يصعب التنبؤ بآثار التغييرات الاقتصادية الكبيرة، فمعظم الأحداث التي يمكن للاقتصاديين ملاحظتها ودراستها محدودة وتدريجية، تتضمن زيادة متواضعة في الحد الأدنى للأجور أو انخفاضًا طفيفًا في معدلات الهجرة، وهذا ما ينبغي أن يجرى في ضوء حذر الحكومات المنطقي من إجراء تجارب اقتصادية ضخمة.
لكن عندما يأمل الناس في تغييرات حقيقية تقلب الواقع، مثل تعويض أحفاد العبيد أو فرض الضرائب على الثروة، فليس أمام الاقتصاديين سوى عدد قليل من التجارب الحديثة للنظر فيها، وفي ذلك يكمن أحد أسباب أهمية التاريخ الاقتصادي؛ فمن خلال النظر في تاريخ الاضطرابات الكبيرة يمكن للمؤرخين الاقتصاديين إلقاء الضوء على النتائج المحتملة للتغييرات الجذرية في السياسة اليوم.
صدمة الثروة بين الأجيال
وتتمثل إحدى هذه الدراسات المثيرة في بحث حديث أعده الاقتصاديون "فيليب أجير" (Philipp Ager) و"ليا بلات بوستان" (Leah Platt Boustan) و"كاثرين إريكسون Katherine Eriksson"، بعنوان "آثار صدمة الثروة الكبيرة بين الأجيال: الجنوبيون البيض بعد الحرب الأهلية"، فباستخدام سجلات التعداد التفصيلية، قام" أجير " وزميلتيه بقياس تأثير الحرب على ثروة مُلّاك العبيد وأبنائهم، طارحين سؤالًا مثيرًا للاهتمام ألا وهو: عندما تسلب الحكومة بعضًا من ثروتك، إلى أي مدى يمكن لك أن تعوّضها بسرعة؟.. والجواب هو: بسرعة كبيرة.
ثروات مُلاك العبيد
واستخدم الخبير الاقتصادي أجير، مجموعة متنوعة من أسماء العائلات وأوضاعهم، من حيث توزيع الثروة وكمية الثروة الموجودة في شكل "ممتلكات شخصية"، التي شملت العبيد قبل الحرب الأهلية، وذلك لتحديد مُلّاك الرقيق المحتملين بين الأسر الجنوبية.
ووجدوا من خلال هذه المقاييس، أن انتهاء الحرب الأهلية وإلغاء العبودية قلصا ثروات ملاك العبيد بنسبة 15 في المئة مقارنة بالجنوبيين ممن كان لهم القدر ذاته من الثروة قبل الحرب.
ويعد هذا الأمر منطقيًا بالطبع؛ فتحرير العبيد كان بمثابة خسارة مباشرة من ثروة مُلاك العبيد، علاوة على عجز المُلاك عن إجبار العبيد السابقين على العمل في أراضيهم، وتقليل ذلك من قيمة أراضيهم.
لكن من جهة أخرى، عند المقارنة بين الآباء والأبناء - بعد تقدير ثروة الأبناء من خلال مهنهم ومراكزهم- وجد الباحثون أن أبناء مُلاك العبيد المحتملين تمكنوا من سدّ هذه الفجوة بالعودة إلى مستوى مساوٍ تقريبًا من الثروة بالمقارنة مع أقرانهم الجنوبيين بحلول عام 1880، بل وتجاوز ذلك المستوى بحلول عام 1900.
ورغم تخلف الجنوب بشكل عام عن ركب الشمال، فيما يتعلق بالثروة، بعد الحرب جرّاء تسارع أهمية التصنيع وتراجع الإنتاجية الزراعية مؤقتً، كانت التغييرات النسبية في الثروة الناتجة عن تحرير العبيد مؤقتة ولم تدم طويلًا.
قد يعود ذلك في جزء منه إلى فشل إعادة الإعمار في ترك تغييرات عميقة ودائمة على المجتمع الجنوبي، ما دفع الجنوب إلى تطبيق نظام للمُزارَعة (أي تأجير الأرض للعامل مقابل حصة من المحصول)، لكن هذا النظام لم يكن أفضل بكثير من العبودية بالنسبة لعمال المزارع من أصحاب البشرة السوداء.
