من كان ليقول إن انهيار الاتحاد السوفيتي قادم؟

time reading iconدقائق القراءة - 19
وداعاً لكل هؤلاء: ميخائيل غورباتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي؛ وأندريه غروميكو، رئيس مجلس السوفيت الأعلى لاتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية؛ ونيكولاي ريجكوف، رئيس مجلس الوزراء؛ و إيغور ليغاتشيف، عضو المكتب السياسي، يلقون التحية من فوق ضريح لينين في الساحة الحمراء في موسكو، على تظاهرة بمناسبة عيد العمال عام 1986. - المصدر: بلومبرغ
وداعاً لكل هؤلاء: ميخائيل غورباتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي؛ وأندريه غروميكو، رئيس مجلس السوفيت الأعلى لاتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية؛ ونيكولاي ريجكوف، رئيس مجلس الوزراء؛ و إيغور ليغاتشيف، عضو المكتب السياسي، يلقون التحية من فوق ضريح لينين في الساحة الحمراء في موسكو، على تظاهرة بمناسبة عيد العمال عام 1986. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

في 25 ديسمبر 1991، استقال ميخائيل غورباتشوف بعد أن واجه صعوبة في التغلب على الضربة التي تلقاها من الانقلاب المتشدد قبل أشهر، وحركات الاستقلال في جمهوريات الاتحاد السوفيتي. أراد الرئيس السوفيتي الأخير إصلاح الشيوعية وليس استبدالها، لكنه لم يتمكن من احتواء قوى الطرد المركزي الناتجة عن إصلاحاته، وبالتالي انتهى الاتحاد السوفيتي المتعثر والممزق.

قال غورباتشوف في خطابه الأخير، إن "النظام القديم انهار قبل أن يتاح لنظيره الجديد الوقت الكافي لبدء العمل". كما دعا روسيا إلى المحافظة على حرياتها الديمقراطية التي اكتسبتها بشق الأنفس. كان بوريس يلتسين يشغل منصب رئيس الجمهورية الروسية السوفيتية آنذاك، حيث تمكن بدلاً من ذلك من إحياء نظام القوة الشخصية الذي طال أمده.

اقرأ المزيد: 30 عاماً على التفكك.. لينين لا يزال حياً والاتحاد السوفييتي لم يمُت بعد

سألنا بعض أبرز خبراء الاقتصاد والمؤرخين والمراقبين في روسيا والاتحاد السوفيتي السابق، لماذا فاجأ هذا الانهيار الكثيرين، وما هي الدروس التي يجب أن يتعلمها سكان الكرملين الحاليون، وطلاب روسيا التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين.

اقرأ أيضاً: الغاز الروسي.. كنز موسكو بين الرفض والترحيب أوروبياً

سيرغي رادشينكو، وهو مؤرخ الحرب الباردة، وويلسون شميت، وهو الأستاذ المتميز بمدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة.

السبب في أن من تنبأوا بانهيار الاتحاد السوفيتي كانوا قلة، هو أنه بدا بشكل واضح وكأنه قوة عسكرية هائلة ذات جهاز أمني واسع النطاق. ولم يفهم سوى قلة من المراقبين مدى ضآلة الصفة الشرعية التي يمتلكها النظام. فقد انهار داخلياً بسبب الفساد، وفقدان الإيمان بالأيديولوجية، ومستويات المعيشة المزرية، وأخيراً بسبب صراع النخبة. وفي النهاية، كان انشقاق النخبة هو الذي أدى إلى إسقاط النظام، فضلاً عن الافتقار إلى الشرعية الشاملة. ما الهدف من الاتحاد السوفييتي إذا أصبح بناء الشيوعية أمراً غير وارد؟

القومية الروسية

لقد استغل بوتين القومية الروسية، وهي قوة أكثر فاعلية بالنسبة إلى الوحدة الوطنية مما كان بوسع السوفييت التباهي به على الإطلاق، وبالتالي فإن روسيا، بوصفها دولة قومية، تعتبر أكثر استقراراً بطبيعتها في عهد بوتين.

