حرب بوتين على أوكرانيا تهدف لجعل فلاديمير عظيماً

يصعب تخيل ظروف أكثر ملاءمة لضربة القيصر فلاديمير الأكثر جرأة ولن تغير ذلك بضعة أسابيع أخرى من المحادثات الدبلوماسية

time reading iconدقائق القراءة - 45
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الصحفي لنهاية العام - المصدر: بلومبرغ
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الصحفي لنهاية العام - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

حرب الشمال آتية لكنها ليست عظمى كسابقتها.

لا تخدعنكم مكالمة الأسبوع الماضي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن، التي وعدا خلالها بمزيد من المفاوضات في يناير، فعندما يكون أحد الأطراف عازماً على الحرب، غالباً ما يستمر هذا اللون من النشاط الدبلوماسي حتى سويعات قبل بدء القتال. ينبغي ألا نخدع أنفسنا فبوتين عازم على شن حرب على أوكرانيا.

الآتي هو نقيض الهجوم المباغت، رغم أن بايدن سيصر لدى حدوثه حتماً على أنه كان غير قابل للتوقع، حاله حال متحول "أوميكرون" من سلالة كورونا. نشر بوتين في يوليو مقالاً مطولاً بعنوان "حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين" جادل فيه بتحيز بأن استقلال أوكرانيا كان شذوذًا تاريخياً غير مستدام. أوضح هذا المقال تماما أنه كان يفكر في الاستيلاء على البلاد على غرار "الوحدة" التي ضمت عبرها ألمانيا النازية النمسا في 1938. حتى قبل ظهور مقال بوتين، نشرت روسيا حوالي 100 ألف جندي قرب الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية لأوكرانيا.

تذكرني أخبار الأيام الحالية بشكل مزعج بكتاب المؤرخ الإنجليزي ألان جون بيرسيفال تايلور "أصول الحرب العالمية الثانية" (Origins of the Second World War)، الذي عرض من خلال نثر مفعم بسخريته المعروفة الخطوات الدبلوماسية التي قادت من التهدئة إلى الحرب في 1938 و1939.

خطوط حمراء

حذر الرئيس الروسي تكراراً العام الماضي من أن تجاوز "خطوط حمراء" تتعلق بأمن روسيا قد يدفع إلى "رد غير متماثل". أعلن في 30 نوفمبر، على سبيل المثال، أنه "إذا ظهر نوع من أنظمة الهجوم على أراضي أوكرانيا... سنضطر حينئذ لإنشاء شيء مشابه حيال من يهددنا".

أصدرت روسيا في 17 ديسمبر إنذاراً افتراضياً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ناتو، وهو حجر الزاوية للأمن الأوروبي منذ تأسيسه في 1949، عبر نشر مشروعي اتفاقيتين أمنيتين، أحدهما كان معاهدة ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا والآخر متعدد الأطراف بين الناتو وروسيا، واشتملت الوثائق على ستة مطالب رئيسية:

  • يجب ألا يقبل الناتو أعضاء جدداً بما في ذلك أوكرانيا
  • يجب ألا تنشر الولايات المتحدة وحلف الناتو صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى في النطاق الذي تبلغ فيه المناطق الروسية
  • يجب ألا تنشر الولايات المتحدة أسلحة نووية في الخارج
  • يجب على الناتو ألا ينشر قوات أو أسلحة في الدول الأعضاء التي انضمت له بعد ما يعرف بالقانون التأسيسي الصادر في مايو 1997 وهي تشمل جميع الدول سالفة العضوية في حلف وارسو مثل بولندا وكذلك دول البلطيق المنضوية سابقاً تحت راية الاتحاد السوفييتي
  • يجب على الناتو ألا يجري تدريبات عسكرية فوق مستوى لواء، أي 3000 إلى 5000 جندي، كما ينبغي أن تكون ضمن منطقة عازلة متفق عليها

يجب على الولايات المتحدة عدم الاتفاق على التعاون عسكرياً مع دول الاتحاد السوفييتي السابقة.

إحياء معاهدات

ترقى بعض مطالب روسيا حقيقة لإحياء الترتيبات الأمنية البائدة التي وقعها حلف الناتو وروسيا في الماضي، كما أن فرض حظر على نشر الصواريخ قصيرة أو متوسطة المدى، على سبيل المثال، سيكون أقرب إلى إحياء معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، التي انهارت في 2019 بعد مزاعم الولايات المتحدة بارتكاب روسيا انتهاكات.

