يصعب أن أحدد بدقة اللحظة التي هيمن فيها الهاتف الذكي على حياتي، فقد تغلل مثل عشبة العقدة اليابانية خلسة إلى حديقتي الذهنية وأزاح تدريجياً أشكال جذب الانتباه الأخرى، حتى ترسّخ في كلّ نشاطاتي تقريباً. نادراً ما أتفقد إجمالي ما أمضي من وقت ناظراً إلى شاشته، لكنني أتذكر أنني أحسست بضيق ملتبس منذ بضعة سنوات حين أدركت أن وسطية ذلك بشكل يومي تجاوز ستّ ساعات، وقد تخطى ذات مرة 11 ساعة منذ زمن ليس ببعيد.
قبل عقدين كان يستحيل أن نتخيل أننا سنحمل جهازاً صغيراً يعمل في آن كهاتف وتلفزيون وراديو ومشغلّ موسيقى ومتجر وصحيفة وكتاب وخريطة ومصرف وجهاز ألعاب وتذكرة دخول وآلة حاسبة ومترجم، من بين أمور كثيرة أخرى، لا يتسع المجال لذكرها جميعاً. حتى أنني استخدمت هاتفي كشريط قياس، ولمساعدتي على تحديد أسماء بعض النباتات، وأيضاً كإثبات هوية لدى الحكومة. بالتالي، كان حتمياً أن يترتب على امتلاك كل هذه القوة ثمن لا بد من دفعه. ولكن شيئاً فشيئاً، بدأ يتضح أن الثمن الأكبر غير المتوقع أوالمقبول هو ما يدفعه أطفالنا من صحتهم النفسية.
جريمة مروّعة
تطلبت صحوتي وقوع جريمة قتل راحت ضحيتها طالبة مدرسة ثانوية في شمال غرب إنجلترا لأعترف في خلدي بوجود مشكلة. لقد حُكم في فبراير بالسجن على مراهقين أدينا بقتل بريانا غي عن 16 عاماً، وصارت فتاة نتيجة لتحول جنسي، فانطلق بذلك نقاش وطني حول استخدام الأطفال للتقنيات.
كانت غي مدمنة على وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل منها هدفاً سهلاً، فيما بيّن أحد زميليها اللذين طعناها أنه كان قد شاهد مقاطع تعذيب وقتل على الويب المظلم عبر الهاتف النقال. وقد أطلقت والدة غي حملة تطالب بحظر استخدام الأطفال دون سن 16 عاماً لتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي. وتحت وطأة الضغط الشعبي، أصدرت الحكومة البريطانية إرشادات جديدة تحظر استخدام الهواتف النقالة في المدارس.
مواقع التواصل الاجتماعي ملاذ آمن لمرتكبي التنمر الإلكتروني
سلّطت هذه الجريمة النادرة والوحشية الضوء على الضرر الأوسع والدائم الذي تلحقه الهواتف الذكية، بالأخص وسائل التواصل الاجتماعي بالصحة النفسية والعاطفية لليافعين. وكانت أعداد متزايدة من الدراسات الأكاديمية خلصت إلى نتائج مروّعة. فقد أثبتت دراسة تلو الأخرى بالأدلة انتشار وباء عالمي يفتك بالصحة النفسية، إذ زادت بشدة معدلات القلق والاكتئاب واضطراب نقص الانتباه مع فرض النشاط وفقدان الشهية العصابي وغير ذلك منذ 2012، أي في نفس فترة انتشار الهواتف الذكية. وتعدّ الفتيات أكثر عرضة للخطر.
الأطفال الأصغر
لا يعني التزامن علاقةً سببيةً بالضرورة، لكن لا يوجد أي تفسير آخر يتناسب مع البيانات. ويشكّل التدهور العالمي للصحة النفسية دليلاً قوياً على هذه العلاقة. في حين قد يكون لدى الطلاب الأميركيين أسباباً أخرى للقلق، كحوادث إطلاق النار في المدارس، إلا أن ذلك لا يفسر أسباب انتشار هذه المشاعر لدى الطلاب في نيوزلندا أو البرازيل مثلاً.
وكلّما حصل الطفل على هاتف ذكي في عمر أصغر، زاد الضرر الذي يحلّ به. خلصت دراسة أن 74% من النساء اللواتي حصلن على هاتف ذكي قبل سن السادسة تشير بياناتهم التي استخلصتها إلى "شدةً نفسية" أو إلى أنهن في "معاناة"، وقد شملت هذه الدراسة الدولية 27969 شخصاً أعمارهم بين 18 و24 عاماً وأدارتها المنظمة غير الربحية "سابيين لابز" (Sapien Labs) ونشرتها العام الماضي. تنخفض هذه النسبة إلى 46% لدى اللواتي حصلن على هاتف ذكي لأول مرة في عمر 18. (فيما يخصّ الرجال، كانت النسبة 42% لدى من حصلوا على هاتف ذكي في عمر السادسة، و36% لدى الذين حصلوا عليه في عمر 18).