مع ذلك، تواجه روسيا أيضاً بعض المشكلات التي واجهها الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك نقص الشرعية (في ظل غياب انتخابات حرة ونزيهة)، والفساد غير المسبوق حتى في زمن الاتحاد السوفييتي، وركود مستويات المعيشة، وصراع النخبة مع تقدم بوتين في العمر. لذلك، رغم أن روسيا في عهد بوتين لن تتفكك على الأرجح إلى أقاليم شبه مستقلة في أي وقت قريب، فإن البلاد دخلت بالفعل في أزمة طويلة الأمد. وهنا يكون السؤال الوحيد هو: ما الذي ينتظر روسيا عند الطرف الآخر، وإلى أي مدى ستتسم الفترة الانتقالية بالعنف؟

سيرغي غورييف، وهو أستاذ علوم الاقتصاد في معهد الدراسات السياسية بباريس (Sciences Po Paris)، وكان شغل منصب عميد الكلية الاقتصادية الجديدة في موسكو حتى عام 2013.

من الطبيعي ألا يتمكن معظم الناس من التنبؤ بتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي كان يعد إحدى القوتين العظميين العالميتين. فمثل هذه الأحداث نادرة جداً في التاريخ. مع ذلك، كانت هناك علامات على حدوث ذلك. إن لم يكن بوسع شيء ما الاستمرار إلى الأبد، فسيتوقف. هذا هو القانون الذي صاغه الاقتصادي الأمريكي هربرت شتاين في عام 1986، رغم أنه لم يكن يقصد الاتحاد السوفييتي. لم يتمكن اقتصاد الاتحاد السوفييتي من تحقيق نمو في الإنتاجية، وبالتالي اضطر الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف إلى الاقتراض لتوفير مستويات معيشية مستقرة، كما إن الاتحاد لم يستطع إدخال إصلاحات نظراً لجمود النظام. وفي النهاية، رأت الأسواق أن الاتحاد السوفييتي لا يستطيع خدمة ديونه.

كانت هناك أمثلة مشابهة في الآونة الأخيرة، كأزمة الرهن العقاري (رغم أن بعض الأشخاص وبعض الاقتصاديين الأكاديميين توقعوها بالفعل) والأزمة اليونانية (حينها تبين أن جزءاً كبيراً من الديون اليونانية كان مخفياً). لم يكن أحد يتوقع حدوث تخلف عن السداد داخل منطقة اليورو.

دروس مستفادة

تعلم بوتين الكثير من الدروس. الدرس المستفاد الأول والأهم هو أن سياسة الاقتصاد الكلي لروسيا أكثر تحفظاً، والتضخم تحت السيطرة، وثمة احتياطيات ضخمة، وميزانية متوازنة، ولا ديون خارجية. والدرس الثاني هو أنه في ظل هيمنة الدولة ولوائح الأسعار الخاصة، لا تزال روسيا قائمة على اقتصاد السوق الذي هو أكثر كفاءة ومرونة بكثير من اقتصاد الاتحاد السوفييتي.

مع ذلك، يجب على العالم تذكر أنه كما انهار النظام السوفييتي، يمكن أن يلقى النظام الروسي المصير ذاته أيضاً، خصوصاً أن النظام السوفييتي كان أيديولوجياً وجماعياً، بينما نظام بوتين فردياً. وكما قال رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين ذات مرة "لا بوتين - لا روسيا". وفي هذه الحالة، لا يمكن لهذا النظام الاستمرار إلى الأبد، وربما تكون روسيا ما بعد بوتين أفضل أو أسوأ، لكنها بالتأكيد ستكون مختلفة.

