يتيح تطبيق "خرائط غوغل عدة طرق، بإمكانك اتباعها لتصل إلى وجهتك، إلّا أنني أميل في العادة إلى اتباع الخيار الذي يرجحه لي التطبيق، دون التفكير كثيرًا في الخيارات الأخرى. لكن السؤال هنا: هل ينطبق الأمر ذاته على خرائط الطرق المتعلقة بالمناخ والطاقة؟ والجواب هو نعم، كما أشار خطاب وُجه مؤخرًا إلى "فاتح بيرول" (Fatih Birol)، المدير التنفيذي لـ"الوكالة الدولية للطاقة" (IAE)، وقّعه نحو 60 شخصًا، يمثلون مجموعة من صناديق الاستثمار والمؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث.
ولعل ما ركز عليه هذا الخطاب هو تقرير "آفاق الطاقة في العالم" (World Energy Outlook)، واختصاره "دبليو إي أو" (WEO)، الذي تصدره "الوكالة الدولية للطاقة" سنويًا، ويضم توقعات تبين بالتفصيل كيفية توفير الطاقة للمجتمعات خلال العقود القادمة. ويثني الخطاب على هذا التقرير، باعتباره "منارة دائمة" للتوعية وتشكيل القرارات في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى أنه يقترح إجراء بعض التغييرات عليه.
يتمحور تقرير "آفاق الطاقة في العالم"، حول 3 سيناريوهات، هي: "السياسات الجديدة" و"السياسات الحالية" و"التنمية المستدامة"، ويمثل السيناريو الأول القضية الأساسية على أرض الواقع، أما الثاني فيمثل ما سيحدث عند زيادة مستوى الانبعاثات فعليًا، أما بالنسبة للسيناريو الثالث فيستعرض وضع الكوكب مع انخفاض مقدار ارتفاع درجة حرارة الأرض عن 2 درجة مئوية (3.8 فهرنهايت) بشكل كبير، بما يتماشى مع أهداف اتفاق باريس للمناخ لعام 2015.
نشرت "اللجنة الدولية للتغيرات المناخية" (Intergovernmental Panel on Climate Change) التابعة لـ"الأمم المتحدة" (United Nations)، في شهر أكتوبر 2018، تقريرًا يحذر من أن ارتفاع درجة حرارة الأرض- عن مستوياتها في فترة ما قبل الثورة الصناعية- قد تنجم عنه عواقب كارثية، حتى لو كان الارتفاع بمقدار درجتين فقط.
الطاقة وتغير المناخ
وأظهر تحليل اللجنة أن الحد من هذا الارتفاع بما لا يتجاوز 1.5 درجة من شأنه أن يشكّل فارقًا كبيرًا، إذ سيساعد- على سبيل المثال- في إنقاذ آلاف الكائنات الحية من النباتات والحيوانات من الانقراض. ومن الجدير بالذكر أن درجة حرارة الأرض قد ارتفعت- إلى الآن- بمقدار درجة واحدة، وأصبحت الدعوات للتحرك لمواجهة التغير في المناخ أكثر إلحاحًا.
يُعدّ الخطاب الذي تمّ إرساله إلى المدير التنفيذي لـ"الوكالة الدولية للطاقة" جزءًا من هذه الدعوات، إذ يحث موجهوه الوكالة على جعل سيناريو "التنمية المستدامة" القضية الأساسية للتقرير، من خلال إحكام صياغته وطرحه بطريقة شفافة وواضحة تمامًا.
وينطوي السيناريو الحالي على احتمالٍ كبير للحد من الزيادة في درجة الحرارة إلى ما يتراوح بين 1.7 و1.8 درجة بحلول نهاية هذا القرن، ويعتمد هذا الاحتمال- إلى حد ما- على افتراض زيادة احتجاز الكربون بمقدار عدة قيم أُسية خاصة بعد عام 2040.
في الحقيقة، يريد موجهو الخطاب من "الوكالة الدولية للطاقة" تحديث هذا السيناريو، بحيث يستهدف زيادة لا تتجاوز 1.5 درجة في درجة حرارة الكوكب، مع الحذر أكثر بشأن الافتراض المتعلّق بزيادة احتجاز الكربون، كما أنهم يريدون أيضًا أن تقوم الوكالة بالتحذير- بشكل وصريح وواضح- من سيناريو "السياسات الجديدة" الذي يتضمن ارتفاع درجة الحرارة إلى ما يتراوح بين 2.7 و3 درجات.
