ثبُت أن الآثار المدمرة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي"بريكست"، قد طالت الجميع بلا استثناء وبشكل عادل. فالاتفاقية لم تضر بالدولة فحسب عبر خفض معدل النمو وصرف الانتباه عن التهديدات المميتة، مثل السُّمنة، لكنها أضرت أيضاً بالحزب الذي حاك الخطة في الأساس.
مع أننا لا نزال في شهر أبريل، يبدو من المؤكد أن كتاب تيم بيل الذي يحمل عنوان "حزب المحافظين بعد بريكست: الأزمة والتحوّل" (The Conservative Party After Brexit: Turmoil and Transformation) سيفوز بجائزة أكثر كتب العام إحباطاً. يرسم الكتاب صورة لحزب كان عظيماً في الماضي، لكنه وقع في قبضة الهوس بفكرة واحدة، حيث يسجل الكتاب الوقت المهدر ويعدد الفرص الضائعة. باختصار، إنه كتاب حافل بالأخبار السيئة.
بيل، وهو أستاذ للعلوم السياسية بجامعة كوين ماري في لندن، وخبير أكاديمي بارز في شؤون حزب المحافظين، يذكّرنا في كتابه المكون من 350 صفحة، بسلسلة من الأحداث التي يفضّل الناس الطبيعيون نسيانها، ومنها مثلاً: سعال تيريزا ماي طيلة كلمتها في مؤتمر الحزب، فيما سقطت أحرف مختلفة من شعار "بناء دولة للجميع" خلفها؛ ووصف جريدة "ديلي ميل" للقضاة البريطانيين بأنهم "أعداء الشعب"؛ واختباء بوريس جونسون في ثلاجة خلال برنامج تليفزيوني صباحي لتجنّب الأسئلة الصعبة؛ ومطالبات مؤيدي "بريكست" بأن تدقّ ساعة "بيغ بن" في لحظة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مع نهاية 2019 وبداية 2020؛ ودومينيك كامينغز –كبير مساعدي جونسون- يخبر لجنة برلمانية بأن رئيسه كان "يتخبّط يمنة ويساراً"؛ فضلاً عن عودة كواسي كوارتنغ على وجه السرعة من اجتماع في واشنطن لتقيله صديقته العزيزة، رئيسة الوزراء ليز ترَس، من منصبه، في الوقت الذي كان يتدهور فيه الاقتصاد البريطاني.
أسوأ رؤساء الوزراء
قدّم حزب المحافظين بعد "بريكست"، ثلاثة من أسوأ رؤساء وزراء بريطانيا على الإطلاق: ماي، الموظفة العامة المطيعة التي يليق بها منصب الأمين الدائم في وزارة أقل شأناً، والتي أُسيء اختيارها لمنصب سياسي كبير؛ وجونسون، النرجسي الذي طالما قدّم مصالحه الآنية على أي شيء آخر، وكذب بشكل متكرر على زملائه وبلاده، واختفى لفترات طويلة عندما وجب عليه أن يكون في مقر الحكومة في داونينغ ستريت (أخذ مرة عطلة لأسبوعين ليحاول الانتهاء من تأليف كتاب عن شكسبير نال عنه مسبقاً 500 ألف جنيه إسترليني؛ وترَس، وهي شخصية تشبه "الروبوت" على نحو غريب، لم تهتم إلا بأمرين: نسخة مبسّطة للغاية من اقتصاديات السوق الحرة، وعناوين الصحف اليومية.
كان هؤلاء الثلاثة، أبرز أعضاء المجموعة المؤيدة لـ"بريكست". يمكن تشبيه حزب المحافظين بمدرسة بريطانية خاصة متهاوية بسبب الإهمال. حاول ديفيد كاميرون الذي تولى رئاسة الوزراء بين 2010 و2016 تجديدها بتعيين بعض المدرّسين الجدد العصريين، وإبعاد القدامى منهم والمتخلفين عن مواكبة التطور، عن أعين أولياء أمور التلاميذ الذين يمكن أن يلتحقوا بالمدرسة. إلا أن "بريكست" –الذي فتح له كاميرون الباب عبر الاستفتاء الذي أجراه- سلط الأضواء على عدد كبير من الأغبياء والفاسدين والمغرورين والمتشدقين وعديمي الكفاءة، ومن بينهم جاكوب ريس-موغ، كبير منظّري "بريكست"، ذو الشخصية غريبة الأطوار والوقح بكل تأكيد، الذي يظهر في كل مكان. أولئك المتخلفون عن مواكبة التطور، لم يهيمنوا على عناوين الأخبار في تلك السنوات فحسب، بل تمكنوا من قلب فوز بفارق ضئيل (52% مقابل 48%) إلى أصعب نسخة ممكنة من الطلاق الأوروبي.
