ربما كان الألماني كارل بنز هو مخترع السيارة، ولكن الولايات المتحدة الأميركية هي التي جعلتنا نقودها.
استمرت الولايات المتحدة الأميركية في تصدير السيارات ونشر ثقافة القيادة عالمياً بصورة هائلة، ما جعل من استخدام السيارات على الطرق مسألة شائعة خلال القرن العشرين. مع حلول ستينيات القرن الماضي، كانت شركة "فورد موتور" تملك مصانع عبر معظم أنحاء الدول الأوروبية الكبرى، بالإضافة إلى الأرجنتين والبرازيل ومصر والهند وإسرائيل وبيرو وباكستان وجنوب أفريقيا وتركيا وزيمبابوي.
في الوقت الحالي، تنتقل هذه الراية إلى الصين دون مقاومة تُذكر. سيصبح قطاع السيارات الأميركي مستقبلاً أصغر حجماً وأقل تأثيراً، وفي نهاية المطاف، أقل ربحية واستدامة من الناحية المالية.
مصير مصانع "جنرال موتورز" في الصين
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن يتعلق بمصير الوحدات الصينية لشركة "جنرال موتورز"، التي تتكون في الغالب من مشروعات مشتركة مع شركة "إس إيه آي سي موتور". تشتهر هذه الشركة، التي تديرها حكومة مدينة شنغهاي، دولياً بإعادة إحياء العلامة البريطانية العريقة "إم جي" (MG) من خلال مجموعة من سيارات الدفع الرباعي والسيارات الصغيرة ذات الأسعار المعقولة، والموجهة للتصدير.
لا يخفى على أحد أن هذه المشاريع تواجه تحديات كبيرة. قبل 10 أعوام، كان دخل حقوق الملكية المحسوبة من الصين يمثل أكثر من نصف صافي أرباح "جنرال موتورز"، لكن خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، تكبدت الشركة خسائر بلغت 347 مليون دولار. صرحت المديرة التنفيذية ماري بارا للمستثمرين خلال يوليو الماضي: "إنها سوق صعبة في الوقت الراهن. يوجد عدد قليل للغاية من الشركات التي تحقق أرباحاً".
هبطت مبيعات طراز "شيفروليه" بصورة كبيرة، من المتوقع أن تنهي السنة بالكاد عند 10% من مستواها خلال 2019. أداء طرز "كاديلاك" ليس أفضل كثيراً. حتى "بويك" -تحظى بمكانة كبيرة في الصين باعتبارها العلامة التجارية المفضلة لدى سون يات سين زعيم الاستقلال وشو إن لاي رئيس الوزراء على مدى حقبة كبيرة- تواجه صعوبات في الاستمرار.
الوضع أفضل نسبياً مع العلامة التجارية المحلية "وولينغ"، التي تكلف سياراتها الكهربائية الصغيرة 8 آلاف دولار، لكن يبدو أن طراز "باوجون"، النموذج الآخر في المشروع المشترك مع "جنرال موتورز"، يواجه تراجعاً كبيراً.
كثيراً ما أكدت بارا التزامها بالسوق الصينية، لكن التوقعات لم تكن أشد تشاؤماً من الوقت الحاضر. تعقد "جنرال موتورز" و"إس إيه آي سي" اجتماعات باستمرار حتى نهاية العام، لإعادة هيكلة أصولها بهدف تحقيق الربحية.
يبدو أن هذه المهمة ستكون صعبة. بالنظر إلى الانهيار الكبير في المبيعات، فإن عكس الوضع يتطلب ضخ استثمارات كبيرة لتجديد مجموعة طُرز، وهو أمر لم يظهر أي من الطرفين استعداداً كبيراً لفعله في قطاع كان يعتمد منذ فترة طويلة على التمويل ذاتياً.
تواجه "إس إيه آي سي" مشكلات خاصة بها في مواجهة المنافسين المحليين، ما يعني أن لعبها دور "المنقذ المالي" غير مرجح. لقد تجاوزت شركات مثل "بي واي دي" و"غريت وول موتور" و"سيريس غروب" –التي تصنع سيارات العلامة التجارية "أياتو" (AITO) التابعة لشركة هواوي- رأس المال السوقي لـ" إس إيه آي سي"، مع اقتراب منافسين آخرين من تحقيق الأمر ذاته.
التكامل بين الوحدات يصطدم بالواقع
آفاق التعاون وتحقيق التكامل بين أعمال "جنرال موتورز" في الصين والولايات المتحدة الأميركية لم تكن أسوأ من الآن.
جرى حظر السيارات أو المكونات المصنوعة في الصين والتي تنقل البيانات من السوق الأميركية بموجب لوائح أقرها الرئيس الأميركي جو بايدن خلال سبتمبر الماضي. اقترح خليفته دونالد ترمب فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على الواردات الصينية، ومن المتوقع أن تستهدف بكين في المقابل السيارات أميركية الصنع، التي ما زالت تمثل أحد أكبر تدفقات التجارة في الاتجاه المعاكس.