كما أن الاتفاق على عدم نشر قوات الناتو في الدول الأعضاء السابقة في حلف وارسو من شأنه أن يعيد العمل بالقانون التأسيسي الذي امتد 25 عاماً حتى جمده الناتو جزئياً بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014. ما يزال الناتو لا يتمركز بشكل دائم في شرق أوروبا لأنه لم يُبطل القانون التأسيسي تماماً. بالمثل، فإن القيود التي اقترحتها روسيا حول التدريبات العسكرية تذّكر باتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، التي علقتها موسكو في 2007.

رغم ذلك أرسل التحالف نحو 1100 جندي تناوباً إلى كل من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا بموجب سياسة التواجد المتقدم المعزز منذ 2017. استُخدم مصطلح "التناوب" بناءً على إصرار ألمانيا وذلك تجنباً لانتهاك القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين الناتو وروسيا بشكل صريح، وسيكون إنهاء التناوب بمثابة تنازل كبير لصالح موسكو.

تتضمن المطالب الروسية أيضاً العديد من النقاط غير البناءّة، فمن المستبعد للغاية أن يلغى حلف الناتو الوعد الذي قطعه في 2008 بانضمام أوكرانيا وجورجيا في نهاية المطاف. حتى لو رغب بايدن بالموافقة على مطلب روسيا بأن تنهي الولايات المتحدة التعاون العسكري مع أوكرانيا، فمن شبه المؤكد أن الكونغرس لن يسمح له، بل قد يشرّع المساعدة العسكرية من تلقاء نفسه. أخيرا، فإن مطالبة روسيا بعدم إنشاء محطات لأسلحة نووية في الخارج للولايات المتحدة من شأنه أن يلغي المبدأ التأسيسي لحلف شمال الأطلسي، وهو المشاركة النووية بين الدول الأعضاء.

روسيا ليست غاضبة، إنها تركِّز

بوتين رداً على سؤال صحفي

اتفاقية يالطا

لا تقل المطالب الروسية مجتمعة عن استحداث اتفاقية "يالطا جديدة" من شأنها أن تمنح فعلياً لروسيا مجال نفوذ يمتد عبر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في أوروبا الشرقية، تماماً مثل اتفاقية يالطا الأصلية في 1945، إضافة لتآكل أمن دول حلف وارسو السابق. قد تكون هذه المطالب جديرة بالمناقشة فقط إن عرضت روسيا شيئاً كبيراً بالمقابل مثل انسحاب جميع قواتها من الأراضي الأوكرانية، لكن بوتين لا ينوي تقديم تنازلات، بل يعد ذريعة حرب.

عقد بوتين مؤتمره الصحفي المعتاد لنهاية العام في 23 ديسمبر، وهو بمثابة ماراثون للصحفيين الراغبين في طرح أسئلة، وأوضح أنه حتى في حال استيفاء ضمانات "الخط الأحمر" الأمنية لروسيا على الورق، فإن روسيا ما تزال غير قادرة على الوثوق بالضمانات الأمريكية لأنها "كذبت عليه بوقاحة" بشأن توسع الناتو. كما قال إن امتلاك الولايات المتحدة لأسلحة هجومية على "عتبة روسيا" يشبه امتلاك روسيا لمثل هذه الأسلحة في كندا أو المكسيك. عندما سأله أحد الصحفيين عما إذا كانت روسيا غاضبة، اقتبس من وزير الخارجية القيصري في القرن التاسع عشر الأمير غورتشاكوف: "روسيا ليست غاضبة، إنها ترّكز"، كما في القول إنها "تركِّز قواتها".

سوفيتي أم قيصري

غالباً ما يخطئ المعلقون الغربيون بالاعتقاد بأن هدف بوتين هو إحياء الاتحاد السوفيتي، مستشهدين بتعليقه الشهير في 2005 بأن انهيار الإمبراطورية السوفيتية كان "أعظم كارثة جيوسياسية في القرن".

إن حكمنا على الأمور من خلال الطريقة القاسية التي اتبعتها حكومته في ملاحقة "ميموريال"، وهي منظمة مكرسة للحفاظ على أدلة جرائم النظام السوفيتي وإحياء ذكرى الملايين من الضحايا، سنجد أن بوتين يدين فعلاً ببعض الولاء المتبقي للظل المخيف لستالين. أغلقت محكمة في موسكو الأسبوع الماضي منظمة "ميموريال" على أساس مشكوك فيه وهو أنها فشلت بالاعتراف علناً بأنها عميل أجنبي.

