انخفضت عوائد سندات الخزانة الأمريكية، يوم الجمعة (28 مايو)، المتراجعة أصلاً، رداً على بيانات التضخم التي كانت أكثر حدة من المتوقع.
تشير بذلك سوق الديون مرة أخرى إلى أن المعايير التاريخية للتمويل قد تم تعليقها، على الأقل في الوقت الحالي.
قد يتم طرح المسائل الاقتصادية لشرح ذلك، ولكن من المحتمل ألا تفي بالغرض، إذا لم تضمن جرعة جيدة من العوامل السلوكية.
ارتفاع مفاجئ
إن الإصدار الذي كان منتظراً على نطاقٍ واسع لبيانات نفقات الاستهلاك الشخصي لشهر أبريل، والذي يعتقد عموماً أنه مقياس التضخم المفضل لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، حدث وسط نقاش مكثف حول طبيعة الارتفاع الحاد في التضخم.
وبينما تم رفع التوقعات بعد بيانات مؤشر الأسعار الاستهلاكية التي كانت أعلى بشكل مفاجئ، تحققت قفزة أكبر في نفقات الاستهلاك الشخصي. إذ جاء المعدل الأساسي السنوي عند 3.1%، بزيادة ملحوظة عما كان عليه في مارس 1.9%. بينما كان التوقع المُجمع عليه هو 2.9%.
بناءً على التجربة التاريخية، من المتوقع أن ترتفع عائدات السندات في ظل هذه الظروف، لأسباب اقتصادية وسياسية.
انخفاض العائدات
وفي مواجهتهم لتضخم أعلى من المتوقع، سيطلب المستثمرون تعويضات أكبر للحفاظ على القوة الشرائية لاستثماراتهم. في غضون ذلك، من المرجح أن ينظر الاحتياطي الفيدرالي في تشديد الشروط النقدية.
من المحتمل أن يكون كلا التأثيرين مبالغاً فيه، نظراً للمستوى المنخفض جداً للعوائد السائدة، ونهج السياسة النقدية التيسيرية بشكل استثنائي، والظروف المالية المتساهلة للغاية، وضعف الدولار مؤخراً.
ومع ذلك، بدلاً من الارتفاع، انخفضت العائدات، مع انخفاض سندات العشر سنوات المراقبة على نطاق واسع إلى ما دون 1.60% - وهي نتيجة أكثر وضوحاً بالنظر إلى السياق التالي: الاقتصاد الأمريكي في وضع انتعاش قوي، مع استمرار توقعات النمو لعام 2021، بالارتفاع إلى نحو 7 % وحتى أكثر؛ أبلغت العديد من الشركات عن اختناقات في الإمداد ونقص في العمال. بينما أعلن البعض، بما في ذلك "أمازون" وشركة "ماكدونالدز"، عن زيادات في الأجور.
ووفقاً لـ"وارن بافيت" وآخرين، فإن انتقال التكلفة الكاملة إلى أسعار مرتفعة أكثر، قد بدء، ومن المرجح أن يستمر.
التضخم مؤقت
يمكن النظر في عدد من الفرضيات الاقتصادية لتبرير مثل هذا الشذوذ. قد يكون ذلك على الرغم من جميع العناصر التي يتضمنها السياق الحالي، فإن الارتفاع في التضخم مؤقت وقابل للعكس، مما يستوجب أن ينظر كل من المستثمرين والبنوك المركزية إلى ما أبعد من إشارة البيانات العابرة، وربما يُنذر بفترة من الضيق الاقتصادي حيث يتعذر على النظام دعم النمو الجديد وديناميكية الأسعار، مما يشير إلى العودة إلى الوضع الطبيعي الجديد المتمثل في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الإسمي في عام 2022 وما بعده.
ويمكن أن يكون ذلك، بسبب عوامل تتجاوز كل هذا، إذ أن الاحتياطي الفيدرالي مستعدٌ وقادرٌ على استخدام الأدوات النقدية غير التقليدية لزيادة تشويه الأسواق، بما في ذلك زيادة الانفصال بين الأساسيات وأسعار السوق.
تيسير كمي بلا نهاية
من المؤكد أن الأسواق كانت مهيأة، مراراً وتكراراً في السنوات الأخيرة، للاعتقاد بأن الاحتياطي الفيدرالي سيحافظ على سياسة نقدية شديدة التساهل بغض النظر عما يحدث في الاقتصاد.