ولاختبار هذا الاحتمال، نظر الباحثون بالتحديد إلى المناطق التي أعيد فيها توزيع الأراضي، أو دمرت بنيتها التحتية من قبل الجنرال "ويليام تي شيرمان" (William T. Sherman)، حيث خسرت العائلات التي امتلكت العبيد في هذه المناطق أكثر من الجنوبيين في أماكن أخرى وبفروق كبيرة في الغالب، نتيجة الاستيلاء على أراضيهم أو خفض قيمتها. لكن من جديد، وخلال جيل واحد، استطاع أبناؤهم تعويض الخسارة، وتحقيق المساواة بل والتفوق على أولئك الذين أفلتوا من الدمار.
كيف استطاع الأبناء النهوض سريعًا؟..
إحدى الطرق كانت بالزواج من الأسر الثرية، وهو الأمر الذي كانوا يميلون إليه. ويرى الباحثون ذلك بمثابة دليل على احتفاظ مُلاك العبيد السابقين بمكانتهم الاجتماعية وعلاقاتهم التي منحتهم العديد من المزايا في المجتمع الجنوبي بعد الحرب، والتي أتاحت لهم الحصول على وظائف جيدة أو جمع الأموال لبدء أعمال تجارية.
إذا ما كان هذا التفسير صحيحًا، فإن للاستنتاج القائل "بنهوض" الأسر بسرعة بعد مصادرة ثروتها آثارا مهمة على تفاوت الثروات في العصر الحديث. لنفترض أن الحكومة الأمريكية أقدمت على إعادة توزيع الثروات على نطاق واسع لمرة واحدة (بدفع التعويضات للأمريكيين الأفارقة على سبيل المثال)، فإذا ما كان في تاريخ الجنوب ما بعد الحرب أي درجة من الصحة، فإن أحفاد الأثرياء الذين تلقّوا الضربة سيعوضون الفرق في غضون فترة قصيرة، بفضل استمرار العلاقات البشرية التي تحدد فرص الثراء، وحتى ضريبة الثروة السنوية يحتمل ألا يكون لها سوى تأثير محدود في تسوية التوزيع.
أما في الوقت الحالي، فيبحث العديد من الاقتصاديين وصناع السياسات عن طريقة للحد من التفاوت في الثروة:
وفي هذا الشأن، يوصي البحث- الذي أجراه "أجير" - بأنه لتعزيز التكافؤ في توزيع الثروة في الولايات المتحدة بطريقة هادفة ومستدامة، يتعين على الحكومة أن تسعى إلى أبعد من مجرد إعادة توزيع الموارد، وذلك من خلال معالجة الآليات التي يستخدمها الناس لتحقيق الثراء فعلًا.
وإذا أصاب "أغير" فإن الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية تمثل آلية مهمة بشكل غير معقول، فعلى الرغم من انخفاض التمييز العنصري منذ عام 1970، لا يزال الأمريكيون السود والبيض يميلون إلى العيش في أحياء مختلفة والالتحاق بمدارس مختلفة، بل ونرى الأمريكيين الفقراء في وضع سيئ للغاية من حيث الالتحاق بالجامعات:
عندما يحين الوقت للحصول على وظيفة جيدة أو بدء عمل تجاري خاص، يكون لأبناء الأمريكيين الأثرياء علاقاتهم التي تفتح الأبواب أمامهم دونًا عن أبناء الفقراء.
وفي ضوء ذلك كله، تتطلب المساواة في توزيع الثروة أكثر من نقل الأموال وتحويلها، كالتحاق المزيد من أبناء الفقراء والأقليات بالجامعات الجيدة وفرض قانون الإسكان العادل لمساعدة الأحياء السكنية على التخلص من الفصل العنصري بشكل أسرع، وغيرها من التدابير لمساعدة أبناء الأثرياء على تكوين روابط اجتماعية قوية مع أبناء الفقراء. فما لم يتغير الشكل الأساسي للمجتمع، على الولايات المتحدة ألا تتوقع سوى نتائج عابرة في إعادة توزيع الثروات كالتي نقرأ عنها في كتب التاريخ.