عندما كانت دفعة 2023 في الصين تتخرج من الجامعة إلى سوق عمل فظيعة، طلب الرئيس شي جين بينغ من الشباب في بلاده أن "يتحملوا مرارة العيش" وأن يواجهوا الصعاب التي تنتظرهم، كما فعل هو في ستينيات القرن الماضي. لكن لم يُستقبل عدم إظهاره للتعاطف مع الشباب استقبالاً جيداً، وسخر الناس علناً منه على وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد عام، غير شي لهجته ودعا إلى توفير "وظائف عالية الجودة". وتعد الحكومة الآن بتقديم بعض مزايا الضمان الاجتماعي لخريجي الجامعات الذين لم يلتحقوا بوظيفة بعد عامين من تخرجهم، إلى جانب مجموعة من التدابير التحفيزية الأخرى المصممة لكسر دوامة الانكماش التي تهدد الاقتصاد الصيني.
تدخل الأزمة العقارية في الصين عامها الرابع. ويشعر المسؤولون في الحكومة وشركات البيع بالتجزئة على حد سواء بالقلق من تردي نوعية الاستهلاك، وهو ما يحدث عندما يستبدل الناس السلع والخدمات مرتفعة التكلفة ببدائل رخيصة بسبب تدهور توقعات الأداء الاقتصادي. وهم على حق في ذلك، فخلال الأشهر الثمانية الأولى من 2024، ارتفعت مبيعات التجزئة بنسبة 3.4% فقط، وهو معدل يقل كثيراً عن هدف نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمي الذي يبلغ 5%.
غير أن المستهلكين قد لا يقتصرون على ضغط نفقاتهم مؤقتاً، بل ثمة علامات على تحول ثقافي أعمق في الطريقة التي يختار بها الشباب، على وجه الخصوص، بين الاستهلاك وأوقات الفراغ.
جيل الاسترخاء في الصين
على عكس آبائهم، نشأ جيل الاسترخاء ورفض العمل الشاق ولديه كثير من الأشياء. والآن لا يكتفي هؤلاء الشباب بالتذمر عبر الإنترنت وفي محلات الشاي بالحليب جراء تردي آفاق سوق العمل، بل يستبدلون النزعة الاستهلاكية بالاعتناء بأنفسهم وممارسة الأنشطة التي تثري أرواحهم، مثل التخييم والسفر وحضور الحفلات الموسيقية.
تغير هذه العملية التي تقوم على البحث عن الذات من كيفية تخصيص الأسر لمواردها، وممارسة الناس لأعمالهم وإنفاقهم لأموالهم. وهو ما يعقد جهود الحكومة للتعامل مع الانكماش الممتد في الأسعار والبطالة بين الشباب.
علم الاقتصاد المنزلي الحديث، وهو نظرية اقتصادية رائدها غاري بيكر، عالم الاقتصاد في جامعة شيكاغو، وعرضها في ورقته البحثية عام 1965 بعنوان "نظرية في تخصيص الوقت"، يمثل أداة مفيدة للتفكير فيما يحدث لسلوك المستهلك في الصين.
تستطيع العائلات الغنية دفع تكاليف الترفيه عن أبنائها مما يجعلهم غير مضطرين إلى العمل لدفع ثمن الترفيه. أما أولئك الذين يعيشون على حد الكفاف فليس أمامهم أي خيارات، بل يجب عليهم أن يعملوا قدر استطاعتهم.
وفقاً للبنك الدولي، أصبحت الصين حالياً في الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل. وتزخر بالكثير من الأسر التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة وتحتاج إلى الكسب من أجل الإنفاق ولكنها تستطيع تحمل المفاضلة بين كسب المال ووقت الفراغ.
شباب الصين يريدون أجوراً مرتفعة
ربما تدهورت سوق العقارات، لكن الودائع الادخارية للقطاع العائلي وصلت إلى 146 تريليون يوان (20.6 تريليون دولار) هذا العام، أي ما يقرب من ثلاثة أمثال مستواها في عام 2014. جاءت هذه الثروة الهائلة التي تنتشر على نطاق واسع بعد عقدين من النمو الاقتصادي السريع، إلى جانب الثقافة التي اشتهرت بالتدبير والتوفير.
