عندما ورد في عناوين الأخبار أخيراً أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير "حاسبة وفيات" تتنبأ باليوم الذي سيأتي فيه أجل شخص ما، بدا ذلك وكأنما أتى من قصة خيال علمي مرعبة. غير أن ردود الأفعال أظهرت مدى سهولة اقتناع الناس بأن الذكاء الاصطناعي له قدرات سحرية على قراءة الطالع.
واقعياً، لم يكن الأمر مفرطاً في الخيال إلى هذه الدرجة. فقد استخدمت الدراسة، التي أثارت ضجة بعد نشرها في مجلة "ساينس كومبيوتيشنال ساينس" (Nature Computational Science)، الذكاء الاصطناعي للتنبؤ باحتمالات الوفاة، لكنها لم تكن بالغة الدقة. تمكن النظام القائم على الذكاء الاصطناعي من التنبؤ باحتمالات الوفاة استناداً إلى بيانات اقتصادية وصحية لآلاف الأشخاص في الدنمارك، حيث بلغت دقة التنبؤات بالمعرضين للوفاة بينهم خلال السنوات الأربع القادمة 78%.
تستطيع الخوارزميات المستخدمة لإنشاء الجداول الاكتوارية إنجاز هذا النوع من التنبؤ الإحصائي، لكن نظام "لايف2فيك" (life2vec) الجديد أدق ويعمل بطريقة مختلفة تماماً. قال سونه ليمان، مؤلف الدراسة الرئيسي وأستاذ علوم التعقيد بجامعة كوبنهاغن، إن "لايف2فيك" يتنبأ بأحداث الحياة كما يتنبأ روبوت الردشة "تشات جي بي تي" بالكلمات.
سلاح ذو حدين
تكتسب النتائج أهمية خاصة وليس ذلك لأنها قد تنتج "حاسبة وفيات" دقيقة على نحو مخيف، ولكن بسبب كيفية استغلال هذه التنبؤات. على سبيل المثال، قد يساء استخدام مثل هذه الخوارزميات لخدمة أغراض مثل التمييز أو حرمان الأشخاص من حقهم في الحصول على الرعاية الصحية أو التأمين.
بينما يمكن تسخيرها للخير من خلال تسليط الضوء على العوامل التي تؤثر على متوسط الأعمار ومساعدة الناس على أن يعيشوا لفترات أطول. كما قد تحسن حسابات العمر الافتراضية، التي يستخدمها بعضنا في التخطيط لتقاعدهم.
قال ليمان: "كان أمراً غريباً أن نرى كيف حُرِفَت النتائج. فقد قال الناس إن هذا النظام القائم على الذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ باللحظة التي ستموت فيها بدقة مذهلة"، وذلك لأن الناس لم يفهموا التقنية بعد. وكما قال آرثر سي كلارك، وهو أسطورة في مجال الخيال العلمي، إن أي تقنية متقدمة بالقدر الكافي لن يمكن التمييز بينها وبين السحر.
في الوقت ذاته، تقحم المستشفيات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في شتى الوظائف. فهل سيثق الأطباء ومديرو المستشفيات بقرارات أو توقعات تلك التطبيقات لأنها سريعة وتبدو واثقةً في تنبؤاتها؟ هل يستطيع النظام الطبي استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول إن كان لدى الناس أفكار غير واقعية أو خيالية بشأن ما يمكنها فعله؟
قال ليمان إن عمله في هذا المجال يهدف إلى اختبار قدرات التنبؤ بشتي أنواع الأحداث الحياتية، بما في ذلك التغيرات التي ستطرأ على الوظائف والدخل والانتقال. يبحث ليمان عن فهم علمي أكثر اتساقاً للطريقة التي يمكن للخوارزميات عبرها التنبؤ بالظواهر المعقدة. لكن غالباً ما تعامل أبحاث هؤلاء العلماء على أنها صندوق أسود يكتنفه الغموض. لم يختر الباحثون الموت لأنهم يعتريهم إنشغال مرضي به، بل لأنه حدث يمكن قياسه وتسجيله بدقة.