أعلن المدعي العام للدولة، أليكسي زافياروف، قبل حكم المحكمة: "تخلق (ميموريال) صورة خاطئة عن الاتحاد السوفييتي باعتباره دولة إرهابية... وهو ما يجعلنا نندم على الماضي السوفيتي بدلاً من تذكر التاريخ المجيد... ربما لأن شخصا ما يمول ذلك".

ليس من الصعب أن نتخيل أن زافياروف يلعب دوراً هامشياً في رواية "مارغريتا والمعلم" ، للروائي ميخائيل بولغاكوف التي تقدم تصويراً واقعياً سحرياً لا يُنسى لعصر ستالين. مع ذلك، بوتين لا يحن للاتحاد السوفيتي برؤية ستالين، وإنما للإمبراطورية الروسية الصاعدة لبطرس الأكبر. كان قد أوضح ذلك تماماً في مقابلة رائعة مع ليونيل باربر، رئيس تحرير صحيفة "فاينانشيال تايمز"، في 2019. قال باربر: "يظهر تمثال برونزي شاهق للقيصر صاحب الرؤية فوق مكتبه الشرفي في غرفة مجلس الوزراء، وكان بطرس الأكبر الزعيم المفضل لدى بوتين." أعلن الرئيس الروسي أن القيصر: "سيعيش ... ما دامت قضيته حية".

حرب الشمال العظمى

لفهم ما عناه بوتين بالضبط بهذا، عليك أن تسافر ثلاثة قرون إلى الوراء، إلى زمن الحرب الشمالية العظمى (1700-1721). لم تكن القوة العسكرية المهيمنة في شمال أوروبا في تلك الأيام هي روسيا بل السويد، بقيادة المحارب الإسكندنافي المتميز إستثنائياً تشارلز الثاني عشر. وضعت حرب الشمال العظمى تشارلز بمواجهة فريدريك الرابع، ملك الدنمارك والنرويج، وضد أغسطس القوي، الذي كان زعيم سكسونيا وفي نفس الوقت ملك بولندا ودوق ليتوانيا الأكبر، وضد قيصر موسكو بطرس الأكبر. هزم السويدي بحلول 1709 كلاً من فريدريك وأغسطس، لكنه وجد نداً قوياً في القيصر بطرس.

فاز بطرس الأكبر في معركة بولتافا في 8 يوليو 1709 بأهم انتصار في عهده، حيث اضطر الجيش السويدي للتخلي عن تقدمه في موسكو بسبب تكتيكات الأرض المحروقة الروسية وسار جنوباً لإنشاء أماكن تمركز شتوية. يقع المكان الذي اختاره تشارلز الثاني عشر، وهو مدينة بولتافا، على بعد حوالي 200 ميل شرق كييف ويقع اليوم في شرق أوكرانيا، ليس بعيد عن المناطق المتنازع عليها حول لوهانسك ودونيتسك التي يسيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا.

إذاً أين كانت بولتافا؟ بالتأكيد ليست في روسيا. لكن لا يمكنك حقاً أن تقول إنها كانت في أوكرانيا، ليس بالمعنى الحديث على أي حال. عندما انضم إيفان مازيبا، قائد جيش مدينة زاباروجيا، للملك السويدي، قال أنه كان يتصرف "من أجل الصالح العام لوالدتنا، وطننا الأم، أوكرانيا الفقيرة، من أجل كل جنود جيش زاباروجيا والأمة الروثينية الصغيرة…"

حدود أوكرانيا

أسس بوهدان خملنيتسكي دولة هتمانات القوزاق في 1649، وهو الذي خلّص المقاطعات الروثينية مثل فولينيا وبراتسلاف وكييف وتشيرنيهيف من حكم بولندا لينتهي به المطاف في المنطقة المحيطة بكييف. ما تعرف بأوكرانيا اليوم تمددت غرباً باتجاه بولندا وشرقاً الى موسكوفي، حيث حسمت معركة بولتافا القضية.

تُرك تشارلز بسبب قسوة الطقس الشتوي القارس مع نحو 22 ألف جندي سويدي بمواجهة 40 ألف جندي روسي تحت قيادة بطرس بالإضافة إلى 5000 جندي غير نظامي. أُصيب تشارلز برصاصة طائشة في قدمه، ونظرا لضعف الاستطلاع والأخطاء أثناء هجومهم الأولي، فقد حوالي ثلث القوات السويدية قبل المعركة الحاسمة. لاذ السويديون بالفرار، بسبب تفوق الروس العددي وتفوقهم في القتال واستسلم الناجون في بيريفولوتشنا على نهر دنيبر، وهرب تشارلز عبر نهر دنيبر إلى الأراضي العثمانية وانتصر بطرس.