إذا كانت الأجور المعروضة لفتاة عمرها 22 عاماً شديدة الانخفاض، فقد تختار الأسرة تأجيل انضمام ابنتها البالغة إلى قوة العمل، وتستطيع أن تعيش مع والديها وتستمتع بوقت الفراغ بدلاً من ذلك. (وعندما تكون الأجور منخفضة، تكون تكلفة قضاء وقت الفراغ قليلة أيضاً)، في الوقت نفسه، ستراقب الأسرة ككل نفقاتها بعناية وتنخرط في مزيد من "العمل والإنتاج المنزلي"، مثل الطبخ وممارسة الرياضة في البيت.
هذا ما نشهده حالياً في الصين، حيث أدت حملات التضييق الحكومية على قطاعات العقارات والخدمات المالية وشركات التكنولوجيا الكبيرة إلى تقليل فرص التوظيف لخريجي الكليات. وأصبح الشباب من أسر الطبقة المتوسطة لا يريدون العمل في خدمة توصيل الطعام بشركة "ميتوان" (Meituan) أو العودة إلى خط التجميع في المصانع، على الرغم من أن الأجور في هذه الوظائف المؤقتة الشاقة أفضل من معظم الوظائف المكتبية للموظفين المبتدئين. ويفضل آباؤهم، الذين ولد معظمهم في سبعينيات القرن الماضي، وربما كانوا أكبر المستفيدين من النهضة الاقتصادية للصين، أن يحصل أبناؤهم على وظيفة جيدة لا على أي وظيفة تتاح أمامهم.
ظاهرة "الأبناء المتفرغين"
ليس عيباً أن تعيش فترة أطول في المنزل – بل يصف الكثيرون أنفسهم بفخر بأنهم "أبناء متفرغون" في منازلهم، يطبخون وينظفون ويقضون وقتاً مع آبائهم وغالباً ما يحصلون على المال مقابل الأعمال المنزلية، بينما يأخذون ما يكفي من الوقت لتحديد ما يجب عمله بعد ذلك. وجزء كبير منهم يدرسون من أجل التعليم ما بعد الجامعي أو امتحانات الخدمة المدنية. وفي العام الماضي، تنافس أكثر من 3 ملايين مرشح على 39600 وظيفة شاغرة في الخدمة المدنية فقط.
قد يصل عدد الأبناء المتفرغين في منازلهم لعشرات الملايين. فوفقاً لدراسة أجرتها جامعة بكين العام الماضي، كان لدى الصين حوالي 96 مليوناً من سكان المدن الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً. وكان حوالي نصفهم ملتحقين بالمدارس، و33 مليوناً آخرين إما يعملون أو يبحثون عن وظائف، ولم تذكر الدراسة شيئاً عن 16 مليوناً، أو حوالي 17% من هؤلاء.
يؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في وقت الفراغ المتاح للعديد من الشباب المعتادين على العمل لساعات طويلة في المدرسة والجامعة، وربما إلى بعض التوتر أيضاً، نظراً للتوقعات المستقبلية لهم. ويُعد الاعتناء بالذات على رأس اهتماماتهم.
طفرة في الخدمات الترفيهية
لتلبية مطالب هذا الجمهور، انتشرت العلامات التجارية للشاي بالحليب في جميع أنحاء الصين، مما جعل مؤسسيها من أصحاب الملايين. ومقابل بضعة دولارات، يستطيع الشاب من الجيل زد قضاء اليوم كله مع الأصدقاء، وقد أصبح الشباب من محبي الحفلات الموسيقية والتخييم والسفر منخفض التكاليف.
في سبتمبر، قدم مغني الراب الأميركي يي، الذي كان يعرف باسم كاني ويست، عرضاً في جزيرة هاينان الجنوبية أمام 42000 من المعجبين، الذين سافر معظمهم من مناطق أخرى من البلاد لحضور الحفل. وبيعت جميع التذاكر بسرعة كبيرة لدرجة أن مكتب السياحة المحلي أضاف عرضاً ثانياً، واصفاً ذلك بأنه "ازدهار سحر الموسيقى مرة أخرى".
أصبحت المناطق النائية مؤخراً نقاط جذب للمسافرين الشباب. ويندهش المؤثرون من كرم الضيافة عند السكان المحليين وانخفاض تكاليف المعيشة – إذ قد تتكلف وجبة مشبعة 20 يواناً فقط، بينما تتكلف الإقامة لليلة واحدة حوالي 170 يواناً.
ليس الأطفال المهنيون وحدهم من يركزون على الاعتناء بذواتهم. فقد تباطأ نمو الأجور في المدن بشكل حاد منذ عام 2022. فشباب المهنيين، الذين يحصلون في المتوسط على 1460 دولاراً شهرياً عند الالتحاق بوظيفتهم الأولى وفقاً لمنصة التوظيف "تشاوبين" (Zhaopin)، يغيرون أيضاً أولوياتهم من الإقبال على شراء السلع إلى الإنفاق على التجارب الممتعة – ويفعلون ذلك بحكمة لتحقيق الاستغلال الأمثل لأموالهم ووقتهم.
