بعد نحو عقد من الكلام عن انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت، لا يبدو أننا شارفنا على حل هذه المشكلة، وربما آن أوان الإقرار بأن شركات التقنية لن تتمكن أبداً من التصدي لطوفان الأخبار والبيانات والحقائق المزيفة أو حتى تخفيفه. لكن ذلك لا يعني أن الأمل معدوم، إذ يمكن لمصادر المعلومات الموثوقة أن تلعب دوراً هنا.
يأخذ التزييف أشكالاً متعددة في حرب المعلومات التي تدور حول الصراع بين إسرائيل وغزة. أحياناً ما يُنشر مقطع فيديو قديم، مثلاً من الصراع في سوريا، بتعليق جديد كي يبدو حديثاً وذي صلة بالصراع القائم. أحد المقاطع المتداولة كان في الواقع عرضاً لألعاب نارية في الجزائر. وكان مقطع آخر مأخوذاً من إحدى ألعاب الفيديو. في ظل انتشار مقاطع الفيديو والصور بسرعة هائلة، يغلب الزيف على الحقيقة بمراحل، حسبما قالت ويندي مكماهون، الرئيسة التنفيذية لـ"سي بي إس نيوز" (CBS News).
قال شايان سرداريزاده، وهو صحفي يعمل في فريق "فيريفاي" (Verify) التابع لـ"بي بي سي" في بريطانيا، لمعهد "رويترز" في جامعة أوكسفورد إن "حجم المعلومات المضللة على منصة (إكس) كان أكبر من أي شيء رأيته في حياتي". يكشف سرداريزاده حقيقة المقاطع والصور الزائفة على "إكس"، المعروفة سابقاً بـ"تويتر"، لكنه بالكاد يتخطى القشور.
هذه ليست مشكلة جديدة، لكن المرحلة الآتية ستتعلق بمدى الانتشار. إن مقاطع الفيديو المزيفة والتعديلات التي تنطوي على تلاعب موحودة منذ زمن لكن الذكاء الاصطناعي سيمنحه دفعة قوية. سيبدو التدخل الذي حدث في التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 نكتةً مقابل حربين رئيسيتين وبعام 2024 الذي سيشهد عديداً من الانتخابات حول العالم.
إخفاق الحلول التقنية
فشلت الحلول التقنية في تحقيق أهدافها. أحياناً ما تخطئ خدمة "ملاحظات المجتمع" (Community Notes) على منصة "إكس"، وهي مسعى يحظى بالإشادة بشكل عام ويوكل تقصي الحقائق إلى الجموع، كما أنها عادةً بطيئة أكثر من اللازم.
أشار تحليل لمنشورات مضللة مرتبطة بالحرب بين حماس وإسرائيل إلى أن متوسط الفترة بين ظهور منشور على المنصة وإلحاق ملاحظة به باستخدام خدمة "ملاحظات المجتمع" كان 11 ساعة تقريباً. وحتى آنذاك، يُرجح أن"ملاحظات المجتمع" كانت تغطي "نقطة في بحر" المعلومات المضللة المنشورة على المنصة. قد لا تستطيع الشركات التقنية أن تتعامل بكفاءة مع هذه المشكلة. لقد فضّ إيلون ماسك فرق المصداقية والتأمين لدى "إكس"، فيما أقرت "ميتا بلاتفورمز" أنها تميل للابتعاد عن الاهتمام بالمحتوى الإخباري، كما أن "ألفابت"، مالكة "غوغل"، فصلت موظفين مشاركين في التحقق من الأخبار.
كل هذا يحدث قبل أن نعايش بالكامل تأثيرات الذكاء الاصطناعي الذي يمثل جبهة جديدة في التزييف الرقمي. رغم أن استخدام التزييف العميق في الصراع الإسرائيلي كان محدوداً، فإن درجة التعقيد التي ينطوي عليها الأمر تتزايد. تبدو الإجراءات المقترحة التي تطالب بإضافة علامات مائية أو إفصاحات واضحة على المواد المولدة بالذكاء الاصطناعي غير فعالة، وذلك لأن الأطراف النزيهة فقط هي التي ستتبع مثل هذه الأوامر.
