أمضى إيمانويل ماكرون جزءاً كبيراً من فترة رئاسته في محاولة إقناع الاتحاد الأوروبي بالتحدّث بلغة القوة الصارمة في عالم أكثر عدائية.
تُركِّز رؤى الكتلة على مجموعة متنوّعة من الخطط الدفاعية للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك نشر قوة قوامها 5000 جندي بحلول عام 2025. يقل اعتماد الكتلة على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، الذي سبق لماكرون أن سخر منه بوصفه بـ"العقل الميت".
عند محاولته هندسة التقارب مع روسيا فلاديمير بوتين بشأن مجموعة من القضايا، شملت الصراع في أوكرانيا، خلال عام 2019، استدعى ماكرون دعوة شارل ديغول لأوروبا الممتدة من "المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال".
الحقيقة هي أن مثل هذه الرؤية الأوروبية-الآسيوية الشاملة المبنية على العظمة الفرنسية فشلت في تحقيق نتائج. يحتشد اليوم أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية، والولايات المتحدة في حالة تأهب قصوى، ويجاهد القادة الأوروبيون من أجل إسماع أصواتهم، ناهيك بإيجاد أرضية مشتركة حول ما يجب القيام به.
بدلاً من أن تكون أوروبا كتلة قوية، تبدو أوروبا أشبه بالأرخبيل المُمزَّق، إذ يدعو بعض الأجزاء إلى الحوار فيما يرسل البعض الآخر أسلحة إلى أوكرانيا. تعاني القارة من كثرة العوامل المشتّتة.
تدخل فرنسا موسم الانتخابات الذي خرجت منه ألمانيا مؤخراً، وكلتاهما تعي التكاليف غير المباشرة لأسعار الطاقة، وهي واحدة من عديد من الأزمات، إلى جانب مشكلة اللاجئين التي قد يجلبها الغزو، على حد قول ماري دومولين من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
السيناريو الكابوس
هذا السيناريو يُعَدّ كابوساً متعدد الأوجه بالنسبة إلى ماكرون، حامل لواء اتحاد أوروبي أكثر استقلالية، لكنه فرصة كذلك للتعويض عن الإخفاقات الماضية. بصفتها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي والقوة العسكرية البارزة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يمكن لفرنسا أن تلعب دوراً أكثر إنتاجية.
تنطلق نقطة البداية لحوار هذا الأسبوع مع روسيا، بما في ذلك محادثات عدة دول مع أوكرانيا ومكالمة هاتفية مع بوتين يوم الجمعة، من الاعتراف بالحاجة إلى التغيير. في الماضي، كان الحوار يسير في اتجاه واحد، عندما كان يدفع ماكرون بإعادة ضبط العلاقات مع موسكو إلى حد اتهام الدبلوماسيين التابعين له بالتباطؤ الشديد.
شجّعت النتيجة روسيا، وأبعدت أوروبا، وأطالت قائمة التوترات من روسيا البيضاء إلى إفريقيا. تعمّقت الانقسامات بين الشرق والغرب داخل الاتحاد الأوروبي بعدما نظرت دول البلطيق، وهي جزء من حلف الناتو كذلك، إلى ماكرون بارتياب متزايد.
اقرأ أيضاً: “غولدمان ساكس": أزمة أوكرانيا قد تدفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية
يجب على ماكرون السعي لتبديد عدم الثقة هذا في تعاملاته مع بوتين. تتعرّض فرنسا وحلفاؤها لضغوط لإيجاد طرق لتقليص التصعيد، لكن تتضاءل التوقعات بشأن إمكانية تحقيق أي خطوات كبيرة سوى كسب الوقت.
على الأقل، يجب أن يركّز ماكرون على توضيح أن فرنسا ستفي بالتزامات الناتو لطمأنة الحلفاء الشرقيين، كما حدث مؤخراً في إعلان الرئيس عن نشر محتمل للقوات في رومانيا، وهو جزء مما يَعُدُّه جوزيف دي ويك، من شركة الاستشارات "غرينمانتل" (Greenmantle)، محورياً لروسيا. يجب أن يتحد الجميع وراء دفاع أوروبي يكون مكمّلاً للناتو لا منافساً له.
يمكن لماكرون أيضاً تعزيز التهديد بفرض عقوبات على روسيا. حذّرت فرنسا بالفعل من تكلفة "باهظة للغاية" لروسيا في حالة العدوان، ويجب أن يشمل ذلك استهداف محيط بوتين وقمع الفساد.
معضلة الغاز
بشكل عام، تحالفت ألمانيا مع فرنسا في الماضي، لكن خط أنابيب "نورد ستريم 2" أظهر النفوذ الروسي، إذ تقود برلين الجهود لإعفاء الطاقة من العقوبات. يمكن لباريس أن تفعل فوراً ما هو أفضل من وضع برلين في موقف الاعتماد على الغاز الروسي الذي يهدّد بتقويض الأمن الأوروبي، وانتقال الطاقة في نفس الوقت. كما يمكن أن تنظّم فرنسا خطة طارئة وبديلة لإمدادات الغاز والمخزونات في حال استمرار تصاعد الأزمة.
ونظراً إلى أن أفضل السيناريوهات هو تجميد الصراع لا إشعاله، فيجب على فرنسا الأخذ بزمام المبادرة من خلال تقديم دعم طويل الأمد لأوكرانيا. فشلت سياسة الكتلة تجاه جارتها الشرقية في تجنّب الأزمة، ولا يغيّر اقتراحها الخاص بتمويل كييف بأكثر من مليار يورو (1.1 مليار دولار) ذلك الأمر.
إذا كانت الرغبة في التوسع نحو الشرق بشكل أكبر قد تزعزعت، فستنتظر كييف "حتى ينتهي الجحيم" من أجل الانضمام إلى الناتو، ويجب بالتالي إيجاد طرق أخرى، على حد قول الأمين العام السابق للناتو. يمكن لماكرون زيارة كييف كخطوة أولى، وفقاً لاقتراح نيكولاس تينزر من مركز تحليل السياسة الأوروبية، ويجب عليه أيضاً تعميق العلاقات مع المجتمع المدني وجماعات المعارضة في روسيا وروسيا البيضاء.
يبدو كل هذا مثل التفكير بالتمنّي في البيئة الحالية. يملك ماكرون مساحة أقل للمناورة في ظل احتشاد منافسيه للانتخابات، كما يشير ساريل بريت من معهد "ساينسز بو" (Sciences Po)، وتظهر النظرة الرومانسية تجاه نظام بوتين عبر الطيف السياسي الفرنسي.
مع ذلك، يمكن لماكرون أن يقتنع بشجاعة أن اتخاذ موقف أقوى ضد روسيا قد يؤتي شعبية تتفوق على ما يوحي به السباق الرئاسي المحتدم. تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الرأي العام الفرنسي ينظر إلى الولايات المتحدة كحليف واضح على عكس روسيا والصين.
قد تمتد أوروبا إلى جبال الأورال يوماً ما، وهذا سبب إضافي لجعل خطاب ماكرون متطابقاً مع الواقع الروسي.