حتى مع توجهها نحو السيارات الكهربائية، فإن أعمال "جنرال موتورز" الأساسية في أميركا الشمالية -المتعلقة بسيارات الدفع الرباعي والشاحنات الكبيرة- تختلف تماماً عن مجموعة "وولينغ" الناجحة محلياً من السيارات والشاحنات الصغيرة وشاحنات التوصيل.
تشير العديد من تحركات "جنرال موتورز" الأخرى إلى أنها بدأت بالفعل تتجاوز مسألة المشاريع المشتركة القائمة. إذ تركز بصورة متزايدة على تصدير السيارات المصنعة في الولايات المتحدة إلى الصين عبر منصة "دورانت جيلد" (Durant Guild)، وهي منصة تُعرف بـ"منصة نمط الحياة" وتستهدف العملاء الأثرياء الذين قد لا يهتمون كثيراً بتكلفة إضافية ناجمة عن الرسوم الانتقامية من حقبة ترمب.
خلال سبتمبر الماضي، أبرمت "جنرال موتورز" اتفاقية مع "هيونداي موتور" لبحث إمكانية التعاون في تطوير سيارات تعمل بوقود أكثر نظافة، وتأمين مصادر للمواد الخام اللازمة لتصنيع البطاريات. يعد هذا بالضبط نوع الصفقات التي قد تعقدها إذا كنت تخشى أن ترتيباتك الحالية مع الصين، أكبر منتج في العالم للسيارات النظيفة والبطاريات، يصطدم بمشكلات جسيمة.
لا ينبغي حتماً أن تنسحب "جنرال موتورز" من أكبر سوق للسيارات في العالم، لكن حدوث ذلك سيكون متسقاً مع قرارات بارا الجريئة المشابهة للخروج من أوروبا والهند خلال 2017. مثل هذه الخطوة ستكون محل ترحيب من المستثمرين الذين دفعوا بأسهم الشركة إلى الارتفاع لقرابة الضعف منذ بدء تداول شائعات عن انسحاب محتمل من الصين قبل سنة.
إعادة هيكلة الأعمال في السوق الصينية
قد يكون المسار الوسطي هو اتباع نهج "فورد" وشركة "ستيلانتيس" مالكة "كرايسلر" من خلال إعادة هيكلة الأعمال، بحيث تتولى الشركة الصينية تصنيع السيارات، بينما يقوم الشريك الأجنبي بتصديرها إلى أسواق منخفضة التكلفة مثل جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية.
رغم ذلك، تعمل "إس إيه آي سي" بجد على بناء شبكات توزيع دولية خاصة بها. بدأت مؤخراً برعاية نادي أرسنال الإنجليزي لكرة القدم، إضافة إلى أندية كبرى في الدوريين الفرنسي والسعودي، وفريق في دوري لعبة الرغبي الوطني في أستراليا. علاوة على ذلك، يبدو أن تحويل "جنرال موتورز" إلى مجرد وكيل سيارات، سيبعدها عن تحقيق أرباح مستدامة.
سيشكل أي من هذه الخيارات مسماراً آخر في نعش القوة الناعمة الأميركية. عندما واجهت ديترويت آخر أزمة كبرى خلال 2009، كان حوالي ثلثي مبيعات "جنرال موتورز" و"فورد" تأتي من خارج الولايات المتحدة الأميركية. مع انخفاض المبيعات في الصين، نقترب من نقطة يصبح فيها ثلثا المبيعات من السوق المحلية الأميركية. بدأ قطاع السيارات الأميركية يعود للإنكفاء على نفسه لأول مرة منذ قرن. أسهمت ديترويت في انتشار قيادة السيارات عالمياً، وهو الإرث الذي ستنعم به "بي واي دي".
خلاصة
كانت الولايات المتحدة رائدة في نشر ثقافة القيادة عالمياً خلال القرن العشرين، بفضل شركات مثل "فورد" التي امتدت مصانعها إلى مختلف القارات. ومع ذلك، يشهد قطاع السيارات الأميركي تراجعاً في تأثيره العالمي، حيث تتصدر الصين الآن المشهد. تواجه "جنرال موتورز" تحديات كبيرة في السوق الصينية، حيث انخفضت أرباحها وتحولت مشروعاتها المشتركة مع "إس إيه آي سي موتور" إلى عبء بسبب المنافسة الشرسة من الشركات الصينية الرائدة مثل "بي واي دي".
في ظل انخفاض مبيعاتها في الصين، تتجه "جنرال موتورز" لإعادة هيكلة عملياتها بالتركيز على السوق الأميركية وتعزيز تصدير السيارات عبر منصات فاخرة تستهدف العملاء الأثرياء. ومع ذلك، قد يؤدي الانسحاب التدريجي من الصين إلى تعزيز الانكفاء الأميركي في قطاع السيارات لأول مرة منذ قرن، ما يفسح المجال لشركات صينية للاستحواذ على الريادة العالمية، خاصة في سوق السيارات الكهربائية التي تشهد ازدهاراً متسارعاً.