يفغينيا ألباتس، صحفية استقصائية ومحررة في صحيفة "نيويورك تايمز"، وهيي واحة من كبار الباحثين غير المقيمين في مركز ديفيس للدراسات الروسية والأوروبية الآسيوية بجامعة هارفارد.

من الواضح أن الغروب الأحمر لم يكن متوقعاً من قبل جيش المتخصصين في الشأن السوفييتي، والمتخصصين من رجال الاستخبارات، وعلماء السياسة.

أعتقد من وجهة نظري المتواضعة بأن هذا الفشل نتج عن ثلاثة أسباب رئيسية. السبب الأول مفهوم، وهو الافتقار إلى المعلومات الواقعية عن الحياة المكتسبة على الأرض، بخلاف مشاهدة التغييرات بين وجوه كبار الحزب الشيوعي على منصة ضريح لينين أثناء العروض العسكرية.

السبب الثاني يتعلق بالتسييس المفرط للتحليل الأكاديمي. فعلى سبيل المثال، وصف "إمبراطورية الشر" الشهير الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان على الاتحاد السوفياتي (المعارضون داخل الاتحاد السوفييتي قدروا ذلك كثيراً)، والذي أدى إلى ما يسمى بحروب الفضاء -تصاعد سباق التسلح- اعتبره الكثيرون في الأوساط الأكاديمية أنه عدواني، وهذا ما وجدته عندما جئت إلى جامعة هارفارد لنيل درجة الدكتوراه. ومع ذلك، فإن هذه السياسة العدوانية دقت مسماراً في نعش الاقتصاد السوفييتي المفرط في التسلح، وأسهمت في انهيار النظام.

أخيراً، تمثّل السبب الثالث والأكثر إدانة نظراً لأثره طويل الأمد، في ممارسة الإفراط في إضفاء الطابع الشخصي على السياسة على حساب المؤسسات، وهذا صحيح وينطبق على غورباتشوف ومؤسسات الاتحاد السوفياتي. وبالطريقة ذاتها، فإن الأمر ينطبق على الزعيم الروسي الحالي الذي اتبع أساليب ديكتاتورية خلال السنوات العشرين الماضية، فلاديمير بوتين، والذي اعتبره متخصصون كثر في المجال براغماتياً، واعترفوا به بشكل أفضل بكثير من سلفه القديم بوريس يلتسين، الذي كان ثملاً في كثير من الأحيان.

خطر جهاز الاستخبارات

نتيجة لذلك، لم يتلمّس أحد تقريباً منذ 20 عاماً الخطر الكامن في حقيقة أن بوتين كان ممثلاً للمؤسسة السوفييتية الأكثر قمعاً وقوة، وهي الاستخبارات السوفييتية (KGB). إذا أثار شخص ما القلق بقول إن مؤسسة قائمة على القوة الغاشمة وليس على سيادة القانون تتولى زمام الأمور في روسيا، فإن الرد المعتاد (حتى إنذار عام 2014 مع ضم شبه جزيرة القرم) يكون أن جورج بوش كان أيضاً رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA).

كانت عودة الاستخبارات الروسية بشكل منتصر من العدم موضع تجاهل واستخفاف في تحليل تطور روسيا، لكن العواقب تظهر الآن على الحدود الأوكرانية، إذ يوجد أكثر من 100 ألف جندي روسي على وشك غزو الدولة الجارة.

سيرهي بلوخي وهو أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد ومدير معهد الأبحاث الأوكراني بالجامعة، كما إنه مؤلف كتاب "الإمبراطورية الأخيرة: الأيام الأخيرة للاتحاد السوفييتي".

كان الاتحاد السوفييتي معروفاً لصنّاع السياسة في واشنطن والعواصم الأوروبية والصحفيين والجمهور أولاً وقبل كل شيء، بأنه روسيا، إن لم يكن دولة قومية على النمط الأوروبي، ثم ما يشبه الولايات المتحدة ذات الجمهوريات بدلاً من الولايات الأمريكية.