هناك أدوات تدعي القدرة على تحديد ما إذا كانت صورة قد ولدت باستخدام الذكاء الصناعي أم لا ، لكنها أدوات معيبة وستصبح على الأرجح أقل فاعلية مع تطور الإمكانات التوليدية. ذكر موقع أخبار التقنية "404 ميديا" (404 Media) أن موقعاً للكشف عن الصور المولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي أعلن عن طريق الخطأ أن صورة حقيقية لجثة طفل متفحمة هي صورة مزيفة مصنوعة باستخدام الذكاء الاصطناعي. استخدمت الصورة كدليل على انتشار المعلومات المضللة عن عمد في حين أنها لم تكن كذلك.
عصر اللاحقيقة
تطلق رينيه ديريستا، الباحثة في "ستانفورد إنترنت أوبزرفاتوري" (Stanford Internet Observatory)، على هذا العصر "عصر اللاحقيقة"، حيث يقوض وجود الذكاء الاصطناعي وحده ثقتنا فيما نرى ونسمع، بغض النظر عن الحقائق. حذّرت ورقة بحثية نشرتها "كاليفورنيا لو ريفيو" (California Law Review) في 2018 من حدوث ذلك الأمر: "ببساطة، سيكون الجمهور المرتاب على استعداد للشك في مدى صحة أدلة حقيقية للمقاطع الصوتية ومقاطع الفيديو. يمكن إثارة تلك الشكوك ضد المحتوى السليم بالقدر نفسه مثل المحتوى المتلاعَب به".
إن التعايش في عالم أسماه الباحثون الضبابية المعلوماتية، سيصبح مرهقاً. وهو قد بلغ هذا لدى كثير منا.
لكن ثمة منافذ معقولة للحصول على أخبار موثوقة على الإنترنت، وهي المواقع الإخبارية. الجانب المشجع في الأمر هو أن حصيلة القراء الذين يتجهون مباشرة إلى المواقع الإخبارية، بدلاً العثور على مقالات على وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال محركات البحث، تتزايد على نحو ثابت منذ الجائحة، وفقاً لبيانات من "سيميلار ويب" (Similarweb).
هناك أسباب عدة قد تكون وراء ذلك، لكن لا تستبعد أن القراء ربما يجدون الثقة والوضوح من خلال الاتجاه مباشرة إلى الجهات التي تولت مسؤولية هذه المهمة منذ عقود، وفي بعض الأحيان منذ أكثر من قرن. قالت سارة روبرتس، الأستاذة في كلية الدراسات العليا للتعليم ودراسات المعلومات بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "هناك كثير من الناس يبحثون عما يستطيعون أن يثقوا به. قد تكون هذه لحظة تستطيع فيها (المؤسسات الإخبارية) أن تؤكد سلطتها وخبرتها مجدداً".
نموذج جديد
مؤكد أن أوقات الصراع تسلط الضوء على عيوب عملية جمع الأخبار في خضم ضبابية الحرب. خسرت المؤسسات الإخبارية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، قدراً كبيراً من حسن ظن القراء، وذلك من خلال أمور مثل خفض المعايير واللجوء إلى الاجتذاب بالعناوين والموضوعات الملفتة.
إن الثقة تُكتسب ببطء ولها ثمن غالٍ. تقتضي الاستفادة من الموجة المقبلة من التلاعب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أن تستثمر المؤسسات الإخبارية مزيداً من الوقت لتفسر لقرائها كيف أنجزت عملها. إن عصر قدرة المؤسسات الإخبارية على نشر الحقائق فقط أوشك على الانقضاء، وأضحى النموذج الذي يحتذى به ما تيسمى بعمليات استخبارات المصادر المفتوحة، مثل مجموعة "بيلينغكات" (Bellingcat) المرموقة.
كان الإنترنت مصدر تهديد استهانت به صناعة الأخبار. يمثل الذكاء الاصطناعي انقلاباً مشابهاً من حيث حجمه. لكن رغم أن الإنترنت ساهم في تقليل قيمة الأخبار، فسيكون أثر الذكاء الاصطناعي معاكساً. إن قيمة النزاهة في جمع الأخبار ستتضح إلى حد لم نشهده قبلاً.