قد يبدو الجدل حول زيادة حرارة الكوكب بمقدار أعشار درجة مئوية في العام 2040 غير مفهوم بالنسبة لك، لكن عندما يكون التقرير- الذي سبب هذا الجدل- قد صدر عن "الوكالة الدولية للطاقة"؛ فمن المهم أن نعلم أن التوقعات التي يشملها التقرير مهمة للغاية، وتلعب دورًا كبيرًا في المستقبل، أي أنها ليست مجرد افتراضات يمكننا تجاهلها.
خريطة طريق
وبالطبع لا يمكننا لوم "الوكالة الدولية للطاقة" على كيفية استخدام (أو إساءة استخدام) بعض الأشخاص سيناريوهات التقرير، كما هو الحال بالنسبة لما صرح به الرئيس "ترامب" (Trump) بشأن تسبب صوت طواحين الهواء في الإصابة بمرض السرطان، الذي يؤكّد عدم اطلاعه على النماذج الرياضية.
ومع ذلك، فإن تفاصيل تقرير "آفاق الطاقة في العالم" ومصادره تشير إلى أنه يُستخدم على نطاق واسع كخارطة طريق لمستقبل الطاقة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الأفراد والشركات المؤسسات يستعينون به لوضع خطة العمل الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال، إذا قلنا إن السيناريو يوجه على التحرك باتجاه معين فإن الاستثمارات ستتم في هذا الاتجاه، سواءً كانت في محطات الطاقة أو خطوط الأنابيب أو حقول النفط والغاز، لتصبح حقائق واقعة تمتد لعدة عقود.
توضح توقعات "الوكالة الدولية للطاقة" الفرق الكبير الذي يمكن أن يحدثه اختلاف بسيط في درجات الحرارة. ورسم تقرير "آفاق الطاقة في العالم" لعام 2016- الذي نُشر في العام التالي لتوقيع "اتفاق باريس" (Paris Agreement)- تحليلًا لارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة، لإلحاقه بالسيناريو المتعلق بخفض نسبة الكربون إلى نحو 450 جزءًا في المليون.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام أصبحت قديمة نوعًا ما، إلا أن إلقاء نظرة سريعة على توقعات "الوكالة الدولية للطاقة" للطلب على النفط والغاز، في عام 2040، في إطار سيناريوهات مختلفة؛ يساعدنا أكثر على إدراك التأثير الكبير الذي يمكن تحقيقه إذا ما تم خفض درجات الحرارة، ولو بمقدار بسيط يعادل بضعة أعشار فحسب.
العالم في 2040
يشير سيناريو "التنمية المستدامة"- الذي ذُكر في التقرير الصادر عن "الوكالة الدولية للطاقة" - إلى تغييرات كبيرة في استهلاك النفط والغاز؛ لكن السيناريو السابق له الذي يتضمن ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة يتطلب تحولا شاملًا في استهلاك الطاقة.
توقعات صادمة للطلب على الغاز الطبيعي
وفي حين يتوقّع سيناريو "التنمية المستدامة" انخفاض الطلب العالمي على النفط إلى 63 مليون برميل يوميًا في عام 2040، وهو ما يقل بأكثر من الثلث عن مستوى الطلب الحالي، فإن سيناريو الـ1.5 درجة يتوقّع أن يقل الطلب عن 40 مليون برميل، وهو مستوى لم يُسجل منذ عام 1968. أما بالنسبة للطلب على الغاز الطبيعي، فوفقًا لسيناريو "التنمية المستدامة"، يُتوقع أن يتغير من ثبات مستواه تقريبًا في الوقت الحالي إلى انخفاضه بأكثر من الثلث، ليعود كما كان في عام 1999.
