إليزابيث الثانية قدمت رؤية ثورية بشأن الملكية في بريطانيا

لم ينج النظام الملكي البريطاني فحسب، بل ازدهر ولم يقدم أياً من تنازلات ممالك راكبي الدراجات في العالم الاسكندنافي

time reading iconدقائق القراءة - 19
الملكة إليزابيث الثانية - المصدر: بلومبرغ
الملكة إليزابيث الثانية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

توفيت أطول ملوك بريطانيا جلوساً على العرش. وأشعر أنَّ أحداً قد رحل من أسرتي.

وُلدت الملكة إليزابيث في 1926، وهو العام الذي قدّم فيه جون لوجي بيرد أول عرض تلفزيوني عام، وتوجت في 1953، عام وفاة جوزيف ستالين. عاشت الملكة معنا فترة طويلة بحيث لا يتذكر الحياة قبلها سوى فئة قليلة من السكان. وحكمت فترة كانت الأطول من أي ملك بريطاني آخر، وتفوقت بسهولة على جدتها الكبرى، الملكة فيكتوريا. بناءً على مبدأ "يجب أن يُرى حتى يُصدَّق"، قابلت شخصياً عدداً لا يحصى من الأشخاص، وأثرت في حياة المليارات من خلال الراديو والتلفزيون. من لا يتذكر ما كانت تبثه بمناسبة عيد الميلاد؟ أو العزاء الذي قدمته خلال جائحة كوفيد عندما رددت وعد فيرا لين "سنلتقي مرة أخرى".

الآن رحلت.

تتمثل معجزة النظام الملكي في كيفية نجاته في عصر ديمقراطي يتسم بالمساواة. كل ما يمثله هذا النظام (الوراثة بدلاً من الجدارة، والإسناد بدلاً من الانتخاب) هو نقيض كل شيء نعتز به كحضارة. ومع ذلك، لم ينج النظام الملكي البريطاني فحسب، بل ازدهر. لم يقدم أياً من تنازلات ممالك راكبي الدراجات في العالم الاسكندنافي. وفي الواقع، كاد هذا النظام أن يستمتع بتحدي المساومة.

كيف تحقق هذا؟

استعداداً لتولي المنصب، زوّدت الملكة بدليل للصمود في وجه اضطرابات الحداثة. كان هذا كتاب والتر باغهوت العظيم "الدستور الإنجليزي"، الذي نُشر عام 1867 في ذروة حيوية العصر الفيكتوري. عندما كانت طفلة، قام نائب عميد كلية إيتون، هنري مارتن، بزيارة قلعة وندسور بانتظام لتعليمها واجباتها الدستورية، مع التركيز بشكل خاص على حكمة باغهوت.

لم يكن أي شيء في هذه التجربة طبيعياً. خاطب مارتن الأميرة المنعزلة بلقب "سادتي"، محاضراً إياها كما لو كانت مجموعة من طلاب إيتون. بل إنَّ أشد من ذلك سريالية هو ما علّمها إياه، مستخدماً في ذلك باغهوت: وهو أنَّ بريطانيا "جمهورية مقنّعة"، وأنَّ أفضل مؤهل للعاهل الملكي هو الغباء، وأنَّ المهمة هي قضاء الحياة بحرف الانتباه عن عمل الحكومة الحقيقية.

كان باغهوت يعتقد أنَّ فن الحكم أخطر كثيراً من أن يترك للجماهير. بدلاً من ذلك، يجب أن يترك الحكم لنخبة صغيرة من الرجال من ذوي التفكير الرصين الذين يفهمون العالم. لكن كيف يمكن أن تقنع الناس بقبول هذا الوضع في عصر التحول الديمقراطي؟ الجواب يكمن في حرف الانتباه أو التمويه عن طريق الملكية. كان باغهوت يأمل في أن يركز الناس على أفراد العائلة المالكة الرائعين في عرباتهم المذهبة، كي يقودوا العرض العظيم، بينما نرى أنَّ "الحكام الحقيقيين يتم إخفاؤهم في عربات من الدرجة الثانية". "لا أحد يهتم بهم ولا يسأل عنهم، لكنَّهم يطاعون ضمنياً وبطريقة لاواعية بسبب روعة من يتقدّمونهم ويخطفون الأضواء بدلاً منهم".