كان إرث بولتافا إرثاً متيناً، كما تظهر ليندسي هيوز في السيرة الشخصية التي كتبتها عن القيصر. وفقاً للأسطورة، نجا بطرس من الموت بأعجوبة في ثلاث نقاط خلال المعركة إذ اخترقت إحدى الطلقات قبعته ذات الزوايا الثلاث، وهي محفوظة في مجموعة متعلقات القيصر الشخصية في متحف إرميتاج، رغم انها لا تحمل ثقب طلقة إلا أن هناك آثار لعمل قتالي على درعه البرونزي المحفوظ هناك أيضا.

ألهمت معركة بولتافا أيضا اثنين من اللوحات العظيمة في عهد بطرس، الأولى بريشة يوهان غوتفريد تاناوير وهي "بطرس الأكبر في معركة بولتافا" ولوحة "بولتافا" البانورامية للرسام لويس كارافاك سمعت أجيال من الجنود الروس تلاوات للخطاب الذي كان من المفترض أن يلقيه القيصر قبل المعركة:

"فلتعلم القوات الروسية أن الساعة التي تضع مصير كل الوطن الأم في أيديهم قد حانت ، لتقرير ما إذا كانت روسيا ستضيع أو ستولد من جديد وتحسن وضعها. لا تفكروا في أنفسكم كمسلحين ومُستعدون للقتال من أجل بطرس ولكن من أجل الدولة التي أوكلت إلى بطرس، ومن أجل أقربائكم ومن أجل شعب روسيا كله، والتي كانت حتى الآن تدافع عنك وتنتظر الآن قرار مصيرها النهائي… أما بطرس فاعلموا فقط أنه لا يعطي أي قيمة لحياته إذا كانت روسيا والتقوى والمجد والرفاهية الروسية فقط هي التي ستعيش."

إلهام قيصري

هذا هو التاريخ الذي يلهم القيصر فلاديمير اليوم، وليس الفصول المظلمة من عهد الإرهاب في عهد ستالين، التي سترتبط إلى الأبد في العقول الأوكرانية بمجاعة هولودومور، وهي إبادة جماعية عبر مجاعة من صنع الإنسان أُلحقت بأوكرانيا باسم الزراعة الجماعية، وهو تاريخ يذكرنا بمدى أهمية الانتصار في الإقليم الذي يعرف اليوم بأوكرانيا لصعود روسيا كقوة أوروبية عظمى، كما يذكرنا بأن هذه المنطقة كانت موضع نزاع في أوائل القرن الثامن عشر كما هي اليوم.

هل بوتين مجرد شخص واهم حين يتخيل نفسه وريث بطرس الأكبر؟ ليس بالضرورة، كما أن ما اسمعه تكراراً بأن عدد سكان روسيا آخذ في الانكماش ليس صحيحاً. في الواقع، نما عدد السكان سنوياً بين 2009 و 2020. صحيح أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا قد يكون أقل من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية، ويبلغ 20% فقط من حجم الاقتصاد الأمريكي، لدى معادلة القوة الشرائية واستناداً على أرقام صندوق النقد الدولي للتوقعات الاقتصادية العالمية لعام 2020.

إن نظرنا لحجم اقتصادات الدول المعتدية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، سنجد أن المؤرخ الاقتصادي البريطاني أنغوس ماديسون قدّر أن الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي كان آنذاك نصف الناتج المحلي للولايات المتحدة الألماني 43% منه فيما كان الياباني 24% والإيطالي 18%، بالتالي لست بحاجة لأن تكون جالوت لتشنّ حرباً.

لا يحتاج بوتين بأي حال لخوض حرب بأسلوب 1939 دافعاً أرتال الدبابات عبر الحقول الأوكرانية، فالغزو الشامل هو أحد خياراته فقط، حيث يمكنه شنّ هجوم برمائي على ساحل البحر الأسود في أوكرانيا أو حملة قصف صاروخي دقيق ضد أهداف أوكرانية رئيسية، كما يمكنه الاستيلاء على أراض إضافية في المنطقة الشرقية لأوكرانيا عبر زيادة تسليح الميليشيات في المنطقة.

