يشكّل الازدحام أحد أبرز عوامل الخطر التي تسهم في تفشي فيروس كورونا، سواء في المنزل أو مكان العمل أو في أي مكان آخر. ولا يقتصر ذلك على هذا الفيروس، فأي مرض مُعدٍ يتفشى بشكل أسرع وسط الحشود. إذاً كيف تحافظ الحشرات مثل النمل والنحل والنمل الأبيض على صحتها، على الرغم من أنها تتزاحم ويتسلق بعضها على بعض، وتعيش في مستعمرات بالغة الاكتظاظ؟ ماذا يمكننا أن نتعلم من هذه الحشرات حتى نحمي أنفسنا بشكل أفضل؟
تجيب روث ديفرايس عن هذه التساؤلات في كتابها "ماذا كانت لتفعل الطبيعة: دليل إرشادي لأيامنا المضطربة"، الصادر في ديسمبر الماضي، إذ تجد أستاذة علم البيئة والتنمية المستدامة في جامعة كولومبيا حلولاً في الطبيعة يمكن تطبيقها للتعامل مع التحديات التي يواجهها البشر في عالمهم المادي، بدءاً من انهيار أسواق الأسهم، حتى شُحّ المياه، ومشكلات كانقطاع الإنترنت الذي حدث في الساحل الشرقي للولايات المتحدة في 26 يناير من العام الحالي.
دفاعات متنوعة يمكن للإنسان تطبيقها
ولا يقتصر اعتماد النحل والنمل والنمل الأبيض على حيلة واحدة من أجل الحفاظ على سلامة أوكاره وأعشاشه. ولولا هذه الحيل المتعددة لكانت مسببات الأمراض بين هذه الحشرات استطاعت تطوير نفسها بطريقة تمكّنها من التغلب على أسلوب الدفاع في حال كان واحداً.
وفي الواقع، تستخدم هذه الحشرات دفاعات متنوعة ومتعددة، بعضها يمكن للإنسان أن يتبناه، فيما سبق وتبنى الإنسان البعض الآخر منها بالفعل. فعلى سبيل المثال، النملة التي تكون على شفير الموت، تفصل نفسها عن الآخرين، كما أن النملة التي تموت تُسحَب بعيداً عن المجموعة. كذلك، يُزيل النمل الذي يتمتع بصحة جيدة الجراثيم والعثّ عن النمل المريض الذي يشاركه المستعمرة (هذه الطريقة ليست فعالة 100%، ولمعرفة مزيد عنها يمكنك القراءة عن حشرة الفاروا المدمرة".
التباعد الاجتماعي عند الحشرات
وتقول ديفرايس في كتابها: "يفرز نمل الحدائق مادة مطهرة وينشرها في أعشاشه"، أمّا النمل الأبيض "فينشر برازه في أعشاشه من أجل الاستفادة من خصائصه المضادة للبكتيريا" (ربما من الأفضل أن لا نقلّده في ذلك).
كذلك فإن الاختلاط العشوائي بين هذه الحشرات الاجتماعية في الواقع أقلّ ممّا نتخيل، فالأفراد الأكثر عرضة للخطر، أي الحشرات التي تذهب للبحث عن الطعام أو تحرس المستعمرة من الحيوانات المفترسة، تعيش على الأطراف. وتلك التي تحمل الفضلات تعيش معاً بعيداً عن الآخرين.
وتقول ديفرايس إنه في حال تمكُّن أحد مسببات الأمراض من تجاوز هذه الدفاعات، فإن الحشرات التي اكتسبت مناعة من خلال تعرُّضها لكمية قليلة من مسبّب المرض خلال اعتنائها بالحشرات المريضة، تشكّل جدار حماية حول الملكة.
لقد تمكنت الطبيعة من تطوير حلول للتساؤلات المتعلقة بهندسة الشبكات الاجتماعية التي لم يتوصل البشر إلى معالجتها بعد، ففي حال انتشر المرض بشكل محدود، فإن الطريقة الأنسب لمعالجته تكون من خلال عزل المصابين. وفي حال حدوث تفشٍّ بشكل واسع، تُعزَل الحشرات الأصحاء العُرضة للإصابة. وعند البشر، تُمنَح الأولية في اللقاح لعمّال قطاع الرعاية الصحية وموظفي دور رعاية المسنين، وهو ما يهدف في الأساس إلى بناء جدار حماية حول المرضى. وذلك على عكس ما تفعله الحشرات، وتقول ديفرايس إن البشر لا يزالوا يتعلمون كيفية التعامل مع الأمراض المعدية.
وحسب ديفرايس، تتوزع الدروس المكتسبة من الطبيعة إلى أربع فئات: خصائص التصحيح الذاتي، والتنوع، والدفاع ضد الفشل المتتالي في الشبكات، والمعرفة التصاعدية. وتقول ديفرايس إن الفضل في تحديد الفئة الأخيرة يعود إلى عالمة السياسة الأمريكية إلينور أوستروم، التي أصبحت في عام 2009 أول سيدة تفوز بجائزة نوبل للاقتصاد. وأشارت ديفرايس إلى التعارض بين مقاربة أوستروم، ونظريات الباحث البيئي غاريت هاردين الذي كان حذّر في الماضي من فرط الكثافة السكانية.
وكان هاردين شديد القلق من أن ما وصفه بـ"مأساة العامة" سيؤدي إلى استنزاف الموارد، لدرجة أنه اقترح اعتماد وسائل بالغة الصرامة للحدّ من النسل تصل إلى التعقيم القسري للأهل بعد إنجاب ولد واحد. وتقول ديفرايس في كتابها إن أوستروم انتفضت ضد هذه الأفكار، واكتشفت من خلال أسفارها حول العالم أن عديداً من المجتمعات توصل إلى طرق تحُول دون استنزاف الموارد دون قوانين تفرضها عليها الحكومات المركزية، ومثال ذلك الآبار الإرتوازية في كاليفورنيا، والغابات في النيبال.
وتشرح ديفرايس أن الأفكار بالنسبة إلى البشر تؤدي الدور نفسه الذي تلعبه الجينات لدى الكائنات الأقلّ ذكاء. فإذا كان النحل قادراً على العمل بسلاسة ضمن جماعات، دون تعليمات من الملكة، لأنه مبرمج جينيّاً على ذلك، فلا بد أن يكون البشر قادرين على العمل معاً بسلاسة أيضاً دون تعليمات من الحكومة، وذلك لأن البشر يملكون الأفكار.
صحيح أن التعاون غير المركزي لن يحقق النجاح دائماً (وهو ما اعترفت به أوستروم نفسها)، ولكن لا بأس أن نطمح إليه.