يُعد تسرب السائل الدماغي النخاعي، الناجم عن حدوث تمزقات أو ثقوب في الحبل الشوكي، أمراً نادراً ويصعب اكتشافه، وقد يقضي المرضى سنوات دون تشخيص صحيح نظراً للأعراض الشائعة، التي تشمل الغثيان وآلام الرقبة وطنين الأذن والصداع المنهك عند الوقوف، وقيل لعدد منهم إنهم مصابون بالحساسية.
مع تزايد عدد المجالات الطبية، قد يُحدث الذكاء الاصطناعي تغييراً جذرياً في طريقة اكتشاف هذه الأمراض وعلاجها، عبر زيادة الدقة، وتوفير النفقات، وفي بعض الحالات، عبر تحسين كبير في حياة المرضى. ورغم الطبيعة التشخيصية لمعظم الأجهزة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التي وافقت عليها الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة، تتعدد الاستخدامات الممكنة لهذه التكنولوجيا في قطاع الرعاية الصحية، بدءاً من أتمتة الأعمال الإدارية الرتيبة ووصولاً إلى اكتشاف الأدوية، وتشير بعض التقديرات أن تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع قد يوفر 360 مليار دولار من حجم الإنفاق الصحي السنوي.
الذكاء الاصطناعي يطور أجهزة الأشعة
ربما يقدم تسرب السائل النخاعي لمحة عن المستقبل، فرغم أن أشعة الرنين المغناطيسي قد تظهر تغيرات في المخ تشير إلى وجود تسرب، إلا أن العثور على مصدره، الذي عادةً ما يكون رافداً شريانياً يسرب بشكل متقطع ويمكن أن يحدث في أي نقطة على امتداد العمود الفقري، يتطلب مسحاً تمييزياً أكبر عبر جهاز الأشعة المقطعية، رغم ذلك، لم يحدث تطوراً ملموساً في التكنولوجيا الأساسية التي تشغل هذه الآلات منذ عقود.
إلا أن هذا الوضع يتغير في الفترة الحالية، إذ تستخدم ما يطلق عليها "أجهزة الأشعة المقطعية عبر عد الفوتونات" الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتطورةـ لاكتشاف التسرب النخاعي الذي لم يكن مرئياً في ما سبق، ما يتيح العلاج، ويؤدي إلى الشفاء التام في معظم الأحيان. ووصف المرضى هذه التكنولوجيا بأنها أحدثت تغييراً جذرياً.
وبعيداً عن علم الأعصاب، يمكن لهذا النوع من أجهزة الأشعة اكتشاف الاختلالات الطفيفة قبل تحولها إلى مخاطر جسيمة على الصحة، بدءاً من تمدد الأوعية الدموية غير المتمزق ووصولاً إلى الدرجات الخطيرة من الترسبات في الشرايين، كما أن قدرتها على فحص أمراض القلب والأوعية الدموية، والسكتات الدماغية، اللذين يُعدان من أكبر أسباب الوفاة على مستوى العالم، قد تُحدث تغييراً جذرياً في الرعاية الوقائية.
نقص البيانات لتدريب الذكاء الاصطناعي
يتمثل أحد التحديات الرئيسية أمام الأجهزة الطبية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، بما يشمل أجهزة الأشعة والروبوتات الجراحية والتفريغ التلقائي للمحادثات، في حجم البيانات اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، ففي الولايات المتحدة، تُخزن هذه المعلومات في قواعد بيانات مقدمي خدمات الرعاية الصحية والمستشفيات عادةً، ورغم استثمار الحكومة مليارات الدولارات للتشجيع على مشاركة البيانات، أشار أكثر من 60% من المستشفيات إلى وجود عائق أساسي واحد على الأقل أمام تبادل البيانات، فيما يواصل نحو 70% استخدام آلات الفاكس.
يجب أن تُعطى الأولوية لتحسين هذا الوضع، فدقة وفائدة استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي تتوقفان على إمكانية وصول المطورين إلى كميات هائلة من البيانات، والأفضل أن يكون مصدرها عدداً من أنظمة الرعاية الصحية والدول بصيغ ولغات متنوعة.