أو يمكنه شن هجمات إلكترونية على نطاق واسع تشّل الاتصالات والبنية التحتية الأوكرانية. اتسمت حروب روسيا الأحدث ، ليس فقط في أوكرانيا منذ 2014 ولكن في سوريا أيضاً منذ 2015، بتصعيد مطرد وتدريجي، وليس بغزوات مفاجئة واسعة النطاق. عليك أن تعود إلى جورجيا في 2008 لترى شيئاً يشبه الحرب الخاطفة الروسية، ولكن حتى تلك انتهت في غضون خمسة أيام ولم تتضمن الاستيلاء على العاصمة الجورجية.

العين والمخرز

لا شك أن كثير من الشباب الأوكراني مستعد للقتال دفاعاً عن بلدهم، لكن فرصهم لا تذكر دون. لسوء الحظ، لا يبدو أن أحدا قد يقدم المساعدة، حيث سعت الحكومات الأوكرانية لسنوات للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وجدد وزير الخارجية دميترو كوليبا هذه الطلبات في مقالين في مجلة "فورين أفيرز" في أغسطس وديسمبر. كانت أوكرانيا تأمل في دعوتها للانضمام إلى خطة عمل عضوية الناتو في قمة بروكسل للحلف في يونيو 2021، لكن لم تأتها دعوة.

تلقت كييف صفعة أخرى حين ألغت حكومة بايدن العقوبات المفروضة على الشركة التي تشرف على بناء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" بقيمة 11 مليار دولار من روسيا إلى ألمانيا، وهو خط أنابيب انتهى بناؤه لكنه لم يعمل بعد ويتجاوز أوكرانيا وسيحرمها من رسوم عبور سنوية تتراوح بين 2 إلى 3 مليارات دولار.

إلى جانب جورجيا ومولدوفا، تحرص أوكرانيا على أن تكون جزءا من المرحلة الجديدة لتوسع الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، فإن بروكسل ليست في عجلة من أمرها لبدء عملية الانضمام بشكل جدي، والسبب الرسمي للاتحاد الأوروبي لعدم تسريع طلب أوكرانيا هو أن الدولة لم تستوف معايير كوبنهاغن بعد وهي:

  • استقرار المؤسسات التي تضمن الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان واحترام الأقليات وحمايتها
  • اقتصاد سوق فعال والقدرة على مواكبة الضغوط التنافسية وقوى السوق داخل الاتحاد الأوروبي
  • القدرة على التنفيذ الفعال للقواعد والمعايير والسياسات التي تشكل مجموعة قوانين الاتحاد الأوروبي، والالتزام بأهداف الاتحاد السياسي والاقتصادي والنقدي

لا يشتكي الأوكرانيون بلا وجه حق من أن رومانيا وبلغاريا نادراً ما استوفيتا كل هذه المعايير في 2006، وهو العام الذي سبق أن عضويتهما في الاتحاد الأوروبي ناهيك عن عام 2000 حين بدأت المفاوضات. كما لم يغب عن الأوكرانيين أيضا حقيقة المجر وهي عضوة حالية في الاتحاد الأوروبي ليست بعيدة كثيراً عن أوكرانيا في تصنيف "فريدوم هاوس" للحرية السياسية.

لكن يشكل هذا بحد ذاته سبباً إضافياً لتباطؤ الاتحاد الأوروبي، حيث لا يحظى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بشعبية في بروكسل هذه الأيام لدرجة أن العديد من القادة والمسؤولين الأوروبيين قلقون من أن الاعتراف بأوكرانيا سيضيف دولة شبه سلطوية غير ليبرالية أخرى الى حصن الاتحاد الأوروبي تنضم بعد ذلك إلى المجر وبولندا وأي دول أخرى يقودها شعبوي في حملة ضد المفوضية الأوروبية التي باتت متيقظة على نحو متزايد.

خذلان الغرب

إذا اتخذ بوتين خطوة عسكرية، فمن الواضح تماماً أن أوكرانيا لن تتلقى دعما عسكرياً كبيراً من الغرب. في الواقع، استبعد بايدن صراحة في الثامن من ديسمبر إرسال قوات أمريكية، وأرجأ البيت الأبيض تسليم مساعدات عسكرية إلى كييف خشية استفزاز بوتين.

إذاً ماذا كان يعني بايدن حين قال لبوتين يوم الخميس أن الولايات المتحدة "سترد بشكل حاسم إذا غزت روسيا أوكرانيا أكثر"؟ الجواب هو أنه، كما في 2014، سيقابل العنف بفرض عقوبات. في ديسمبر، أدلت فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية، بشهادتها أمام الكونغرس، وقالت أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعدان "إجراءات اليوم الأول، وإجراءات اليوم الخامس، وإجراءات اليوم العاشر، وهكذا"، ورفضت تحديد الخطوط العريضة للعقوبات المحددة التي يجري دراستها، لكنها قالت إنها ترقى إلى مستوى "عزل روسيا تماما عن النظام المالي العالمي".

