لطالما عانت مدينة أوساكا من "متلازمة المدينة الثانية"، حيث تراجعت مكانتها مقارنة بالعاصمة اليابانية طوكيو التي تتمتع بتركيز أكبر للثروة والسلطة. فقد سيطرت طوكيو بشكل متزايد على الاقتصاد الياباني، محققة أرباحاً أكبر وإنفاقاً أكبر، مما أثر على المدن الأخرى.
خلال فترة الركود الاقتصادي التي شهدتها اليابان، كانت أوساكا من بين المدن الأكثر تضرراً، حيث فقدت ميزتها التنافسية في قطاعات مثل الإلكترونيات المنزلية، بينما قامت العديد من الشركات الكبرى بنقل مقارها الرئيسية إلى طوكيو. هذا التحول وضع أوساكا، التي كانت في السابق مركزاً تجارياً مهماً، على حافة الانهيار.
ولكن اليوم، وبعد سنوات من التراجع، تمتلك أوساكا مشروعاً قد يثير حسد سكان طوكيو. هذا الإنجاز يمثل جزءاً من جهود المدينة لاستعادة مجدها التجاري.
في يوم الجمعة المقبل، ستفتتح أوساكا مشروع "غراند غرين أوساكا" (Grand Green Osaka)، وهو مشروع إعادة تطوير كبير يجمع بين حديقة عامة وناطحات سحاب متعددة الاستخدامات، بهدف تحويل وسط المدينة بشكل كامل. يقع هذا المشروع في واحد من أكثر مراكز النقل ازدحاماً في العالم، حيث تم تحويل منطقة كانت في السابق ساحة شحن مهجورة إلى مساحة حضرية خضراء، بعد إهمالها لعدة عقود.
تحول بعد عقود من الإهمال
لم تشهد منطقة "أوميكيتا"، التي يقع فيها المشروع الجديد، أي عمليات تطوير تُذكر لسنوات طويلة. هذه المنطقة تقع في قلب منطقة أوميدا الصاخبة، التي تُعد مركزاً رئيسياً لوسائل النقل، حيث تربط بين العديد من خطوط ومحطات القطار التي تخدم حوالي 2.5 مليون راكب يومياً. وعلى الرغم من أهمية موقعها، ظلت "أوميكيتا" بقعة مظلمة على الخريطة، تمتد على مساحة 24 هكتاراً (59 فداناً)، وهي مساحة تقارب حجم الحديقة الكبرى في سنترال بارك بنيويورك.
هذه الرقعة المهجورة شكلت تناقضاً واضحاً مع محيطها، الذي شهد نمواً سريعاً وظهور ناطحات سحاب حديثة، ما جعل المنطقة تبدو غير متجانسة مع التطورات العمرانية المحيطة بها.
استغرقت عملية إعادة تطوير هذا المشروع نحو 40 عاماً، إذ بدأت فكرة تطوير المنطقة في أواخر الثمانينات عندما قامت الشركات التابعة لشبكة السكك الحديدية اليابانية، التي خضعت للخصخصة آنذاك، ببيع أراضيها بهدف سداد ديونها الضخمة. ورغم أن الخطة كانت واضحة في البداية، إلا أن تطوير أوساكا تعرقل بسبب سلسلة من النزاعات والمعوقات، حتى بعد نقل ساحة الشحن إلى موقع آخر. كما فشلت عدة محاولات للتطوير، بما في ذلك اقتراح إنشاء ملعب كرة قدم في إطار محاولة اليابان غير الناجحة لاستضافة كأس العالم 2022.
بعد العديد من التعثرات، تم تخصيص نحو تريليون ين (ما يعادل 6.9 مليار دولار) لإعادة تطوير ما أُطلق عليه "آخر قطعة من العقارات الفاخرة في أوساكا". ومن المتوقع أن يكتمل مشروع "غراند غرين أوساكا" بالكامل بحلول عام 2027، حيث سيتم افتتاحه على مراحل. ويُتوقع أن يجذب هذا المشروع نحو 100 مليون زائر سنوياً.
تولى قيادة هذا التطوير ائتلاف من الشركات، بقيادة شركة "ميتسوبيشي إستيت" (Mitsubishi Estate)، وشمل المشروع مكونات التطوير اليابانية الكبرى المعتادة، مثل المباني التي تضم مطاعم ومقاهي عصرية ومساحات مكتبية وفنادق فاخرة، من بينها فندق "والدورف أستوريا" الأول في اليابان والمقرر افتتاحه في عام 2025. كما يضم المشروع مساحات عمل مشتركة مخصصة للشركات الناشئة، بالإضافة إلى شقق فاخرة توفر إطلالات خلابة.
أوساكا تفتقر إلى المساحات الخضراء
ما يميز مشروع "غراند غرين أوساكا" هو هدفه في معالجة واحدة من أكبر مشكلات المدينة، وهي ندرة المساحات الخضراء، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لمدينة تجارية، وقد تطلب استثمار مليارات الينّات لتحقيق هذا الهدف.
