في كل يوم، تعبُر عشرات ناقلات النفط، الممر المائي الضيق الذي يُعتبر شرياناً حيوياً في التجارة العالمية. فإذا أُغلق، سترتفع أسعار الوقود في كل أرجاء العالم. في الوقت الحالي، التوتر الجيوسياسي كبير، وهو ما يدفع القوات البحرية التابعة للعديد من القوى العظمى، إلى تسيير دوريات بسفنها الحربية في المنطقة.
إن كنت تعتقد أننا نتحدث عن إيران ومضيق هرمز، فأنت مخطئ تماماً.
أهلاً بكم إلى مياه مضائق الدنمارك الباردة، هذا الممر المائي الضيق الذي تطُلّ عليه كوبنهاغن، والذي يربط بحر البلطيق ببحر الشمال، ومنه إلى المحيط الأطلسي والمياه المفتوحة على العالم. تحظى هذه المضائق بأهمية خاصة اليوم، إذ إنها تُعتبر القناة الرئيسية لنقل شحنات النفط الروسي الخام والمنتجات النفطية المكرّرة إلى الأسواق العالمية، ما يجعل منها "نقطة الاختناق" بالنسبة إلى المالية العامة للكرملين.
إنه باختصار، المكان الذي تتصادم فيه الجغرافيا، والتاريخ، والسياسة، في آنٍ معاً.
تتعرّض هذه المضائق، التي يبلغ عرضها 4 كيلومترات فقط (أي ما يُعادل ميلين ونصف)، لخطر الوقوع في شرك الصراع بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
قواعد الاتحاد الأوروبي الجديدة
في أوائل ديسمبر، ستجعل قواعد الاتحاد الأوروبي الجديدة، من غير القانوني توفير الخدمات البحرية لأي جهة تقوم بتصدير الخام الروسي- حتى إلى دول ثالثة. لكن المضائق، تُعتبر مناطق مرور صعبة: هناك عواصف، ومياه ضحلة، وساحل صخري، وشواطئ رملية مغمورة تتحرك غالباً مع التيارات، ما يقلّل العمق الذي تحتاج إليه السفن بشكلٍ غير متوقع. لذلك، توصي الحكومة الدنماركية، والمنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة، بشدةٍ -على الرغم من أنّها لا تفرض ذلك- كل سفينة، لا سيما ناقلات النفط، بضرورة الاستعانة بقبطان دنماركي من أجل العبور.
من الناحية النظرية، يمكن للقواعد الجديدة أن تمنع قباطنة السفن الدنماركيين من الصعود على متن ناقلات محملة بالنفط الخام الروسي، وربما تمنعهم من الإبحار في أعالي البحار. وفي واشنطن، أشار المسؤولون إلى هذا الخطر كسبب يدعو دولاً ثالثة –من بينها الصين والهند على سبيل المثال- إلى الموافقة على وضع سقف لأسعار النفط الروسي من قبل مجموعة الدول السبع، ما يسمح لهذه الدول بمواصلة الاستعانة بالقباطنة الدنماركيين.
معاهدة كوبنهاغن
لكن الأمر في الواقع، أكثر تعقيداً.
لفهم ذلك جيّداً، لا بدّ من التعمّق في التاريخ، بدءاً من "معاهدة كوبنهاغن" لعام 1857، التي تنظّم حتى يومنا هذا الملاحة عبر المضيق. تُقرّ هذه المعاهدة بضرورة إشراف الدنمارك على خدمة الإرشاد عبر المضائق، ما يخلق في الواقع التزاماً بتقديم الخدمة، وفقاً لمسؤولين دنماركيين.
في هذا السياق، سَألتُ شخصياً السلطة البحرية الدنماركية عمّا إذا كانت عقوبات الاتحاد الأوروبي ستحظر توفير قباطنة للناقلات المحمّلة بالنفط الروسي، حيث أوضحت هذه السلطات في بيان أُرسل بالبريد الإلكتروني: تتمتّع هذه السفن بحق "المرور البريء" عبر المضائق الدنماركية، على النحو المحدّد في القانون الدولي. وعلاوةً على ذلك، فإن الدنمارك مُطالَبة بإتاحة عدد من قادة السفن التي تعبر عبر "المرور البريء".
أضافت أنه "ما من مادة قانوينة تلزم السفن بالاستفادة من خدمات "إرشاد السفن البحرية" عند ممارستها حق "المرور البريء"، مُشدّدة بذلك على أن كلاً من الحكومة الدنماركية والمنظمة البحرية الدولية، والتي كانت روسيا عضواً سابقاً فيها منذ عام 1958، "توصيان بشدّة" باستخدام خدمات الإرشاد. كما أضافت السلطات البحرية الدنماركية في البيان: "في النهاية، لا يحقّ للدنمارك منع ناقلات النفط من المرور عبر بحر البلطيق إلى أعالي البحار".
خنق عائدات روسيا
قد تُعيد كوبنهاغن في نهاية المطاف النظر في موقفها، لكن يبدو نهجها الحالي صحيحاً. فاستخدام خدمة الإرشاد كوسيلة لفرض حصار فعلي على صادرات النفط الروسية سيكون خاطئاً وخطيراً. وفي هذا الإطار، يُعتبر كل من المسؤولين الأوروبيين والأميركيين على حقٍّ في محاولة خنق عائدات النفط الروسية، حيث تُموّل واردات النفط الروسي حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، كما تساعده في المحافظة على الدعم المحلي لنظامه. لكن هناك طرقاً أخرى وأفضل لبلوغ هذا الهدف دون تعريض السلامة البحرية للخطر، حيث تُعتبر حزمة عقوبات الاتحاد الأوروبي الجديدة، التي تقضي بمنع مشتري النفط الروسي من استخدام القطاع المالي الأوروبي وناقلات النفط التابعة لأوروبا، هي الطريق الصحيح الذي يجب اتّباعه.
الروليت الروسية
كما هو الحال مع السفن التي تنقل النفط الخام الإيراني والفنزويلي الخاضع للعقوبات، فإن النفط الروسي ينتقل بشكل متزايد إلى أسطول الأشباح في العالم- حيث تصدأ الناقلات القديمة، التي ترفع أعلاماً لبلدان لديها شهية ضئيلة لعمليات تفتيش السلامة، والمؤمّن عليها بشكل متزايد من خلال عمليات مشكوك فيها نُفّذت حديثاً، حيث يكون المالكون على هيئة شركات وهمية غير شفافة، ويتقاضى طاقم السفينة أجوراً زهيدة، وغالباً ما يكون غير مدرَّب. وإذا رفضت كوبنهاغن إرسال قباطنة على متن ناقلات النفط الروسية، فإن السفن ستظل قادرة على الإبحار عبر المضائق، وممارسة حقها الدولي في "المرور البريء"، لكن ذلك يُنذر بخطر أكبر بكثير من الاصطدام، إلا وهو: تسرّب النفط.
إن سحب خدمة الإرشاد في المياه الخطرة للمضائق، هو بمثابة لعبة "الروليت الروسية". إن الحدث الأخير الذي نرغب في إضافته إلى التكاليف والأضرار المرتفعة فعلاً -في الأرواح والممتلكات– الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، هو أمر شبيه بكارثة تسرّب "إكسون فالديز" في بحر البلطيق.