ثقافة "عدم الاحترام"
أضرّ صعود الجناح المؤيد لـ"بريكست" بالسياسة البريطانية، وأسس لثقافة التنمر وعدم الاحترام. أتذكّر تفاخر أحد المتشددين الغاضبين في وجهي بأنهم "سيمزقون تيريزا إرباً ويتركون أشلاءها مبعثرة حول البرلمان في وستمنستر". ملأ ذلك الجناح الأجواء بالمؤامرات والمؤامرات المضادة. فلا عجب أن يستقيل البرلمانيون الأكثر شباباً وموهبة في الطرف الخاسر من وستمنستر، بحثاً عن عالم أكثر عقلانية. وضمّت قائمة المستقيلين بعض المواهب الكبيرة، مثل روري ستيوارت، ونيك بولز، فيما أصبحت سويلا برافرمان، وكذلك جيمس كليفرلي، وزيرين في الجكومة، بينما وصل كريس بينشر إلى منصب نائب زعيم الأغلبية رغم سمعته بالتحرش تحت تأثير الكحول. شكا أحد الأعضاء الوسطيين في حزب المحافظين إلى بيل في الكتاب، من أن "الحزب تقوده فرقة صغيرة تناسب نسخة هزلية من رواية (حكاية خادمة) (The Handmaid’s Tale)".
أمجاد الماضي وصورة الحاضر
يشكل نزيف المواهب جزءاً من تفريغ أوسع نطاقاً للحزب. ففي أيام مجد الحزب في الخمسينيات، لم يكن عدد أعضائه يقارب المليونين فحسب، بل كانت لديه أيضاً إدارة للبحث وقسم للتدريب الداخلي وجيش من الوكلاء والمتطوعين. كان مترسخاً في المجتمع المدني، لدرجة اعتبار "رابطة شباب المحافظين" (Young Conservative Association) أفضل سوق للزواج في البلاد.
في المقابل، بدا حزب المحافظين في ظل "بريكست" مجرد صورة. فقد تراجع عدد أعضائه إلى 150 ألفاً فقط، فيما يتزايد اعتماده على المليارديرات المشبوهين في تمويله، وعلى مستشارين من ذوي الرواتب العالية في معاركه الانتخابية. تتفاخر خطط أعمال الحزب بأنها تقدّم للممولين المحتملين "عرضاً استثمارياً بدلاً من عرض للتبرع". تُباع دعوة للعشاء مع قادة المحافظين بلا حياء مقابل أعلى سعر في حفلات الحزب. ففي الحفل الصيفي لجمع التبرعات في قاعة فيكتوريا وألبرت الملكية في 2022، دفع أحد الأشخاص 120 ألف جنيه إسترليني (150 ألف دولار) لتناول العشاء مع الثلاثي جونسون وماي وكاميرون.
كما أسند الحزب بحوثه إلى مجموعة من المراكز البحثية غامضة التمويل، والمنتشرة حول وستمنستر. وتحولت انتخابات رئاسة الحزب إلى نوع من المنافسات بين المراكز البحثية لإيصال "مرشحها"-سواء كان رجلاً أو امرأة- إلى المنصب الأعلى. اعتقد "معهد الشؤون الاقتصادية" (Institute of Economic Affairs) المتخصص في بحوث اقتصاد السوق الحرة، بأنه نال الجائزة الكبرى عندما فازت ترَس في انتخابات رئاسة الحزب. لدى الحزب أيضاً علاقة تكافلية مع ما يسميه بيل "الحزب في الصحافة"، إذ تُردد "ديلي تلغراف" و"ديلي ميل" و"ديلي إكسبريس" –الصحيفة الأضعف بين الثلاث- العناوين الرئيسية والتسريبات والافتتاحيات التي ترتبط باللعبة السياسية أكثر من ارتباطها بالصحافة. هلّلت "ديلي ميل" لخطة ترَس المالية في الوقت الذي كانت تتدهور فيه الأسواق العالمية وترتفع معدلات الفائدة على قروض الرهن العقاري. كان فشل الصحافة في تقديم التدقيق الملائم عن ترَس التي اشتهرت بقدراتها المحدودة في وستمنستر، أمراً مخزياً بشكل خاص.
سعي للتواصل مع الشعب
كانت الحجة السياسية الأمثل لـ"بريكست" بأنه سيسمح لذلك الحزب الأجوف بإعادة التواصل مع "الشعب"، كما حدث عند إلغاء قوانين الذُّرة في أربعينيات القرن التاسع عشر، وما حققته نزعة محافظة الأمة الواحدة (One Nation Conservatism) في الخمسينيات. زادت العولمة من تقسيم البلاد إلى "فائزين" متعلمين يعملون في الاقتصاد كثيف المعرفة، و"خاسرين" يعملون في المناطق المُهملة أو يحصلون فيها على إعانات البطالة. كما فاقمت النخبة الليبرالية من سوء الأوضاع بمعاملتها للمُهمَلين على أنهم "مجرد ضحايا" ستسحقهم الحداثة متعددة الثقافات. وفّر "بريكست" سبيلاً لإعادة توجيه السياسة وتلبية مطالب الحزب "بالهيمنة".