ممارسة الرياضة واليوغا
في عام 2017، عندما قام صندوق للملكية الخاصة بشراء شركة "بيور غروب" (Pure Group)، السلسلة الفاخرة المتخصصة في اليوغا واللياقة البدنية ومقرها هونغ كونغ، بتقييم يزيد عن 400 مليون دولار، أراد الملاك الجدد الاستفادة من العلامة التجارية المرموقة للصالة الرياضية للتوسع في البر الرئيسي، مراهنين على أن الأبناء المتفرغين المتعلمين قد يقدرون أبسطة اليوغا الغالية والشامبو عالي الجودة. وكجزء من تلك الخطة الكبيرة، افتتحت شركة "بيور غروب" فروعاً في أفخم مراكز التسوق في شنغهاي وبكين.
بعد سبع سنوات، أصبح الصينيون يمارسون الرياضة أكثر من ذي قبل. لكن طموح شركة "بيور" انهار، وبدأت في تقليص حجمها، وأغلقت فرعاً في شنغهاي في يوليو الماضي. وحلت محلها سلاسل لياقة بدنية بسيطة تعمل مثل متاجر البقالة، التي تجذب من يطلقون على أنفسهم "الأشباح الفقيرة"، أو أولئك الذين لا يحصلون على دخل كبير يستطيعون إنفاقه كما يرغبون.
خدمات منخفضة التكاليف
دخلت شركة "ريزاب غروب" (Rizap Group) اليابانية، على سبيل المثال، إلى السوق الصينية، ولم تقتصر علامتها التجارية "تشوكوزاب" (ChocoZAP) على تقديم خدمة آلات التدريب التي تعمل دون تدخل بشري على مدار 24 ساعة، بل إنها تقدم أيضاً خدمات العناية الذاتية، مثل الغسيل وتلوين الأظافر وحتى خدمات ترفيهية مثل الكاراوكي. كل هذا متاح بدون عقد بتكلفة تبلغ 140 يواناً (حوالي 20 دولاراً) شهرياً، وهو ما يُعد جزءاً بسيطاً مما يدفعه الأعضاء في شركة "بيور غروب".
يشير ذلك إلى تغير كبير في القوة بين شركات التجزئة وعملائها. فعلى مدى سنوات، كان العملاء يضطرون إلى توقيع عقود عضوية مدفوعة مسبقاً تبلغ آلاف الدولارات وتعرضهم لمخاطر الائتمان. وقد وقع أحد الأعضاء في نادي "فيزيكال" (Physical)، وهو أحد مراكز اللياقة البدنية يصل عمره إلى 38 عاماً وتأسس في هونغ كونغ، عقداً مع صالة الألعاب الرياضية يمتد حتى عام 2050. هذه العقود تذكرنا بنموذج البيع باهظ الكلفة في سوق العقارات في البلاد.
حتى وقت قريب، كان مشترو المنازل الصينيون يشترون الشقق قبل 18 شهراً إلى عامين من الانتهاء من بنائها. وقد تعلم العملاء من الشباب أن الدفع حسب الاستهلاك أقل خطورة بكثير بعد سوء استخدام أموالهم على نطاق واسع، وانتشار المشاريع التي لم تكتمل وغادرتها شركات البناء المتعثرة في جميع أنحاء البلاد.
التسوق من منافذ البيع الرخيصة
لم يتخل جيل زد عن التسوق تماماً. إنهم يفضلون التجول في الطوابق السفلية من مراكز التسوق الفاخرة، حيث يمكن العثور على متاجر تبيع منتجات منخفضة التكلفة.
يكتب مدونون شباب أن زيارة متاجر مثل شركة "مينيسو غروب هولدينغ" (Miniso Group Holding) المتخصصة في تجارة التجزئة وتبيع سلعاً منزلية رخيصة ولكنها عصرية، عملية مريحة ولا ترهق ميزانياتهم.
إن الصينيين عمليون. وحتى عندما كانت أحوال الاقتصاد جيدة، كان كثير منهم يتسوقون لشراء المنتجات الفاخرة من أوروبا، حيث كانت أرخص ثمناً.