خلال الحرب الباردة، تشاركت القوتان العظميان العداء تجاه إمبراطوريات قديمة مثل إمبراطورية بريطانيا، وتوددتا للمستعمرات الإمبريالية السابقة التي أصبحت دولاً مستقلة بين الخمسينيات والسبعينيات. لكن الاتحاد السوفييتي- أو "روسيا"- لم يكن يُعتبر إمبراطورية على النطاق الداخلي، لأن حكامه زعموا أنهم حسموا مسألة القوميات في الإمبراطورية الروسية قبل عام 1917 من خلال إنشاء "شعب سوفييتي" موحد على أساس الماركسية الدولية.

وعليه، جاءت الصدمة الكبرى للغرب في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفييتي وكأن الإمبراطورية لاقت حتفها، وتفكك على طول الحدود العرقية لجمهورياته الخمس عشرة. كما كافحت الدول الأخرى الطامحة داخل الاتحاد السوفييتي، مثل الشيشان، دون جدوى للخروج من رحم الإمبراطورية.

تعدّد العرقيات

ربما كان متوقعاً أن يتنبأ العلماء الغربيون المتخصصون في الشأن السوفييتي بمثل هذه النتيجة، لكنهم لم يهتموا تقريباً بتكوين الاتحاد السوفييتي متعدد الأعراق، وركزوا بدلاً عن ذلك على سياسة الكرملين وروسيا والأيديولوجية الشيوعية والقدرات العسكرية للاتحاد السوفيتي. وأدرك قلة من الخبراء، ناهيك عن العامة الغربيين، أن الروس يشكلون فقط أكثر بقليل من النصف -تحديداً 50.8%- مما أسماه دعاه الكرملين "الشعب السوفييتي".

يشير آخر تعداد سكاني إلى أن الروس يشكلون 81% تقريباً من سكان الاتحاد الروسي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. لكن كم من الساسة والدبلوماسيين يأخذون هذا في الاعتبار اليوم؟ وكم من عامة الناس يدركون أن حوالي خمس "الروس" اليوم ليسوا من أصل روسي مطلقاً؟ القليل منهم فقط على أحسن تقدير.

في كثير من الحالات، يعيش غير الروس في أراضي أسلافهم التي ضمتها سانت بطرسبرغ أو موسكو في العهد القيصري، عندما كانت الإمبراطورية الروسية متعددة الأعراق. وبالنظر إلى هذه النقطة المخفية الغربية، عندما يتعلق الأمر بغير الروس الذين لا يعتبر كثيرون منهم أنفسهم متساوين في "الاتحاد الروسي"، فإننا سنواجه المزيد من التطورات السياسية الصادمة في المستقبل.

تاتيانا ستانوفايا، وهي المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة التحليل السياسي "آر بوليتيك" (R. Politik)، وباحثة غير مقيمة في مركز كارنيغي موسكو.

هناك على الأقل ثلاث قضايا حساسة مرتبطة بالاتحاد السوفييتي ولها مغزى عاطفي كبير بالنسبة إلى بوتين شخصياً، ويتعين على العالم أن يأخذها في الاعتبار عند السعي لفهم دوافع بوتين.

أولاً، يعتقد بوتين بأن بلاده يجب أن تكون دولة موحدة، وأن التجربة السوفييتية التي تنطوي على استقلال ذاتي وطني كانت خطأً فادحاً. وفي مناسبات عدة، اتهم بوتين لينين بزرع "قنبلة رمزية تحت حكم الدولة الروسية عبر منح جنسيات مختلفة أراضيها الخاصة وحق الانفصال"، و "تفكيك دولة عمرها 1000 عام"، وهو الشيء الذي يعتقد بوتين بأنه قد يستعيده وينفذه. وهو يبين مدى كره بوتين للتعامل مع روسيا الفيدرالية، وتفضيله التعامل مع الدولة التي تحكم كوحدة واحدة، فضلاً عن أنه يظهر خوفه الشديد من الطموحات الإقليمية.

