حتى العام الماضي، كان "وارن بافيت" مساهماً مخلصاً في البنوك الأمريكية الكبرى، لكنَّه تحوَّل إلى صف منافسيها، فهل هذا يعني نهاية إيمانه بالقطاع المالي التقليدي؟
ضخَّت "بيركشاير هاثاواي"، في الأيام الماضية، 500 مليون دولار في "نيوبنك" البرازيلية - وهو أكبر استثمار فردي في شركة تكنولوجيا مالية - مما أعطاها تقييماً وصل إلى 30 مليار دولار.
وتعدُّ "نيوبنك" واحدة من أكبر الشركات في العالم، التي يطلق عليها البنوك الجديدة، أو البنوك الرقمية بالكامل، ولديها 40 مليون مستخدم في أمريكا اللاتينية.
تخفيف المساهمات بالبنوك
ولعقود، كانت المؤسسات المالية، استثمارات أساسية بالنسبة لـِ "بافيت"، وامتلك حصصاً في البنوك، وشركات التأمين، وشركات الكروت الائتمانية.
لكن تغيَّر ذلك العام الماضي، عندما تخلَّت "بيركشاير" عن 84% من ممتلكاتها في "غولدمان ساكس غروب"، التي اشترتها خلال الأزمة المالية العالمية.
كما قلَّصت حصصاً في "ويلز فارغو آند كو"، و"جى بي مورغان تشيس آند كو".
وفي نهاية 2020، أصبحت الشركات المالية، بما في ذلك البنوك، تشكِّل أعلى قليلاً من 23.6% من القيمة العادلة لمحفظة استثمارات "بيركشاير"، بانخفاض من 41% في 2019.
وشعر مراقبو "بيركشاير" بالصدمة والقلق في حين كانوا يحاولون تفسير تحرُّكات "بافيت" الذي قارن أزمة فيروس كورونا بعام 2008، مشيراً إلى الكثير من أوجه عدم اليقين بسبب إغلاق مساحات شاسعة من المجتمعات.
رهانات "بافيت"
وحالياً، يجدر بنا أن نتساءل إذا كان "بافيت" يأخذ خطوة أكبر للأمام، بهذه الحصة في "نيوبنك"، وإذا كان تحولاً مقصوداً عن عالم التمويل القديم الراسخ إلى النوع الجديد الرقمي فقط، وبالتأكيد لا يحتاج المستهلكون إلى الفروع المادية في وسط الوباء.
وتقع الحقيقة في مكان ما في الوسط، فرهان "بافيت" على التكنولوجيا المالية ليس دليلاً على معتقداته عن مستقبل البنوك، بقدر ما هو اصطياد لشركات ذات إمكانات نمو بارزة بقيادة المستهلكين.
وبالفعل، تمتلك "بيركشاير" حصة بحوالي 4% في شركة مدفوعات برازيلية أخرى وهي "ستون كو ليمتد"، وشركة "باي تي إم" الهندية.
ويبحث "بافيت" عن مكامن التحوُّلات في السوق، وليس فقط مولدي الأموال الأكفاء أصحاب الأرباح المتقلِّصة بشكل أو بآخر أو الثابتة أيضاً، وبعد كل شيء، نادراً ما تظهر فوائد الاضطرابات التكنولوجية في صافي أرباح البنوك التقليدية، بل إنَّها تذهب للعملاء.
البنوك الرقمية تحظى بمزيد من القبول
يبدو أنَّ البنوك الافتراضية قد أنجزت ما استغرق من الراسخين وقتاً أطول بكثير لتحقيقه، وتُعدُّ سهولة الاستخدام والوصول، من عوامل جذب المستهلكين، إلى جانب تكلفة فتح الحساب المنخفضة، كما أنَّ التكاليف التشغيلية ليست مرهقة، لأنَّ تلك البنوك لا تحتاج إلى فروع أو أصول مادية.
وتحاول الشركات التي خفَّض "بافيت" حصته فيها إنشاء وحدات رقمية تركِّز على المستهلكين، ولكنَّ التحوُّل عن مهامهم الطبيعية إلى الرقمية بطيء ومكلف.