استبدل باغهوت الفرد أيضاً بالعائلة في قلب روايته، وكان ذلك جزءاً من استراتيجية حرف الانتباه والتمويه التي ينتهجها. ووفقاً لرؤيته، يهتم الناس العاديون –خاصة النساء– بمسألة الزواج أكثر من اهتمامهم بالوزارة خمسين مرة. ويتضاعف أثر التمويه والإلهاء أيضاً بفكرة المشروعية؛ فمن الأرجح أن يطيع الناس دولة لها وجه بشري على أن يطيعوا دولة ليست إلا عبارة عن تجريد خالص. وعبر تقديم نسخ عبقرية من الحقائق الكونية إلى الناس العاديين –مثل الميلاد والزواج والموت– قامت العائلة الملكية أيضاً بربط أعمال الحكومة بشؤون البشر المعتادة. وكان ذلك جزءاً من استراتيجية التحول إلى قيم وممارسات البرجوازية.

في رؤية باغهوت، يجب أن تتحول العائلة الملكية من بقايا المجتمع الأرستقراطي إلى تجسيد للقيم البرجوازية. فكانت مهمة فيكتوريا أن تكون امبراطورة الهند وفي نفس الوقت قمة زواج المرافقة. وتظل الملكية فيكتورية الطابع من الناحية المادية. فتعكس القصور بزخارفها وزينتها أذواق الملكة-الإمبراطورة. والمناسبات العظيمة تتواصل في تمثلاتها الفيكتورية. والزي الكرنفالي الذي يرتديه الحرس في المراسم فيكتوري بنفس الدرجة مثل أوبريتات غيلبرت وسوليفان.

غير أنَّ إليزابيث الثانية كان عليها أن تهجر دليل باغهوت، وتبتكر دليلاً جديداً كاملاً لنفسها. ولا يصدق أحد في يومنا هذا أنَّ الملكة حكمت وملكت. ولو عرفوا، كان يمكن أن يطالبوا بتغيير، وهم محقون. ففكرة أنَّ الملكية من الناحية الجوهرية مجرد استعراض، هي في حكم البديهية. إنَّها إلهاء وحرف للانتباه بمعنى الانحراف والانعطاف فضلاً عن التخفي والتنكر.

البعد العائلي في هذا الاستعراض يحتفى به على نطاق واسع. لم تكن الملكية تحظى بشعبية مثلما تكون عندما تمنحنا نسخاً عبقرية لامعة من مناسبات دورة الحياة مثل مناسبات الميلاد، والزواج، والموت. ومع ذلك؛ فقد فشلت ملكية اليوم منفردة في محاولتها تصوير نفسها باعتبارها عائلة نموذجية من الطبقة المتوسطة تجلس على قمة المجتمع البريطاني. وبعيداً تماماً عن لعب أي أدوار نموذجية؛ فإنَّ سكان قلعة ويندسور مهووسون بالنماذج المتطرفة من أعباء الأسر العادية؛ مثل الطلاق، وبلوغ الحلم، والخيانة، والنفاق. فإذا كنا نحتفي بحالات زواج القصص الخيالية، فقد شاهدناها أيضاً برعب شديد وهي تنحدر إلى قسوة بغيضة.

كان الإنجاز الأكثر وضوحاً للملكية هو عنصر الاستمرارية في عالم تسوده حمى التغيير. الرأسمالية الليبرالية نقلت مبدأ التدمير الإبداعي إلى أقصى درجاته، ليس من خلال إنشاء وتدمير الشركات فقط، بل أيضاً عبر إعادة التنظيم المستمر للحياة اليومية (عندما تعتقد أنَّك تعلمت كيفية استخدام الخدمات المصرفية الإلكترونية، تتغير القواعد وعليك إتقان النظام الجديد). مع ذلك؛ فإنَّ البدائل الشعبوية للرأسمالية الليبرالية قبيحة للغاية، بدءاً من الشوفينية إلى اليمين المتطرف حتى الكليبتوقراطية الإجرامية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

جسدت الملكة القوة الحضارية للتقاليد التي توازن التغيير دون اللجوء إلى ثرثرة رد الفعل المباشر.