عبادة الدولة

ثانياً، ظل بوتين لأعوام يخلق عبادة الدولة، ما يعني أن الدولة كمؤسسة لها أولوية غير مشروطة على أي مصالح اجتماعية أو خاصة أخرى، وتعمل من أجل المصلحة الوطنية طويلة الأجل. لهذا السبب سعى، على سبيل المثال، إلى إعادة تأهيل حكم الرئيس السابق ستالين. ورغم إدانته الشخصية للقمع السياسي والإرهاب الجماعي، إلا أنه يعتقد بأن الدولة قد تتمتع في بعض الظروف الحرجة بسلطات "طوارئ" وتتصرف خارج نطاق القانون إذا اقتضت "المصالح الوطنية" ذلك. كما أن الإيمان بحق الدولة في اتخاذ إجراءات استثنائية، يمنحها المبرر الأخلاقي والتاريخي لإجراءات قد تتخطى الخطوط الحمراء للجهات الفاعلة الأخرى في العالم. مع ذلك، فهو يعتقد أيضاً بأن الدول يجب أن تتفق فيما بينها على قواعد مشتركة بموجب مبادئ الاعتماد المتبادل وضمانات عدم الاعتداء متعدد الأطراف.

ثالثاً، يعتقد بوتين بأن أولويات الدولة مقدسة، ويعتقد بضرورة حماية الدولة من النقاد "السياسيين"، لأنهم يجعلون الدولة أضعف وأكثر عرضة للخطر في بيئة عدائية. وبما أن بوتين يعتبر روسيا اليوم حصناً محاصراً وتحت تهديد جيوسياسي دائم، فإنه يفرض قمعاً شديداً لأي معارضة حقيقية، لأنه يرى أنها سياسة مناهضة للدولة وليست مناهضة لنظامه السياسي. وهذا يفسر أيضاً عودة الخطاب السياسي الذي يشيد ببعض الحركات السوفييتية، مثل "الرواد الشباب" (Young Pioneers) ، و"كمسومول" (Komsomol)، و"التثقيف الوطني" (patriotic education) وغيرها. وهذا لا يعني أن روسيا قد تتبنى طباع الاتحاد السوفييتي في الحياة اليومية، لكنها بالتأكيد ستتحرك أبعد من الإجراءات الديمقراطية وأسرع نحو التوطيد السياسي والاجتماعي القسري، وليس نحو التنوع السياسي والمناقشات المفتوحة.

فلاديسلاف زوبوك، وهو أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للاقتصاد، وأحدث مؤلفاته كان كتاب "الانهيار: سقوط الاتحاد السوفييتي".

يعتقد المراقبون والمؤرخون بأن الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي في عام 1991، جاء بفعل عوامل هيكلية طويلة الأمد، مثل الاقتصاد الموجه الذي أعلن إفلاسه، والأيديولوجية الشيوعية البائدة، وضغوط الحرب الباردة، وتمرد القوميين في المناطق الحدودية. وكما يوضح كتابي، فإن الانهيار كان سببه خيارات ميخائيل غورباتشوف، وقبل كل شيء الإصلاحات الاقتصادية سيئة التصميم بشكل ملحوظ، والتحرر السياسي السريع. لقد صنعوا عاصفة مثالية اجتاحت السفينة السوفييتية وقبطانها البائس.

تسببت إصلاحات غورباتشوف الاقتصادية في تدمير الروبل الروسي، وتركت المركز بلا تمويل، كما إن إصلاحاته السياسية والدستورية أثارت أعمال التمرد في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي. كانت "ريكسيت" (Rexit) أكثر الظواهر حسماً، فهي تعني انفصال الروس الذين وجدوا في بوريس يلتسين زعيماً لحالة السخط التي كانوا يشعرون بها. لقد تسبب الروس في انهيار "الإمبراطورية" التي اعتقد الكثيرون بأنها ملكهم، ودمروا الحكومة المركزية أيضاً. فقد لقي الاتحاد السوفياتي حتفه إثر انفجار مركز الوسط، وليس عن طريق ضغوط الأطراف الخارجية.

