدو الأمور مختلفة تماماً. ربما تتعافى هونغ كونغ الآن من قيود حقبة الوباء، لكن مكانتها تضاءلت كمركز دولي، وكشفت بكين الطبيعة الجوفاء لوعودها بشأن سياسة "دولة واحدة ونظامان". ينخفض عدد سكان هونغ كونغ مع مغادرة الأجانب، كما ظهر جلياً الأسبوع الماضي من انخفاض 12% في عدد الطلاب الأجانب المسجلين في مدارسها الدولية.
في البر الرئيسي للصين، قد تصعد مدن مثل شنغهاي وبكين وشينزين في تصنيفات المراكز المالية، لكن عصر سياسة "صفر كوفيد" ونهايته الفوضوية أخاف الكثيرين، كما فعلت العلاقات المتدهورة بين الولايات المتحدة والصين، والحديث عن الحرب على تايوان. ربما تكون المخاطر منخفضة، لكن حالات الاحتجاز التعسفي للأجانب من فترة لأخرى تزيد توتر المغتربين أيضاً، لا سيما بعد احتجاز الكنديين مايكل كوفريغ ومايكل سبافور لما يقرب من ثلاث سنوات. ففي الشهر الجاري مثلاً، كان موظف في شركة "استيلاس فارما انك" اليابانية هو آخر ضحايا الاعتقالات.
الفرار من هونغ كونغ يمنح طوكيو فرصة
الفائز المنطقي من كل هذا وبدرجة كبيرة هي سنغافورة الآمنة للغاية، وذات الضرائب المنخفضة. لكن لها مشكلاتها الخاصة، أبرزها الارتفاع المذهل في تكاليف الإسكان وسط محدودية العرض. قفزت الإيجارات 30% في عام 2022 وحده. تحاول دولة المدينة أيضاً تحقيق التوازن بين جذب المواهب الأجنبية والمخاوف المحلية بشأن فجوة الثروة، بينما يُصعّب نظام حصص التأشيرات عليها استيعاب كل من يتطلع إلى الفرار من هونغ كونغ.
وهذا يمنح فرصة لطوكيو. فمع عودة الزوار بأعداد كبيرة لأول مرة منذ أربع سنوات، هناك ميل إلى الإشارة لكيفية تحدي المدينة للرواية السائدة عن انحدارها المحتوم. كما أن ازدهار البناء الذي استمر خلال الوباء يعني أن المدينة تبدو أجمل من أي وقت مضى. في الواقع، إنها واحدة من عدد قليل من المدن الكبرى المتقدمة التي تعمل أيضاً على البناء. إذ ستضيف مناطق الأعمال الخمسة الكبرى في طوكيو 760 ألف متر مربع (8.2 مليون قدم مربع) من المساحات المكتبية الجديدة هذا العام، كذلك، توشك أن تكتمل إعادة تطوير منطقة "تورانومون" للأعمال، و"شيبويا" الصديقة للتكنولوجيا.
تشهد سوق الإيجارات نشاطاً كبيراً، حيث انخفض العرض إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، وفقاً لإحدى الدراسات الاستقصائية، ومع ذلك لا تزال المدينة ميسورة التكلفة بشكل مدهش: فقد ارتفع متوسط الإيجارات 3.6% فقط في السنوات الثلاث الماضية. ورغم أن سوق الإسكان في طوكيو ليس مثالية بدرجة كبيرة تجعلها استثماراً رائعاً، فإن العمال سيجدون فيها مكاناً للعيش بسهولة أكبر بكثير من مدن مثل هونغ كونغ.
كيف تعالج اليابان مخاوف المغتربين؟
رغم سمعة معارضتها للهجرة الوافدة، تسعى البلاد بشدة لجذب نخبة المهنيين. مؤخراً، أطلقت الحكومة برنامجاً لإصدار التأشيرات بسرعة للمتعلمين ذوي الدخل المرتفع، الذين يمكنهم الحصول على إقامة دائمة في غضون عام واحد فقط.
كما تُعالج بعض المسائل التي تشغل بال مجتمع المغتربين، فعلى سبيل المثال، هناك طفرة طفيفة في بناء المدارس الدولية الجديدة، ومن المتوقع توفير أماكن لأكثر من 3000 طالب جديد في السنوات القادمة إذ تبني مؤسسات مثل "هارو" (Harrow) المدراس. ورغم عدم شيوع خدمات مدبري المنازل المفضلة في سنغافورة وهونغ كونغ في طوكيو، فإن الكثيرين لا يعرفون أن هناك تأشيرة "مساعدة منزلية" تسمح للأثرياء بكفالة مدبري المنازل؛ وهو خيار غير متاح حتى للمواطنين اليابانيين.
ليس المقصود بكل هذا القول إن طوكيو عادت، أو أنها ستصبح مرة أخرى مركزاً دولياً كما تحلم. لكن تلاشت ندوب النكسات الأخيرة مثل الأزمة المالية إلى الزلازل الثلاثة، وتسونامي، والكارثة النووية في عام 2011 التي أخافت العديد من السكان. كذلك تتزايد أهمية البلاد بالنسبة للولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية.
يحتل بافيت وغريفين وكوهين معاً المراكز الرابع، والحادي والعشرين، والخمسين على التوالي في لائحة أغنى الأفراد في الولايات المتحدة. وإذا اعتقد هؤلاء الأثرياء أن طوكيو قد عادت، فربما يستحق الأمر نظرة جديدة.