روبرت هاردمان، الذي ربما يكون الأكثر إدراكًاً للمراقبين الملكيين الغريبين في بريطانيا، يصفها جيداً، حيث قال: "إنها تجسيد حي لمجموعة من القيم ولحقبة تاريخية. في بريطانيا، تعد إليزابيث جسر لندن والحافلة الحمراء ذات الطابقين، ناهيك عن ساعة بيغ بن، وشاي بعد الظهيرة، وتلال القريةK والتلال المليئة بالأغنام تحت المطر الغزير. كما أنَّها تمثل الشخصية الإخبارية التي واصلت التوجه نحو الوضوح الرقمي العالي في العالم الأوسع نطاقاً".

اعترض قلة من الناس على العالم الاجتماعي الذي تجسده، فهي جزء من الخمسينيات وولدت في العشرينيات، إلى جانب كونها تنتمي لشريحة الطبقات العليا القديمة في عصر متعدد الثقافات. كان شغفها الأكبر هو رياضة الملوك وسباق الخيل، وكانت تقضي إجازتها في ممارسة الصيد والرماية وصيد الأسماك في بالمورال، وكان أصدقاؤها دوقات وإيرلات.

مع ذلك؛ فإنَّ أحد الأشياء الرائعة في عهدها هو التخلص من الجمهورية تماماً. كلما تغير العالم، نتوق أكثر لنقاط الاستمرارية. ومهما فكرنا في قضاء عطلات نهاية الأسبوع في بالمورال، يمكننا جميعاً الاتفاق على مزايا الحافلات ذات الطابقين وساعة بيغ بن.

عاشت الملكة حياة مليئة بالالتزام في عصر لا يندرج فيه الالتزام ضمن الموضة، إذ تعد النخبة ذات الجدارة التي هيمنت على العالم منذ تولي إليزابيث العرش بعيدة تماماً عن عالم الالتزام والخدمة. اعتقاداً منهم بأنَّهم تولوا مناصبهم بالاستحقاق وليس الحظ، فإنَّهم يفكرون فيما يدين به العالم لهم بدلاً مما يدينون به للعالم. كما لايوجد أي وقت لديهم للعلاقات والالتزامات المحلية في ظل انخراطهم التام في شؤون الاقتصاد العالمي.

على النقيض من ذلك، كرست الملكة حياتها للالتزامات، وهذا لا يتعلق فقط بالكبرى منها مثل افتتاح البرلمان والذهاب في جولات ملكية، بل الصغيرة أيضاً مثل افتتاح المستشفيات وحضور المناسبات الخيرية. عاشت حياتها كلها علناً أمام العامة، وحتى عند قضائها العطلات، لم تستطع أبداً الاسترخاء، وسافرت بلا كلل إلى الخارج لإبقاء فكرة الكومنولث، أحد أعظم الأمور المستحوذة على اهتمامها.

عندما توفي الأمير ألبرت عام 1861، لم تظهر الملكة فيكتوريا علناً لأعوام، وحصلت على لقب "أرملة وندسور" وأثارت مشاعر الجمهوريين. وعندما توفي الأمير فيليب، عادت الملكة إلى العمل في اليوم التالي تقريباً.

ربما كانت بعض جولاتها اللانهائية لإتمام المهام المختلفة رائعة. لقد التقت بقادة العالم أكثر من أي شخص آخر على قيد الحياة، وهذا لا يشمل 13 رئيساً أميركياً فقط بل يشمل أيضاً شخصيات أسطورية قريبة مثل ونستون تشرشل (الذي أثار رهبتها عندما اعتلت العرش لأول مرة)، وشارل ديغول ونيلسون مانديلا.