أهمية الاستقرار الاقتصادي

استخلص فلاديمير بوتين دروساً رئيسية من هذه القصة، وتعهد بالمحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي بأي ثمن، وجمع احتياطات مالية ضخمة كتدبير للسلامة. كما إنه لا يرغب في فتح خزائنه حتى في وقت الأوبئة. لقد خصص موارد ضخمة، استحصل عليها بمساعدة من أسعار النفط، لاستعادة سلطة الدولة والجيش والشرطة، واحتكار السلطة لاستخدام العنف.

مع ذلك، ثمة درس مستخلص يكافح بوتين من أجله. فقد كان الاتحاد السوفييتي كونفدرالياً وانقسم بشكل لا رجعة فيه عندما طالب جوهره، الاتحاد الروسي، باستقلاله وسيادته.

هل يمكن أن يحدث الأمر ذاته لهذا الاتحاد؟.. لقد أصبح الدستور الروسي الآن طريقاً أحادي الاتجاه، إذ لا يوجد مخرج لرعايا الاتحاد، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي تم ضمها، والشيشان المحتلة. ومع ذلك، لا تزال المخاطر قائمة.

كما تظهر قصة عام 1991، فإن المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار بالنسبة إلى الدولة ليس الأقليات القومية المتمردة فقط، بل أيضاً الأغلبية الروسية، خصوصاً عندما تتمرد على دولتها لأسباب اقتصادية أو لأسباب تاريخية أخرى.

آرشي براون، وهو أستاذ فخري في السياسة بجامعة أكسفورد، وقد حاز كتابه الأخير "العامل البشري: غورباتشوف وريغان وتاتشر ونهاية الحرب الباردة" على جائزة "بوشكين هاوس للكتاب" لعام 2021.

أنا لا أقبل كل الافتراضات الأساسية لهذا السؤال. لم يكن ضعف الدولة السوفييتية متعددة الجنسيات في ظروف التعددية السياسية أمراً مفاجئاً، بل إن المفاجأة الحقيقية كانت أن الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف (حتى الزعيم الذي اعتبرته منذ أوائل الثمانينيات مصلحاً) ذهب إلى حد تبنّي التعددية السياسية نظرياً وعملياً. وبعد ذلك، ألغيت كل الرهانات.

كان الخبراء الجادون بشأن الاتحاد السوفييتي يدركون جيداً أن هناك بعض الدول داخل الدولة السوفييتي متعددة الجنسيات -في الأساس، الإستونيون والليتوانيون واللاتفيون- لطالما رغبت في الاستقلال، لكن قبل أعوام البيريسترويكا، كان من الواضح أن الدعوة إلى النزعة الانفصالية لا تؤدي إلا إلى معتقل غولاغ أو حتى إلى الإعدام.

كان غورباتشوف يرغب في المحافظة على تماسك الاتحاد السوفييتي، لكن بشكل مختلف. فبعد الاستهانة في البداية بأهمية "المسألة القومية"، حاول غورباتشوف تحويل اتحاد رسمي إلى حد كبير إلى دولة فيدرالية حقيقية. ومع ذلك، فإنه بتحريره للنظام ثم الشروع في إضفاء الطابع الديمقراطي عليه، رفع سقف التوقعات، وجلب إلى سطح الحياة السياسية حالات الظلم والشكاوى التي قُمعت لعقود زمنية من الحكم الاستبدادي أو السلطوي

حرية التعبير

بحلول عام 1988-1989، تطورت حرية التعبير الجديدة إلى حرية كبيرة في النشر، وهو الأمر الذي أتاح للأقلية الوطنية التعبير عن تطلعاتها نحو مزيد من الاستقلال الذاتي. كما إن الانتخابات المتنازع عليها في مارس 1989 لانتخاب مجلس تشريعي جديد، مكنت الناخبين في جمهوريات البلطيق وجورجيا وأوكرانيا الغربية من انتخاب نواب يتبنون القضية الوطنية.