ومن بعض النواحي، تعتبر الأرقام المتعلقة بالطلب على الغاز صادمة أكثر، نظرًا لوجهة النظر السائدة بأن الغاز الطبيعي سيتفوق على أنواع الوقود الأخرى، وبأنه سيستخدم جنبًا إلى جنب مع الطاقة المتجددة. وسبق لـ"الوكالة الدولية للطاقة" أن ذكرت في تقريرها لعام 2011 سيناريو أطلقت عليه اسم "العصر الذهبي للغاز" (Golden Age of Gas)، فاستثمرت شركات النفط الكبرى مليارات الدولارات للتحوّل إلى إنتاج الغاز الطبيعي بشكل رئيسي بدلًا من النفط.
ويقول "بيرول": "إن التحدي الأكبر الذي أراه اليوم يكمن في الفصل بين ما يحدث في سوق الطاقة، والأهداف والمسارات التي حددتها الحكومات وغيرها من الجماعات". ويضيف كذلك: "التحدي الحالي بالنسبة لنا هو منع تحقق سيناريو (السياسات الجديدة)، الذي يتوقع ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 2.7 درجة، والحرص على ألا يزيد الارتفاع على 1.7 درجة، ومع أن ذلك يعد ارتفاعًا سيئًا أيضًا، إلا أننا بعيدون حتى عن تحقيقه وتجنب الأسوأ منه".
مصادر الطاقة
وفي الوقت نفسه، فإن هذا يؤكد الضرورة الملحة التي دفعت بتوجيه هذا الخطاب والمطالب المعقولة التي يشملها. وتشير الأرقام السابقة إلى أن تزايد درجات الحرارة سيؤدي إلى عواقب وخيمة، وأن السبيل نحو مستقبل أفضل يكمن في التحول في مجال الإمداد بالطاقة واستهلاكها.
ومع ذلك، يُقال إن شركة النفط العربية السعودية "أرامكو" تشهد طلبًا كبيرًا على سنداتها، بما في ذلك تلك السندات المستحقة في 2049، بأسعار فائدة أقل بكثير من 5%، وبالمثل، أشار "بيرول" إلى الاستثمارات الضخمة في المحطات الجديدة لتوليد الطاقة، التي تعمل بالفحم في آسيا، ويعتقد أن المستقبل لن يكون مختلفًا عن الحاضر، إلا من حيث ارتفاع مستويات البحر في الكوكب بفعل الاحتباس الحراري.
سيكون من المنطقي على الأقل أن تُعاد صياغة سيناريو "السياسات الجديدة"، بحيث يتم التركيز على المخاطر التي تنطوي عليه، وفي الوقت نفسه، فإن تخصيص جزء موسع ودائم في التقارير السنوية لطرح سيناريو "1.5 درجة" (الذي يعتبر نسخة موسعة من التحليل الذي نشر عام 2016) يوضح الإجراءات اللازمة للتخفيف من أسوأ هذه المخاطر.
والأفضل من ذلك، هو أن يتم نشر نسخة مفتوحة من نموذج "الوكالة الدولية للطاقة"، لمساعدة المستثمرين ومجموعات وضع السياسات وغيرهم على إنشاء السيناريوهات الخاصة بهم، فيما يتعلق بتأثير عدد من العوامل مثل تكلفة الأنواع المختلفة للطاقة، وتسعير الكربون، واحتمال انتشار تكنولوجيات الطاقة المتجددة، واحتجاز الكربون، هذا بالإضافة إلى التغذية الراجعة الإيجابية (زيادة نسبة الاحتباس الحراري عن حدٍّ معيَّن، ما يؤدي إلى ظواهر تؤدي إلى زيادة أثره) الذي يعد العامل الأصعب، لأن تغير المناخ يؤثر على النمو الاقتصادي ومدخلات الاقتصاد الكلي الأخرى.
هذا الخطاب يشير بشكل واضح إلى القلق المتزايد بشأن مشكلة تغير المناخ، وتأثيره على المجتمعات مستقبلًا، ودور الاستثمارات التي نقوم بها في الوقت الحاضر ومصيرها كذلك، وحتى قبل إجراء أي تغييرات على تقرير "آفاق الطاقة في العالم"، الصادر عن "الوكالة الدولية للطاقة"، يجب على المسؤولين في قطاع الطاقة إدراك هذه النقطة جيدًا وعدم تجاهلها.