تقول اليابان إنها الفرصة الأخيرة لتغيير مسار معدل مواليدها المتراجع. وتقترب الدولة الآسيوية، التي تعد نموذجاً لمجتمع الشيخوخة، من لحظة "كل ما يتطلبه الأمر" في الإنفاق لزيادة عدد الأطفال الذين يولدون كل عام.
رئيس الوزراء فوميو كيشيدا يعِد بخطوات واعدة ستكون ذات "بعد مختلف" عن تلك التي اتُخذت من قبل، حيث تعهد بمضاعفة الأموال المخصصة لبرامج دعم الأطفال لتصل إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أن خطوات مثل زيادة مخصصات الأسر تعتبر محل ترحيب، فإن السؤال هو: هل ستؤدي زيادة الإنفاق في إحراز تقدم ملحوظ في حل أزمة الخصوبة؟
من السهل أن تكون قدرياً بشأن الآفاق والمستقبل، لكن إذا كان مقدراً لليابان أن تصبح مجتمعاً أكبر سناً وأقل عدداً، فلن تكون بمفردها في ذلك. حاكمة طوكيو يوريكو كويكي أعلنت الأسبوع الماضي أن انخفاض عدد السكان يمثل "تحدياً وطنياً". وبينما كانت تعني أن الأمر لا يتعلق بالعاصمة فحسب، فإن لغتها بعيدة كل البعد عن الواقع- فالأمر بمثابة تحدٍ دولي، كما أن صدى اليأس المتزايد في لهجة الخطاب الصادر عن ساسة طوكيو في هذا الصدد سيتردد قريباً في بلدان أخرى، إن لم يكن يتردد بالفعل.
حاجة لنظرة أكثر واقعية
عمد المسؤولون اليابانيون على مدى عقود إلى استخدام حجج سطحية في تبريرهم لعدد الأطفال المتناقص، من العمل الزائد في المكتب إلى الصور النمطية للنوع الاجتماعي التي عفا عليها الزمن. يتجلى هذا الاتجاه بشكل أفضل في الفيلم الوثائقي الصادر عام 2013 "لا جنس من فضلك، نحن يابانيون" (No Sex Please, We’re Japanese)، والذي يفترض أن العلاقات غير السوية في غرف النوم هي السبب الرئيسي لانخفاض عدد السكان. وبعد مرور عقدٍ من الزمان، نجد فجأةً أن الشيء نفسه يحدث في غرف النوم الغربية أيضاً.
اليابان تقدم مليون ين لكل طفل مقابل انتقال الأسرة من طوكيو
لذا يتعين على صناع السياسات إلقاء نظرة أكثر واقعية على هذه القضية. وسيكافح المسؤولون في طوكيو، مثل أي مكان آخر، للتغلب على اتجاهين كلاهما صعب. الأول هو أن متوسط العمر الذي تتزوج فيه المرأة ارتفع من 25 في 1987 إلى 29 في 2021، مما أدى إلى تأخر ولادة الطفل الأول وتقليص سنوات الإنجاب. وفي حين بمكن أن يتعزز هذا الاتجاه من خلال الإنفاق على أطفال الأنابيب وتسهيل إنجاب الأطفال خارج نطاق الزواج، لا يُرجّح أن يسهم ذلك في تغيير الأمر.
أما الاتجاه الثاني فهو أن المتزوجين يقولون على نحو متزايد إنهم يريدون عدداً أقل من الأطفال. ففي دراسة استقصائية أجريت في 2021، قالوا إنهم يخططون لإنجاب 2.01 طفل في المتوسط، وهو أقل بقليل من متوسط 2.25 المثالي. وكلا الرقمين آخذ في الانخفاض منذ سنوات، وكذلك الفجوة بينهما. وفي 1977، قال الأزواج إنهم يريدون متوسط 2.61 طفل وخططوا لـ 2.17.
منافسة لا ترحم
إذا كان معظم الأزواج يخططون لإنجاب طفلين فقط، فمن السهل أن نرى كيف ينخفض المعدل القومي سريعاً عند إضافة هؤلاء إلى أولئك الذين لا يريدون أطفالاً من الأساس، أو لا يستطيعون الإنجاب، أو من ينتهي بهم الأمر لأسباب أخرى من دون إنجاب.
وأدت أساليب الحياة الحديثة والمنافسة الشديدة على المدارس والوظائف والنجاح في عالم يتسم بتنافس لا يرحم إلى جعل تكوين أسرة عملاً شاقاً ويحتاج لبذل جهد أكثر من أي وقت مضى. وبناء عليه، يزداد حافز الآباء وحرصهم على تكريس المزيد من جهودهم لضمان حصول الجيل التالي على كل فرصة للنجاح، عبر الذهاب بأبنائهم إلى حصص البيانو أو الدروس التكميلية أو دروس الجمباز. ويشير الأكاديميون إلى هذا الأمر على أنه "المقايضة الكمية والنوعية"، إذ يُفضل الآباء استثمار المزيد من المال والوقت في عدد أقل من الأطفال.