لكن السلطات الفيدرالية السوفييتية مازالت محتكرة وسائل القمع -قوات الاستخبارات السوفييتية والجيش ووزارة الداخلية- ولو كان غورباتشوف مستعداً مثل أسلافه لاستخدام القوة الساحقة الكامنة تحت تصرفه، لكان من الممكن وأد النزعة الانفصالية في مهدها.

واجه غورباتشوف ضغطاً كبيراً من جانب كبار مسؤولي الدولة الحزبية والمجمع الصناعي العسكري لتبني مثل هذه الإجراءات الصارمة. وباعتباره أكثر زعيم سلمي في تاريخ الاتحاد السوفييتي، حاول المحافظة على تماسك الاتحاد الذي تم إصلاحه عبر التفاوض والاتفاق.

ربما نجح غورباتشوف في الاحتفاظ بمعظم الجمهوريات السوفييتية (رغم غياب وسائل القمع واستثناء دول البلطيق) فيما أسماه "الاتحاد الفيدرالي المتجدد"، لو لم يطالب بوريس يلتسين بـ"استقلال" روسيا عن الاتحاد.

من المفارقات أن يحفز زعيم روسي تفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان روسيا الكبرى من جوانب كثيرة. لكن طموح يلتسين الهائل كان يدور حول تولي السلطة السياسية وأخذ مكان غورباتشوف في الكرملين.

الحقيقة أنه كان من المتوقع أن تؤدي تصرفات يلتسين إما إلى تفكك الاتحاد السوفييتي أو إلى قمع السلطات الفيدرالية للحركات المطالبة بالانقسام. وكان يمكن استبدال غورباتشوف، الذي قاوم استخدام وسائل القمع المتاحة تحت تصرفه، بأولئك الذين ليس لديهم مثل هذا الوازع.

انقلاب بعد فوات الأوان

لكن مجموعة من المتشددين أعلنوا الانقلاب بعد فوات الأوان، ووضعوا غورباتشوف تحت الإقامة الجبرية في أغسطس من عام 1991، وذلك بعد شهرين من انتخاب يلتسين رئيساً لروسيا الذي اكتسب شرعية شعبية مكنته من تحديهم. وكان مدبرو الانقلاب أنفسهم قد تأثروا بشكل كافٍ بتغير المناخ الذي أحدثته إصلاحات غورباتشوف -التي جاءت على النقيض من دنغ شياو بينغ في بكين عام 1989- ولم يكونوا مستعدين لقتل مئات الأشخاص من أجل استعادة النظام التقليدي.

كان الخبراء المراقبون على علم بالقوى المختلفة المتحركة في اتجاهات مختلفة في عام 1990-1991، وحقيقية إمكانية الانهيار السوفييتي، لكن تحديد القوى التي ستسود يتوقف على القرارات والتطورات المفاجئة التي يصعب التنبؤ بها حتى بالنسبة إلى الجهات السياسية الفاعلة الرئيسية.

لقد فوجئ كل من غورباتشوف ويلتسين بانقلاب أغسطس 1991 (الذي سرّع تفكك الاتحاد السوفييتي الذي قصد منه منع مثل هذه الخطوة)، بينما لم تتوقع قوات الانقلاب انهيار سيطرتها في غضون بضعة أيام. لذلك سيكون غريباً أن نتوقع أن يتنبأ أي شخص آخر بنتيجة الأحداث التي كان يمكن لها اتخاذ مسار مختلف تماماً.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

موسكو

4 دقائق

1°C
غيوم قاتمة
العظمى / الصغرى /
23 كم/س
75%
الآراء الأكثر قراءة