لكن الشباب الذين يدركون معنى القيمة يعيدون الآن توجيه تفكيرهم حول الرفاهية بشكل عام. وعندما يفكرون في شراء سلعة ما، يسألون ما إذا كانت تلك السلعة ذات العلامة التجارية فاخرة حقاً أم أن ذلك مجرد تعبئة غير عادية لسلعة عادية، ويدرسون العلامات التجارية التي تقدم خصماً على أسعارها، مثل عمليات البيع الخاصة بدون وسطاء أو منافذ البيع المباشر للتخلص من المخزون الزائد. وهم يبدأون في التصرف مثل جامعي التحف الفنية، حيث يبحثون عن قيمة إعادة بيع السلعة قبل شرائها.
تتجه شركة "كيرينغ" (Kering)، مالكة العلامة "غوتشي" (Gucci)، إلى أسوأ عام لها منذ 2008 بسبب انخفاض الطلب في الصين. ويشعر القطاع بأكمله بالأزمة، لكن شركات السلع الفاخرة التي ترتفع أسعار إعادة بيع منتجاتها تحقق أرباحاً أكثر متانة، مثل شركتي "هيرميس إنترناشونال" (Hermès International) و"لوي فيتون" (LVMH)، وفقاً لشركة الأبحاث "برنشتاين ريسيرش" (Bernstein Research).
القيمة مقابل المال
يتيح اتجاه القيمة مقابل المال مجالاً للعلامات التجارية المحلية حتى تزدهر، مثل شركة "إربان ريفيفو" (Urban Revivo) ومقرها قوانغتشو. فهذه الشركة تقدم نفسها كشركة لسلع "الرفاهية السريعة" –على عكس منتجات الأزياء الرخيصة المواكبة للعصر التي تنتجها شركة "زارا" (Zara) أو "شي إن" (Shein)– وتحقق نجاحاً ملحوظاً في الصين، وتعزز توسعها في العالم وتدرس إدراج أسهمها في بورصة هونغ كونغ.
على شياوهونغشو، وهي منصة للتواصل الاجتماعي تجمع بين "إنستغرام" و"بينترست" ويشيع استخدامها بين الشابات الميسورات، يعلم المدونون المستخدمين في مقاطع الفيديو كيفية ارتداء الملابس مثل اليابانيين، الذين يجيدون منذ عقود الظهور بمظهر أنيق دون ارتداء ملابس من تصميم مصممين عالميين من الرأس إلى أخمص القدمين. تدور الدروس حول عملية المزج ومواءمة قطع الملابس مع بعضها، والعناية الجيدة بالبشرة مع الاهتمام بالتفاصيل.
المقارنة بين السلع عند التسوق، ودراسة عروض البيع، والجمع بعناية بين أناقة الملابس والأسعار المعقولة – كل هذه طرق لاستثمار الوقت من أجل توفير المال. ويبدو أن الشباب الصينيين على وسائل التواصل الاجتماعي يستمتعون بهذه الأنشطة. كما أصبحت المنافسة على تصيد الصفقات وألغازها هواية، لا مجرد ضرورة في أوقات اقتصادية عصيبة، بل طريقة ممتعة لقضاء الوقت.
البطالة تنتشر بين شباب الصين
مرت حوالي ثلاث سنوات منذ بداية أزمة البطالة بين الشباب في الصين. حتى أكثر الآباء صبراً قد يتعبون من العيش مع أبنائهم العاملين بالمنزل، أو على الأقل يقلقون من أن فرصهم تتضاءل مع كل سنة من البطالة. ربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت شي يتراجع أخيراً في أواخر سبتمبر ويقبل فكرة أن إنعاش الاقتصاد لن يحدث إلا بخطة تحفيز جريئة وكبيرة.
في عام 2008، عندما واجه العمال المهاجرون الصينيون أزمة في التوظيف، حلتها الحكومة بسرعة بإنفاق 4 تريليونات يوان فجأة من الميزانية العامة؛ حيث دفعت أجور الكثير من العاملين في قطاع البناء.
أما المأزق الذي يواجهه الجيل الحالي من خريجي الجامعات فليس من السهل تجاوزه. فالتحفيز المالي يستطيع تعويض الانخفاض البسيط في الاستهلاك. لكن عادات الإنفاق لدى جيل زد واستعدادهم للتخلي عن العمل قد يكون إشارة مبكرة على حدوث تحول جوهري في القيمة المتصورة عن الوقت مقابل المال. وإذا اتضح أن ذلك تغيير على مستوى الجيل في القيم الثقافية، فإن حزمة شي للتحفيز المالي ربما لن تكفي لذلك مهما بلغ حجمها.