القصة الرئيسية لـ"بريكست" كانت النجاح القصير والفشل طويل الأمد في عملية إعادة التنظيم هذه. شهد انتصار جونسون الانتخابي في 2019، تصويت مجموعة كبيرة من إنجلترا "المهملة" لصالح الحزب للمرة الأولى، لكن ذلك كان نتيجة لنفور الطبقة العاملة من جيريمي كوربن، رئيس حزب العمال -المثالي اليساري من الطبقة الوسطى- إلى جانب الإرهاق العام من "بريكست".
جاء فشل إعادة التنظيم -إلى حدٍ ما- كنتيجة لأخطاء جونسون الشخصية. فكبار السياسيين الساحرين في حزب المحافظين، مثل روبرت بيل وونستون تشرشل وهارولد ماكميلان، تمتعوا بمواهب وقدرات استثنائية في التركيز والعمل الدؤوب، والأهم من ذلك بالجدية، فيما لم يمتلك جونسون أياً من تلك القدرات أو حتى أنه لم يدركها.
انقسام وتهور
لكن الخطأين الكبيرين أضعفا حزب جونسون.
الخطأ الأول، هو أن مؤيدي "بريكست" كانوا منقسمين إلى نصفين على أسباب الخروج من الاتحاد الأوروبي. فقد أراد دعاة العولمة –مثل كواسي كوارتنغ- إكمال ثورة التجارة الحرة وتحويل اقتصاد بريطانيا إلى أحد اقتصادات النمور الآسيوية، بينما أراد مؤيدو التكاتف بين الفرد والمجتمع -مثل مايكل غوف- معالجة مشكلات الناس التي أدت العولمة إلى إهمالهم. لذلك، انحدر حزب المحافظين بعد "بريكست" من مبادئ المحافظين "الظلم المستعر" التي طبقتها ماي، إلى التاتشرية القوية التي نفذتها ترَس، وبينهما فترة فاصلة من حكم جونسون، التي تمثلت بفعل كل شيء بغض النظر عن التكلفة.
الخطأ الثاني كان التهور الاقتصادي في مشروع "بريكست" بأكمله. نجح إلغاء قوانين الذُّرة في 1846 لأنه أغنى البلاد وحسّن مستويات المعيشة عبر خفض أسعار الغذاء، وكذلك نجحت مبادئ المحافظين للرفاه لأن الاقتصاد البريطاني، مثله مثل بقية أوروبا، كان يستفيد من منافع الاقتصاد الكينزي. لكن "بريكست" تسبّب في تراجع كبير لمعدل النمو في بريطانيا. يقتصر السجال الآن على من يتحمل المسؤولية عن هذا الإخفاق، سواء كانت "المؤسسة" التي حوّلت فكرة عبقرية إلى سراب بالعناد والحيلة، أو الغباء الكامن في الانسحاب من تكتل تجاري مفتوح نسبياً.
هزيمة غير مؤكدة
في أي قصة أخلاقية جيدة، كان حزب المحافظين ليُمنى بخسارة فادحة في الانتخابات المقبلة عقاباً على هوسه بـ"بريكست"، حيث قضى حزب العمال على أقوى أسباب التصويت لصالح المحافظين باستبدال كير ستارمر بكوربن، فيما المبررات الاقتصادية ضد "بريكست" آخذة في الازدياد. لكن بيل يوضح أن هزيمة حزب المحافظين في انتخابات 2024 غير مؤكدة بأي شكل، وهو محق.
أخيراً وجد حزب المحافظين زعيماً كفؤاً في ريشي سوناك، ويجري التخلي عن حلم تحقيق المساواة في صمت باسم الحذر المالي. الحزب يُعيد وحوش "بريكست" إلى القمقم الذي حدده لهم كاميرون قبل عقد من الزمن. كما يصور الحزب الانتخابات المقبلة على أنها رئاسية بين زعيمه الذي أثبت نجاحه و"الفارس الصلب" زعيم حزب العمال الذي لم يُختبر بعد.
يواجه ستارمر مشكلات خطيرة مع قضايا "الصحوة" المرتبطة بالهوية الوطنية والجنسية التي توحّد المحافظين وتقسّم حزبه. كما قد يرتكب خطأ تكرار التحدث عن ثروة سوناك، حيث يظن الناس أن التعامل الجيد مع المال، هي ميزة إيجابية لأي زعيم.
المفارقة الكبيرة في "بريكست" أنه بدلاً من أن يؤدي إلى إعادة تنظيم تاريخية، فإنه يتركنا مع الخصمين السياسيين اللذين رأيناهما في 2010. فمن جهة يسعى المحافظون إلى تنفيذ سياسة "تاتشرية" من التخفيضات الضريبية –في نهاية المطاف- وخفض الإنفاق العام؛ ومن جهة أخرى يرغب حزب العمال في معالجة الظلم الاجتماعي، لكنه قلق، رغم سجل المحافظين من عدم الكفاءة المذهلة واعتبارهم حزباً مسرفاً.
أنتج لنا "بريكست" إحدى أغرب الثورات السياسية في التاريخ البريطاني، لتصيب جيلاً بالجنون وتضرّ بالاقتصاد. لكن خطوط المواجهة الرئيسية تكاد تبقى كما هي بلا تغيير.