استطلاع: اليابانيون يعيشون أسوأ حالاتهم منذ عام 2010 بسبب التضخم
لا يمكن اعتبار الأمر وكأنه مجرد مسألة أموال. فقد أظهرت دراسة استقصائية أجراها مكتب مجلس الوزراء في 2014 أنه في كل فئة تقريباً من فئات التعليم أو العمل أو الثروة، فضلت الغالبية إنجاب طفلين. وكان الاستثناء الوحيد تقريباً هم الأزواج الذين يعيشون مع والدي الزوج (وهو ترتيب غير مألوف، على الرغم من تناقصه)، الذين أرادوا ثلاثةً. وإثباتاً للعلاقة العكسية بين الثروة والإنجاب، كان أصحاب فئة الدخل الأقل هم الأكثر احتمالاً لإنجاب ثلاثة أطفال.
ظاهرة عالمية
يستطيع "كيشيدا" توفير المال، لكنه لا يستطيع إيجاد الوقت. وفي حين أن الوصول إلى سبيل لرعاية الأطفال يعد مصدر ارتياح للآباء المرهقين، فإن الاستعانة بمصادر خارجية ليس الحل أيضاً فيما يبدو. ففي سنغافورة، تستعين أسرة من كل ستٍ بعاملة منزلية، ومع ذلك فإن معدل الخصوبة فيها يقتفي أثر نظيره في اليابان. ومثلما يفيد تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، فإن معدل الخصوبة المنخفض في سنغافورة رغم إمكانية توفير رعاية للأطفال "يشير إلى أن ما يتيحه القطاع الرسمي من مزايا لا يمكن أن يكون بديلاً عن قضاء الوالدين وقتاً ممتعاً مع الأطفال".
فهل تجد المشكلة طريقها للحل إذا تمت معالجة عدم التوازن بين الجنسين؟ تعتبر تايوان المجاورة نفسها المجتمع الأكثر مساواة بين الجنسين في آسيا، لكنها أيضاً تأتي بعد اليابان. وهل يمكن حل المشكلة بتحسن الاقتصاد، وكان لدى الأسر المزيد لتنفقه؟ لقد تجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كوريا الجنوبية بالفعل جارتها، لكنها حالياً صاحبة أدنى معدل خصوبة في العالم بواقع 0.81 طفل.
عدد سكان الصين يتراجع للمرة الأولى منذ 6 عقود
الأمر لا يتعلق باليابان فحسب، وإنما هو ظاهرة عالمية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثروة والفرص المتزايدة للمرأة. ففي الولايات المتحدة، يقل معدل الوفيات كثيراً عن المواليد بالفعل مما يؤدي لتراجع عدد السكان، وهو الحال نفسه في جميع دول الاتحاد الأوروبي، حتى تلك التي تؤيد الهجرة بشدة. وقد رأينا كيف تمكنت أنظمة استبدادية مثل الصين من تقليص معدل المواليد من خلال السياسات، لكن في دولة ديمقراطية، هل يمكن لتحركات الحكومة أن تغير ذلك الاتجاه؟
المجر تغرد خارج السرب
يشير البعض إلى مثال المجر، التي تنفق بالفعل 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي على تدابير دعم الأسرة، وهو أكثر مما تخطط له طوكيو. ولم تعتد المجر على زيادة معدل الخصوبة الذي شهدته على مدار العقد الماضي، لكن لم يتضح بعد إلى أي مدى يرجع ذلك إلى السياسات. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن البرلمان الأوروبي لم يعد يعتبر المجر ديمقراطية كاملة، بينما تتخذ الدولة كذلك خطوات رجعية، مثل تشديد قواعد الإجهاض، والتي كان من شأنها أن تزيد أعداده.
لا يمكن لليابان، والبلدان التي كُتب عليها أن تمضي في المسار نفسه، أن تأمل فقط في أن تقع على حل شامل من خلال السياسات الحكومية، وهو أمر غير مرجح، يعيد الخصوبة إلى مستويات طفرة المواليد. وإنما يجب أن يركز الإنفاق على إعداد المجتمع لتغييرات باتت حتمية الآن، سواء كان ذلك في الهجرة لتخفيف التراجع في القوى العاملة، أو تركيز السياسات على مساعدة العائلات التي ترغب في إنجاب أكبر عدد تريده من الأطفال. يجب ألا يكون الاختيار بين الإنجاب والقدرية.