بدلاً من استغلال كل مساحة متاحة للأغراض التجارية، خصص الائتلاف العام والخاص المسؤول عن إعادة التطوير حوالي 5 هكتارات لإنشاء حديقة عامة. والسبب بسيط، كما أوضح تاداو أندو، المهندس المعماري الحائز على جائزة بريتزكر والمولود في أوساكا، خلال حفل افتتاحي يوم الثلاثاء، حيث قال: "أوساكا تفتقر إلى المساحات الخضراء".
بصفتي شخصاً عاش في أوساكا خلال معظم فترة العشرينات من عمري، لا أستطيع إلا أن أتفق مع هذا التوجه. رغم حبي للمدن، كان نقص المساحات الخضراء في أوساكا أمراً محبطاً للغاية. كنت أحلم بالانتقال إلى الريف فقط لأتمكن من رؤية بعض الأشجار في عطلات نهاية الأسبوع، رغم ساعات العمل الإضافية الشاقة التي كنت أعملها. ولم يكن هذا الشعور مجرد وهم، حيث تُعد أوساكا المحافظة الأدنى من حيث نسبة المساحات الخضراء لكل فرد بين جميع محافظات اليابان.
يُعد مشروع "غراند غرين" خطوة مهمة في معالجة نقص المساحات الخضراء في أوساكا، حيث استلهم تصميمه من حدائق مشهورة مثل "براينت بارك" في نيويورك و"ميلينيوم بارك" في شيكاغو، وقد تم تصميمه من قبل المهندسة المعمارية كاثرين غوستافسون. ورغم أن طوكيو تتمتع بالعديد من الحدائق والمناطق التجارية، إلا أنها تنتشر على نطاق واسع ومتفرق. في المقابل، تتميز أوميدا، التي تقع في قلب أوساكا، بالطاقة والحيوية المركزية، وتعتبر نقطة جذب رئيسية للسكان المحيطين بها.
تنقسم أوساكا إلى منطقتين رئيسيتين: الشمال (كيتا) والجنوب (مينامي). وتعد منطقة أوميدا جزءاً من الشمال، حيث تتركز معظم ناطحات السحاب والأعمال التجارية، بينما يشتهر الجنوب بالتسوق والمطاعم.
الفارق بين أوساكا وطوكيو
مثل العديد من المدن الثانوية، مثل شيكاغو وروتردام، لطالما شعرت أوساكا بأنها تتحدى مكانة العاصمة طوكيو. ويفتخر سكان أوساكا باختلافهم عن سكان طوكيو، حيث يرون أنفسهم أكثر ودية وتواضعاً، بينما يُعتقد أن سكان طوكيو أكثر تحفظاً وتعجرفاً. لكن بالنسبة لطوكيو، فإنها لا تولي أوساكا اهتماماً كبيراً.
مع ذلك، يمنح هذا الوضع أوساكا ميزة فريدة، إذ تكون مستعدة لتجربة أمور جديدة قد لا تجرؤ العاصمة على تبنيها. ومشروع "غراند غرين أوساكا" هو مثال واضح على هذا التوجه، إضافة إلى مشروعات أخرى قيد التنفيذ.
تشهد أوساكا ازدهاراً في قطاع السياحة، إذ يُتوقع أن تستقطب 14% من الزوار الأجانب هذا العام مقارنة بما كانت عليه في ذروة ما قبل جائحة كوفيد-19. وفي العام المقبل، ستستضيف أوساكا معرض "إكسبو" العالمي للمرة الثانية، والمتوقع أن يجذب حوالي 28 مليون زائر، وهو ما لم تتمكن طوكيو من تحقيقه خلال استضافة أولمبياد 2020. سيقام المعرض في جزيرة "يومشيما" الصناعية، التي ستحتضن أيضاً أول كازينو في اليابان بحلول عام 2030. ورغم الانتقادات، يُتوقع أن يعزز هذا المشروع الاقتصاد بشكل كبير.
هذا المشروع سيضيف لأوساكا شيئاً مميزاً لن تمتلكه طوكيو، ويعزز مكانة المدينة كمركز جديد للنمو والابتكار.
باختصار
يتحدث الكاتب عن مدينة أوساكا التي كانت تعاني لفترة طويلة من تراجع مكانتها الاقتصادية مقارنة بالعاصمة طوكيو، التي استحوذت على السلطة والثروة. شهدت أوساكا تراجعاً في قطاعات مثل الإلكترونيات، ما أدى إلى فقدانها لقدرتها التنافسية. ومع ذلك، تسعى المدينة الآن إلى استعادة مكانتها من خلال مشروع "غراند غرين أوساكا"، وهو مشروع ضخم لإعادة تطوير منطقة "أوميكيتا" المهملة.
يتضمن المشروع تحويل ساحة شحن مهجورة إلى منطقة خضراء حضرية متعددة الاستخدامات، مع ناطحات سحاب وحدائق عامة، مما يعزز من جاذبية المدينة ويعالج مشكلة نقص المساحات الخضراء. بالإضافة إلى ذلك، تستعد أوساكا لاستضافة معرض إكسبو العالمي في عام 2025، وتطوير أول كازينو في اليابان، مما سيعزز السياحة والاقتصاد المحلي.
المقال يشير أيضاً إلى الاختلافات الثقافية بين سكان أوساكا وطوكيو، حيث تتميز أوساكا بالجرأة على تبني مشروعات جديدة ومبتكرة، وهو ما يظهر في هذا المشروع الضخم