وعانى "ماركوس" (Marcus)، البنك الرقمي التابع لـ"غولدمان ساكس"، من خسائر قروض متزايدة، ومعدل دوران عالي للمديرين التنفيذيين، وأغلق "جى بي مورغان" نسخته "فين" (Finn)، بعد عامٍ من إطلاقه، ويخطط لمشروع رقمي في بريطانيا بدلاً من ذلك.
البحث عن فرص بالأسواق الناشئة
وصحيحٌ أنَّ "بيركشاير" كان من الممكن أن تجعل اللاعبين الرقميين أقرب إلى الموطن، وفي أسواق آمنة نظرياً مثل أوروبا والولايات المتحدة، ولكنَّ مجال البنوك الجديدة هناك ناضج نسبياً، ويحمل فرصَ استثمار محدودة، بالنظر إلى كمِّ أموال رأس المال المغامر التي تزاحم في القطاع بالفعل، وفي الربع الأول وحده، وُقِّعت 25 من أصل 42 صفقة بنوك رقمية عالمياً في هاتين المنطقتين.
وفي الوقت نفسه، أصبح المشرِّعون الأمريكيون والأوروبيون أكثر حذراً (نتيجة ما حدث مع "وايركارد" (Wirecard AG) الألمانية)، وبدأوا يدفعون كبرى شركات التكنولوجيا المالية نحو الحصول على تراخيص مصرفية، وهو أمر جيد، لكنَّه قد يعوق نموها.
بالإضافة إلى ذلك، أصبح اكتساب العملاء أكثر تكلفة، إذ يتعيَّن عليهم إنفاق مبالغ أكبر للتنافس مع الشركات الراسخة الكبيرة التي تستثمر بقوة للدفاع عن أرضها.
ولا عجب في أنَّ "بافيت" يبحث عن فرص في أماكن أخرى، وتُقدِّم الأسواق الناشئة مثل أمريكا اللاتينية وآسيا- إذ ساعد المستهلكون على انطلاق أنظمة المدفوعات والأموال الرقمية- فرصاً طويلة الأجل. وتعدُّ البنوك في هذه المناطق غير ذي كفاءة، وعالية التكاليف، وأضعف نسبياً ومثقلة بالديون المعدومة في أغلب الأحيان.
وما يزال عدد الأشخاص الذين ليس لديهم حسابات مصرفية هائلاً في هذه الأسواق، ولا تشكِّل التنظيمات - خارج الصين - عائقاً كبيراً بعد.
وأظهر مستقبل التكنولوجيا المالية بوضوح نجاحاً وقدرة استيعابية، وأصبحت شركات مشاركة السيارات والتجارة الإلكترونية تطبيقات فائقة، وتحصل على تراخيص بنكية.
المنافسة مع البنوك الكبرى
وتنافس "نيوبنك" البرازيلية كبار البنوك من ناحية الأحجام، ولديها أكثر من 57 مليون مرة تحميل، ونمت إيراداتها السنوية في الفترة ما بين 2017 إلى 2020 بأكثر من 100%، وفقاً للمحللين في "غولدمان ساكس"، وكان مفتاح هذا النجاح هو بطاقتها الائتمانية القائمة على التطبيق من غير رسوم، والمخصصة للطبقة الوسطى الحضرية.
ومع ذلك، ما تزال البنوك الرقمية غير قادرة على القضاء على المنافسة تماماً، وتعتمد "نيو بنك" نفسها على كبار المقرضين للحصول على خطوط ائتمان، ولجأت للبنوك التقليدية لدعم شركتها الفرعية المكسيكية في إبريل، كما أنَّ شركات التكنولوجيا المالية ما تزال بحاجة إلى أصدقائها في "جى بي مورغان"، و"غولدمان".
لذا في الوقت الذي تبدو فيه البنوك الكبرى في موقف دفاعي؛ فإنَّها تواصل الإمساك بزمام الائتمان واسع النطاق، وإنْ كان بتكلفة باهظة، ومع ذلك، سيكون لأصدقائهم الرقميين مساراً مربحاً أكثر، وبافيت يعرف ذلك.