يدعم هذا التطور الذي لا يمكن إنكاره، اثنين من أدوات البنك المركزي القوية، وكلاهما تم تعزيزهما باستمرار من خلال التوجيهات المستقبلية المرتبطة بالتعليقات المنتظمة من مسؤولي البنك المركزي.
بالذات، تطور شعار سياسة المعدلات المنخفضة، لتصبح أكثر انخفاضاً لمدة طويلة، ثم لمدة أطول، والآن منخفضة إلى الأبد؛ وقد تطورت عمليات شراء الأصول واسعة النطاق التي كان لها في السابق أرقام متسلسلة مثل "الجولة الثانية من التسهيل الكمي" (QE2) و"الجولة الثالثة من التسهيل الكمي" (QE3) إلى ما لا نهاية للتسهيل الكمي، ويبدو أنها تمنع حتى الحديث عن تخفيض طفيف محتمل في مشتريات السندات الشهرية البالغة 120 مليار دولار.
تشجيع المخاطرة
لا عجب أن الأسهم ارتفعت يوم الجمعة. إن ارتفاع التضخم الذي يتحمله الاحتياطي الفيدرالي بسهولة، يعني أن قوة التسعير الأكبر للشركات يمكن أن تعزز الربحية عندما يرتفع الطلب بشكل كبير وتستمر الظروف المالية الفضفاضة في دعم كل من المعاملات المالية الحقيقية ومجموعة من الهندسة المالية.
كلما ازداد استمرار هذه النقطة الدقيقة، زاد الضغط على بعض المستثمرين لتحمل مخاطر أكبر وزادت احتمالية إحياء التداول والاستثمار المضاربي (شاهد عودة ضغط بيع "ريديت" الذي يؤثر على أسهم شركة "إيه إم سي إنترتينمنت").
كما أنه يزيد من مخاطر التآكل التدريجي للدعم العام الواسع النطاق لبرامج البنية التحتية العامة التي تعتبر محورية للاستثمارات الحقيقية الفعالة والمستدامة بدلاً من الاستثمارات المالية.
لم تكن حركة السعر يوم الجمعة، بعد إصدار بيانات نفقات الاستهلاك الشخصي، مثالاً على تصرف الأسواق بشكل غير منطقي.
بدلاً من ذلك، كان هذا تذكيراً آخر بأن المتداولين والمستثمرين قد تم تكييفهم مراراً وتكراراً، ويعتقدون بشدة، أن نموذج السيولة المواتي المذهل سيستمر بغض النظر عن الأساسيات.
المخاطر المالية تتراكم
إنهم يحتاجون إلى أدلة قوية لا لبس فيها، على أن هذا ليس هو الحال قبل المواءمة بشكل أفضل بين المحددات الثلاثة الكبرى لصحة المحفظة - العوائد المتوقعة والتقلبات والارتباطات - مع الواقع الاقتصادي.
وهذا بدوره يتطلب وجود بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يفهم ويراقب بشكلٍ أفضل المخاطرة المفرطة التي تحدث في القطاع غير المصرفي، ويكون أكثر حساسية للتهديد المتزايد بعدم الاستقرار المالي في المستقبل، وهو على استعداد لتحمل بعض الانزعاج قصير الأجل لتقليل مخاطر شبح مستقبل يتسم بتقلبات مالية أكبر بكثير.
وإلى أن يحدث ذلك، تتراكم المخاطر المالية غير الضرورية التي يمكن أن تقوض في النهاية الرخاء الاقتصادي على المدى الطويل.
وفي الوقت نفسه، لا توفر السياسة النقدية مساحة كافية لازدهار الاستهلاك الخاص والعام، وزيادة النفقات الرأسمالية للشركات التي تعد أساسية لتعزيز الإنتاجية والنمو في المستقبل.
إن إعادة التوازن في مزيج سياسة الاقتصاد الكلي للبلاد بعيداً عن السياسة النقدية الفضفاضة للغاية، لصالح سياسات الإصلاح المالي والهيكلية المعززة للنمو، تعدّ ضرورة ملحة ليس فقط لتحقيق استقرار مالي أكبر، ولكن أيضاً من أجل الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.