سيكون السؤال بشأن فئات الشباب سهلاً جداً، إذ غالباً ما ستصيب توقعاتك إن تنبأت بعدم وفاة أي منهم خلال السنوات الأربع القادمة. كما لن يكون التنبؤ بحالات الوفاة خلال عام واحد من الصعوبة بمكان، كل ما عليك فعله هو معرفة أيهم أشد مرضاً. سيكون التنبؤ بالمستقبل أصعب كلما امتدت الفترة، حتى تصل إلى مرحلة زمنية متقدمة بما يكفي ليكون الجميع تقريباً قد توفوا.
مخاطر التنبؤ
في هذه المرحلة، لا يرجح أن يفاجئ الذكاء الاصطناعي أي شخص بشأن متوسط العمر المتوقع. إن كانت صحتك جيدة ولست مسناً، فيُتوقع أنك ستعيش لأكثر من أربع سنوات. قال أندرو بيم، أستاذ المعلوماتية الطبية الحيوية في كلية الطب بجامعة "هارفرد"، إنه لا يمكن التنبؤ بأنك ستتعرض لحادث غريب أو ما إذا كنت ستموت في غضون 10 أو 15 أو 20 عاماً.
أشار بيم إلى خطر أن يضلل الذكاء الاصطناعي بسبب تحيزات السلطة: "إذا كنت تعتقد أن شخصاً ما يفوقك ذكاءً أو لديه إمكانية الوصول إلى معلومات لا تملكها، فهناك ميل حقيقي لتعطيل التفكير النقدي وتصديق أي شيء يقوله، سواء كان شخصاً حقيقياً أو خوارزمية ذكاء اصطناعي".
يجيد روبوت الدردشة "تشات جي بي تي" توليف المعلومات، لكنه ليس انتقائياً جداً وسيقحم معها دراسات مشكوك فيها ومعلومات مغلوطة. قال بيم: "بالتالي، إذا كنت في مجال غير مستند إلى علوم راسخة أو لم تبلغه المعرفة الإنسانية بعد، فإن (تشات جي بي تي) سيكون بنفس السوء إن لم يكن أسوأ من أي شخص حقيقي".
قال بيم إن التنبؤ بوفاة شخص صحته جيدة على المدى الطويل هو من قبيل الخيال العلمي: "علينا توخي الحذر حين نطلب من الذكاء الاصطناعي أن يفعل أشياء ما يزال جلياً أنها من قبيل الخيال العلمي".
في بعض الأحيان، يمكن للخيال أن يرصد الواقع من خلال تذكيرنا بأن أفعالنا تؤثر على المستقبل، حتى في المسائل المتعلقة بالحياة والموت. لنأخذ، على سبيل المثال، ما حدث في قصة تشارلز ديكنز الكلاسيكية "ترنيمة عيد الميلاد". لقد استعرض شبح عيد الميلاد المقبل لإبنيزر سكرودج مستقبلاً مرعباً يصطبغ بالوحدة والحزن والموت. فطرح سكرودج سؤالاً ذكياً ونقدياً: "هل هذه خيالات ما سيكون أم ما قد يكون فحسب؟"
لو أن المراسلون الذين يحاولون تخويف الناس بنظام "لايف2فيك" طرحوا هذا السؤال، لحصلوا على نفس الإجابة التي حصل عليها سكرودج من الشبح: بالطبع يمكن لأفعالنا أن تغير المستقبل، فالتنبؤ لا يحدد مصائرنا.
يعزز هذا النظام الجديد ما أظهرته دراسات أخرى، وهو أن الدخل ونوع الوظيفة يمكن أن يؤثرا على طول حياتك. هنالك ارتباط بين الوفاة المبكرة وبين أن يكون المرء فقيراً ويعمل في وظيفة يمارس فيها آخرون سلطةً عليه، وهو أمر أدركه ديكنز منذ زمن بعيد. ربما يستطيع الذكاء الاصطناعي تحويل هذه الملاحظة العامة إلى سيناريوهات مؤثرة من الحياة الواقعية لتحفيز بخلاء العصر الحديث على معالجة أوجه عدم المساواة التي تقصر أعمار الكثيرين.