قد يعني ذلك عملياً إلغاء موافقات خط أنابيب "نورد ستريم 2" وفرض عقوبات على الديون السيادية الروسية في السوق الثانوية وعلى البنوك المملوكة للدولة بما فيها "سبيربنك"، وهو أكبر مؤسسة مالية في الدولة، إضافة لتقييد تحويلات الروبل بالدولار وتقليص واردات السلع من روسيا وحظر روسيا من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك أو "سويفت"، النظام السائد للمدفوعات عبر الحدود بين البنوك.

تلك بالتأكيد أشد صرامة من أي عقوبات فُرضت في 2014. مع ذلك، فإن جميع الإجراءات التي من شأنها أن تؤثر بشكل خطير على روسيا سيكون لها حتما آثار غير مباشرة على الغرب. تدرك روسيا ذلك، خاصة بعد أن تسببت عقوبات 2018 على شركة الألمنيوم "يونايتد روسال إنترناشونال" بصدمة لأسواق الألمنيوم العالمية، ما أجبر الولايات المتحدة على التراجع.

سيكون فرض عقوبات على مصدري السلع الروس مكلفاً ليس فقط لروسيا، ولكن أيضا للعديد من الدول الأخرى، يمكن أن تضيف الولايات المتحدة شركة "روسنفت"، شركة النفط الروسية، إلى القائمة السوداء لوزارة الخزانة، لكن ذلك لن يساعد الحكومة على حل مشكلة التضخم.

تُعد العقوبات على "نورد ستريم 2"، التي سيطرت على التغطية الإعلامية، عقوبة بسيطة نسبياً لن تؤثر على قدرة روسيا على جنّي إيرادات من الغاز. تعتبر موسكو في وضع جيد لتحمل عقوبات الديون السيادية الثانوية، حيث لديها 620 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي فيما تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 18% فقط، ولديها فوائض موازنة مخطط لها للعامين المقبلين.

عقوبات لا تردع

بالطبع، الحلقة الأضعف في استراتيجية الغرب هي اعتماد الاتحاد الأوروبي على شحنات الغاز الطبيعي الروسي، التي شكلت 43% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز في 2020. التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز أخيراً بالرئيس الأوكرا

ني فولوديمير زيلينسكي في بروكسل حيث كررا التعهدات المعتادة بـ "العواقب الوخيمة" و"التكاليف الباهظة" إن أقدمت روسيا على عمل عسكري ضد أوكرانيا.

لكن خطاب شولتز الأول كمستشار أضعف تأثير هذا الكلام القاسي بسبب دعوته إلى سياسة "أوستبوليتيك" جديدة، في إشارة إلى سياسة الحرب الباردة لمستشار ألمانيا الغربية ويلي براندت لتطبيع العلاقات بين الجمهورية الفيدرالية ودول الكتلة السوفيتية، بما فيها ألمانيا الشرقية وبولندا والاتحاد السوفيتي.

ستكون حرب الشمال غير العظمى التي تبدو وشيكة غير متكافئة بأكثر من طريقة، إذ يبدو أن القوات الروسية ستطغى على الدفاعات الأوكرانية، وسيواجه الغرب التحرك بعقوبات مالية.

ستكون تكلفة هذه العقوبات أعلى على الأوروبيين منها على الأمريكيين ، دون أن تكون مرتفعة على رئيس روسيا بما يكفي لردعه. باختصار، يصعب تخيل ظروف أكثر ملائمة لضربة القيصر فلاديمير الأكثر جرأة ولن تغير ذلك بضعة أسابيع أخرى من المحادثات الدبلوماسية.

أخشى أن الحرب قادمة، وعادة ما تقع ببلاد مثل أوكرانيا وجوارها وهو جزء من العالم أسماه مؤرخ جامعة ييل تيموثي سنايدر محقاً "بلاد الدم" بسبب الفظائع التي شهدها في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين. ليس هذا التاريخ الذي يتبادر لذهن فلاديمير بوتين، فلا تستغربوا إن شهدت بولتافا موكب النصر.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات
النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

موسكو

1 دقيقة

0°C
غيوم قاتمة
العظمى / الصغرى -1°/
18.5 كم/س
72%