دفعني الغوص في هذه النتائج إلى التشكيك في عاداتي، وما هو المثل الأعلى الذي أقدمه؟ يبدي طفلي الذي بلغ الخامسة من عمره اهتماماً بالغاً بالهاتف. وإذا ما سنحت له الفرصة، سيخطف الهاتف من يدي ويختبئ في زاوية في الطابق العلوي من المنزل ليشاهد مقاطع عبر يوتيوب لقرش ميغالودون (كان قد بدأ بفيديوهات الأسماك ثم انتقل إلى أسماك القرش). ويقول لي إن هذه القروش ما تزال موجودة وتعيش في أعماق المحيطات، متحدثاً بالطريقة المحببة التي يشرح بها الأطفال في سنه حقائق الكون للراشدين. لكن حماسته المتأتية من تحايله على الضوابط التي كانت تبدو ظريفة رغم أنني لم أكن لأشجعه عليها، باتت دلالة خطر.
إذا كان "تيك توك" و"سناب" لا يضران الأطفال.. فليثبتا ذلك
الفتيات أكثر تأثراً من الفتيان
سهل أن نفهم بديهياً السبب الذي يمنح الهواتف الذكية مثل هذا التأثير المدمر على العقول الشابة. فكما أشارت دراسة "سابيان لابز"، السلوكيات الاجتماعية معقدة، وتتطلب قراءة الاختلافات البسيطة في تعابير الوجه ولغة الجسد ونبرة الصوت وحتى الرائحة، وتلك كلها أمور لا بدّ من تعلمها وهي تشابه الرياضات الجماعية من حيث إنها تتطلب تمارين ميدانية متكررة لبلوغ مستوى احترافي.
بالتالي، الأطفال الذين يمضون الجزء الأكبر من سنواتهم الأولى في عالم افتراضي يفتقرون لتفاعلات مباشرة تمكنهم من اكتساب القوة والروابط الاجتماعية المتينة.
ينطبق ذلك أكثر على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحاكي تفاعلات العالم الحقيقي مع إلغاء ضوابط تتيح تعديل السلوك في تفاعلات العالم الحقيقي. فالتصرف برعونة أو حتى بقسوة يصبح أسهل حين لا ترى ولا تشعر فوراً بردة فعل المتلقي. وتُعدّ الفتيات أكثر عرضة لمخاطر وسائل التواصل الاجتماعي ومشاعر اليأس بسبب المقارنة مع الآخرين التي تولّدها تطبيقات مثل "إنستغرام" من "ميتا بلاتفورمز"، ما يشرح سبب تأثير هذه التطبيقات على صحتهن النفسية أكثر من الفتيان الذين يميلون نحو ألعاب الفيديو.
دعاوى قضائية تسعى لحماية الأطفال على منصات التواصل
إدمان وسائل التواصل الاجتماعي
وسائل التواصل الاجتماعي مسببة للإدمان بطبيعتها، فهي تحفز على إفراز الدوبامين عند الحصول على إعجابات وتفاعلات بأسلوب أراه يحاكي آلات القمار التي تمكّن المقامرين من الفوز بمبالغ صغيرة بشكل متكرر بغرض دفع الزبائن على مواصلة اللعب. الراشدون أيضاً عرضة للإدمان، ولكن على الأقل قشرة الفص الجبهي اكتملت لدينا بحيث يمكنها أن تكبح اندفاعاتنا المدمرة.
دعوى قضائية تتهم "ميتا" و"سناب" بالمسؤولية عن انتحار فتاة
بدأت الفئة الأصغر سناً من الجيل الأول من الأطفال الذين حصلوا على هواتف ذكية تقترب من سن البلوغ اليوم، وقد تحوّل هذا الأمر إلى تجربة ضخمة خرجت عن السيطرة، وبدأت تتراكم الأدلة على الثمن البالغ الذي دُفع. مثل فاوست، لقد قبلنا بهدية المعارف العظيمة والسهولة دون أن ندرك ما يترتب عليها من عواقب لم نكن نحن من تحمّلها في الأساس.
مع ذلك، ما تزال الفرصة سانحةً لتغيير هذا المسار. وبالنسبة لي، يعني ذلك وضع هاتفي جانباً حين أكون في المنزل والتخفيف من تصفّح وسائل التواصل الاجتماعي بلا هدف (وقد تخليت أصلاً عن تطبيق "إكس" المعروف سابقاً باسم "تويتر" التابع لإيلون ماسك)، واتّباع بشكل عام نصيحة جين توينج، إحدى أوائل الباحثين في هذا المجال، وقد قالت:
"المبهج في الأمر هو أنك لست مضطراً للتخلي عن هاتفك. استخدمه لكلّ الغايات الرائعة التي يقدمها، لساعة أو ساعتين في اليوم. ثمّ عش حياتك، اركض أو اسبح، شاهد غروب الشمس، واحصل على قسط من النوم. اذهب لزيارة صديق، ليس عبر "سناب تشات" بل وجهاً لوجه. انظر لتعابير وجه صديقك واستمع إلى نبرة صوته وعانقه. باختصار، اجعل هاتفك أداة تستخدمها وليس أداة تستخدمك".