حتى عندما قابلت أشخاصاً رائعين، كانت مقيدة بالبروتوكول الملكي، بالتالي؛ كان الجزء الأكبر مما فعلته في حياتها مملاً بالتأكيد. هل يمكن لأي شخص الاستمتاع حقاً بقص الشرائط أو مشاهدة الرقص الشعبي أو منح وسام الفروسية؟

لاحظ الأمير فيليب ذات مرة أنَّ هذه حياة لا يختارها أحد أو يتطوع للحصول عليها (على وجه الخصوص، يمكن إضافتها، إذا ورثت ما يكفي من المال لتعيش حياة من التساهل الذاتي غير المسؤول). لكنَّ الملكة لم تفشل أبداً في فهم أنَّ ما قد يبدو وكأنَّه اجتماع عادي لها هو المرة الوحيدة التي قد تلتقي فيها ممرضة أو مقدم رعاية بالملك.

كان التزامها بالواجب يتماشى مع جو من الوقار لا ينضب. مرة أخرى، هذا توازن مع عالم شعبي بشكل متزايد، إذ يمكن لنجم تلفزيوني أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، ويمكن للرجل الذي أقيل مراراً وتكراراً بسبب أكاذيبه أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا، أو أن يهيمن المهووسون على موجات الإذاعة بشكل متزايد.

كانت الملكة محور تركيز عالم بديل كان كل شيء فيه بمكانه وهناك مكان لكل شيء، عالم منظم لكنَّه أيضاً مليء بالممرضات ومقدمي الرعاية، فضلاً عن الدبلوماسيين وكبار الشخصيات، عالم هادئ يحظر فيه الصراخ والكلمات فيه قليلة ومختارة جيداً.

كنا قساة مع باغهوت وفكرته عن الملك باعتباره مصدر إلهاء. لكنَّ فكرة أنَّ الدستور البريطاني يستند إلى التمييز بين السلطة المرموقة في الحكومة والكفاءة هي فكرة محورية في حجته. يشير الدستور اللائق إلى مؤسسات دائمة موجودة في نوع من العالم الأفلاطوني المثالي. الجزء الفعال ينتمي إلى عالم الساسة غير الدائم وصراعاتهم على السلطة. كانت مهمة الملكة هي تجسيد الأول بينما كانت تنحني في النهاية للثاني. وكان عليها قراءة أجندة الحكومة، وتجسيد كرامة الدولة في آن واحد.

كانت أداء الملكة إليزابيث في الوظيفتين رائعاً. فقد واصلت التغييرات التي كانت غريبة بشكل كبير على طبقتها، مثل الانتصار البرجوازي لمارغريت ثاتشر، من ناحية، أو إلغاء المبدأ الوراثي في مجلس لوردات المملكة المتحدة، من ناحية أخرى. كما أنَّها فسحت المجال لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عندما أساءت التعامل مع الرد الملكي على وفاة ديانا التي لُقبت بـ"أميرة الشعب". ولعبت دوراً رائداً في تحويل الإمبراطورية البريطانية إلى كومنولث من الدول المتمتعة بالحكم الذاتي. في الوقت نفسه، جسدت هيبة الدولة.

لا شك أنَّه سيكون هناك حديث كثير عن مستقبل النظام الملكي في الأشهر المقبلة مع تلاشي الصدمة الأولى لموت الملكة إليزابيث. والمؤكد أنَّ هذا التقسيم للسلطات أصبح أكثر أهمية، وليس أقل، في الأعوام الأخيرة مع اندلاع الحروب الثقافية والغضب.

تم اختبار اعتقاد أميركا بأنَّ الرئيس يمثل القوى الفاعلة السياسية ورئيس الدولة في نفس الوقت خلال فترة تولي دونالد ترمب منصب رئيس البلاد. أما في بريطانيا، من الممكن أن تشمئز ليز ترَس أو كير ستارمر من وظائف الدولة، لكنَّها ستواصل المشاركة بسعادة فيها. نفّذت الملكة حيلة رائعة في الحفاظ على نظام ملكي كان مهيباً وغير سياسي في الوقت ذاته. وسيكون أحد مقاييس إنجازها هو الحكم على الملك الجديد بشكل كبير بناءً على قدرته على تنفيذ الحيلة نفسها بالضبط.

ماتت الملكة. يعيش الملك.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

لندن

12 دقائق

7°C
غائم جزئي
العظمى / الصغرى /
25.9 كم/س
69%
الآراء الأكثر قراءة