الأمر المشجع أن القطاع الخاص حالياً في المراحل المبكرة من تطوير أدوات ذكاء اصطناعي أخرى يمكنها معالجة البيانات "غير المهيكلة". لكن رغم إبداء الهيئات الصحية الحكومية في الولايات المتحدة اهتمامها، لم تتبن هذه المنتجات بشكل كامل لأسباب تنظيمية. ويُعد تعديل هذه القواعد التنظيمية خطوة أولى مهمة نحو تبني التكنولوجيا على نطاق أوسع.
كذلك يجب على المشرعين الاضطلاع بدورهم أيضاً في ذلك الشأن، ففي ظل توفير الكونغرس الأميركي التمويل، يمكن للهيئات الحكومية العمل معاً على تطوير قاعدة ضخمة من بيانات المرضى عالية الجودة ومن دون الكشف عن الهويات، يمكن استخدامها في تدريب الذكاء الاصطناعي، فتدريب النماذج على "البيانات من الفئة التنظيمية" -على حد وصف المفوض السابق لإدارة الغذاء والدواء الأميركية سكوت غوتليب- سيزيد دقتها في التشخيص، وحينها يمكنها الحصول على موافقات بسهولة.
تحديات أخرى أمام التكنولوجيا
أعلنت إدارة الغذاء والدواء ووزارة شؤون المحاربين القدامى الشهر الجاري، عن خطة من هذا النوع، وهي معمل مشترك للذكاء الاصطناعي، يهدف إلى اختبار أدوات الذكاء الاصطناعي باستخدام بيانات المحاربين القدامى. ويعد تضييق نطاق مهمة إدارة الغذاء والدواء، من خلال التركيز على ضمان جودة البيانات ودقتها، ومنع التحيز، قد يؤدي أيضاً إلى تحسين استخدام الموارد المحدودة.
إلا أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التشخيص والفحص الوقائي ليس مساراً بلا عقبات، فبالإضافة إلى التكلفة، هناك خطر التدخلات التي لا حاجة لها أو المضرة.
مع ذلك، ستصبح الأشعة التي تُجرى بشكل أسرع ودقة أكبر في نهاية المطاف ميسورة التكلفة وسهلة الإجراء، بالأخص للمرضى الأكثر عرضة للمخاطر الصحية. وجدير بالذكر أن الشكوك الأولية في إجراء الأشعة المقطعية الوقائية على المدخنين سرعان ما تبددت بعد أن أظهرت البحوث أن عمليات الفحص قللت مخاطر الإصابة بسرطان الرئة بدرجة كبيرة.
لم تعد قدرة الذكاء الاصطناعي على تحسين حياة المرضى أمراً نظرياً، بل بات يمكن أن تصبح معياراً للرعاية وسط تزايد إمكانية الوصول إلى البيانات، والعلاج المعتمد على الذكاء الاصطناعي.
باختصار
تسرب السائل الدماغي النخاعي هو حالة نادرة تنتج عن تمزقات أو ثقوب في الحبل الشوكي، وغالباً ما تحدث عدة أعراض مثل الغثيان وآلام الرقبة. هذه الأعراض المشتركة مع الكثير من المسببات الأخرى، تجعل التشخيص الدقيق عملية صعبة، مما قد يؤدي إلى تشخيصات خاطئة مثل الإصابة بالحساسية. الذكاء الاصطناعي يُحدث ثورة في كيفية اكتشاف ومعالجة هذه الأمراض، إذ يمكنه تحسين الدقة، تقليل التكاليف، وتحسين جودة حياة المرضى بشكل كبير، حيث يُستخدم في تقنيات متقدمة مثل أجهزة الأشعة المقطعية لاكتشاف التسريبات غير المرئية سابقاً، وتقديم علاج فعال وشفاء تام في كثير من الحالات.
ومع ذلك، تواجه تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الطب تحديات كبيرة، أبرزها نقص البيانات اللازمة لتدريب النماذج بكفاءة. البيانات المتوفرة غالباً ما تكون مخزنة في قواعد بيانات متفرقة، ولا يتم تبادلها بين المؤسسات الطبية بشكل فعال، مما يحد من قدرة النماذج على التعلم والتطور. هذا يحتم ضرورة إعادة هيكلة طرق جمع البيانات وتبادلها لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي في مجالات التشخيص والعلاج، مما يضمن استفادة أقصى من هذه التكنولوجيا المتقدمة في الرعاية الصحية.