قد تشكل الصور والتسجيلات الصوتية الواقعية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي أحدث تهديد للديمقراطية، لكنها جزء من سلسلة ممتدة من أساليب الخداع.
لكن تطوير الذكاء الاصطناعي بهدف تفنيد الشائعات أو تدريب الجمهور على تمييز الوسائط المزيفة لا يعتبر أمثل وسيلة لمكافحة ما يسمى بالتزييف العميق، بل قد يكون التكتيك الأفضل هو تشجيع بعض أساليب التفكير النقدي المعروفة، مثل إعادة تركيز انتباهنا، والنظر في مصادر معلوماتنا، ومراجعة أنفسنا.
تندرج بعض أساليب التفكير النقدي سالفة الذكر تحت فئة "نظام 2" أو التفكير البطيء، حسبما يصفه كتاب "التفكير السريع والبطيء" (Thinking, Fast and Slow). يجيد الذكاء الاصطناعي خداع "النظام 1" الذي يفكر بسرعة، وهي الحالة التي غالباً ما يسارع خلالها عقلنا للاستنتاجات.
بوسعنا أن نبدأ بإعادة تركيز الانتباه على السياسات والأداء بدل القيل والقال، إذ لا يُعبر تلعثم الرئيس السابق دونالد ترمب في نطق كلمة مبرراً ذلك بالتلاعب عبر الذكاء الاصطناعي، أو أن ينسى الرئيس جو بايدن تاريخاً ما، عن أولوياتهما أو سجل الأداء السياسي لأي منهما.
وقد يكون الهوس بشأن التمييز بين الصور الحقيقية والمزيفة مضيعة للوقت والطاقة، حيث تشير الأبحاث إلى أننا نفتقر بشدة لمهارة تحري التزييف.
تقصي الحقائق
قال اختصاصي علم الأعصاب الحسابي تيل غروتسويجرز من جامعة "ويسترن سيدني": "نحن بارعون في ملاحظة الأمور الخاطئة". إذ يميل الناس إلى البحث عن عيوب حين يحاولون تمييز صور مزيفة، بينما عادةً ما تكون العيوب في الصور الحقيقية.
اقرأ أيضاً: قطاع الذكاء الاصطناعي مطالب بإيضاح سبل مكافحة التزييف العميق
أضاف غروتسويجرز أن الناس ربما تزداد ثقتهم لا شعورياً بالصور المزيفة، لأنها أكثر كمالاً من الحقيقية. بطبيعة الحال، يميل البشر إلى الإعجاب بالوجوه الأقل غرابة والأكثر تناسقاً والثقة بها، لذلك غالباً ما تبدو الصور التي ينتجها الذكاء الاصطناعي أكثر جاذبية وموثوقية مقارنةً بالحقيقية.
بالتالي، لا تكفي مطالبة الناخبين بالتعمق في البحث عند مواجهتهم بالصور أو المزاعم التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فقد توصل علماء الاجتماع أخيراً إلى نتيجة مقلقة مفادها أن الناس أصبحوا أكثر ميلاً لتصديق الأخبار الملفقة بعد بعض "البحوث" باستخدام محرك "غوغل".
لم يشكل ذلك دليلاً على أن استجلاء الحقائق يضر بالجمهور أو بالديمقراطية، بل كانت المشكلة أن كثيراً من البحوث افتقرت لتحكيم العقل، فالباحثون يتلمسون أدلة قاطعة بغض النظر عن عدم عقلانية الادعاءات، وهناك وفرة من الأدلة على الإنترنت على ما هو صحيح وما هو مغلوط.
يتطلب البحث الواقعي التساؤل عما إذا كان هناك أي سبب لتصديق مصدر بعينه. هل هو موقع إخباري ذو سمعة طيبة؟ أو خبير حاز على ثقة الجمهور؟ كما يعني التقصي الواقعي للحقائق النظر في احتمالية أن ما تريد تصديقه قد يكون مغلوطاً. يعد غياب الأدلة الموثوقة أحد أكثر أسباب ترديد الشائعات عبر منصة "إكس" دون وسائل الإعلام الرئيسية شيوعاً.
قال فيليبو مينتسر، أستاذ المعلوماتية ومدير مرصد وسائل التواصل الاجتماعي في "جامعة إنديانا"، إن الذكاء الاصطناعي جعل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لموقع إخباري مزيف أرخص وأسهل من أي وقت مضى، وذلك من خلال تزييف شخصيات تبدو حقيقية للتعليق على التقارير.
"العقل الجمعي"
لسنوات، كان مينتسر يدرس انتشار الحسابات المزيفة المعروفة بالروبوتات، التي يمكن أن يكون لها تأثير نفسي وفقاً لمبدأ "العقل الجمعي"، ما يجعل الأمر يبدو وكأن كثيراً من الناس يتفقون مع شخص أو فكرة ما. لم تكن الروبوتات في بدايتها ناضجة بما يكفي، لكن حالياً يمكن أن تبدو وكأنما تخوض مناقشات طويلة ومفصلة وواقعية جداً، حسبما أخبرني مينتسر.
مع ذلك، ما يزال هذا مجرد تكتيك جديد في معركة مستمرة منذ زمن. قال غوردون بينيكوك، أستاذ الطب النفسي بجامعة "كورنيل": "لا تحتاج حقاً إلى أدوات متطورة لتنتج معلومات مضللة". فقد نجح بعض الناس بالخداع باستخدام برنامج "فوتوشوب" أو إعادة توظيف صور حقيقية، مثل تمرير صور من سوريا على أنها من غزة.
اقرأ أيضاً: انتحال الشخصية بـ"التزييف العميق" يقود موجة جديدة من جرائم الاحتيال
تناقشت مع بينيكوك حول إشكالية المبالغة في الثقة أو الإفراط بانعدامها. ففي حين تنطوي مخاطر قلة الثقة على دفع الناس للتشكيك بالأمور الحقيقية، إلا أننا اتفقنا على أن الإفراط في الثقة من شأنه أن يشكل خطراً أكبر.
بينيكوك اعتبر أن ما يجب أن نهدف إليه حقاً هو الفراسة حتى يطرح الناس الأسئلة الصحيحة. وقال: "عندما يتشارك الناس أشياء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم لا يفكرون حتى في ما إذا كانت حقيقية"، بل يفكرون أكثر في كيفية تأثير هذه المشاركة على صورتهم.
ربما كان للممثل مارك روفالو أن يتجنب الحرج لو أنه فكر بوجود هذه النزعة، فقد اضطر روفالو للاعتذار عن مشاركة صورة قيل إنها مزيفة توحي بأن دونالد ترمب شارك في اعتداءات جيفري إبستين الجنسية على قاصرات.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي يجعل الثقة بما نشاهده على شاشات التلفزيون أو على وسائل التواصل الاجتماعي محالاً، فهذا ليس أمراً سيئاً برمته، فقد كانت غالبية هذه المعلومات غير موثوقة وخادعة قبل فترة طويلة من القفزات الأخيرة التي شهدها مجال الذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، أدى ظهور التلفزيون قبل عقود إلى زيادة أهمية عامل الجاذبية البدنية بالنسبة لجميع المرشحين، برغم أن هناك معايير أهم ليصوت الناخبون على أساسها.
تتطلب أساليب التفكير النقدية، مثل التمعن بالسياسات والتحقق من المصادر وإعادة النظر في الأمور، نمطاً أبطأ وأكثر اجتهاداً من الذكاء البشري. لكن بالنظر إلى ما هو على المحك، فإن الأمر يستحق العناء.