ربما تبدو كثرة أحذية "بيركنستوك" (Birkenstock) الخفيفة في خزانة للملابس، أمراً محرجاً للبعض، لكنّها في الواقع قد تعكس أداء اثنتين من شركات الأحذية الأوروبية في سوق الأسهم منذ طرحهما للاكتتاب العام وحتى اليوم؛ واحدة في نيويورك، والأخرى في لندن. وينبغي لهذا الأمر أيضاً، أن يدق أجراس الإنذار في مختلف المراكز المالية في القارة الأوروبية، لا في المملكة المتحدة فحسب.
من الواضح أن لا سقوف تحدّ السوق في الولايات المتحدة. فمنذ أن تجاهلت شركة "بيركنستوك هولدينغ" (Birkenstock Holding) سوقها الوطنية في ألمانيا وأدرجت أسهمها في نيويورك، تحوّل سهمها من أسوأ الأسهم أداءً في بداية التداول قبل عشرين عاماً، ليرتفع حالياً بنسبة 8% عن سعره في الطرح العام الأولي. أما شركة "دكتور مارتنز" (Dr Martens) المدرجة في لندن، والتي حظيت أحذيتها الأنغلو-ألمانية بإقبال واسع من هواة موسيقى "غوتك روك" و"البانك" و"نيوميتال"، فقد تراجع سهمها بنحو 40% خلال الفترة ذاتها، منخفضاً بنسبة كبيرة عن سعر الطرح، بعد تحذير بشأن الأرباح في نوفمبر الماضي. وبحسب البيانات التي جمعتها بلومبرغ، فإن السوق الأميركية تستحوذ على ما يتراوح بين 45% و55% من مبيعات هاتين الشركتين.
اقرأ أيضاً: آسيا تستحوذ على معظم الطروحات الأولية في 2024 والهند تتصدر
تأخر الأسواق الأوروبية
إن عدم الثبات والتقلب سمة من سمات الموضة كما تلاحظ زميلتي أندريا فيلستيد. إلا أن الاتجاه الأساسي في سوق الأوراق المالية، يختلف عن ذلك.
تتخلف الأسواق الأوروبية عن الركب مع تفضيل مزيد من الشركات إدراج أسهمها في الولايات المتحدة، أملاً في زيادة أسعارها والوصول إلى مصادر وفيرة من رأس المال وقاعدة من المستثمرين أقل عزوفاً عن المخاطرة.
تمثل الشركات المدرجة في الولايات المتحدة حالياً نحو 70% من الشركات المدرجة على مؤشر "إم إس سي آي وورلد" (MSCI World) للأسهم العالمية (الذي يضم شركات الدول المتقدمة الأعلى من حيث القيمة السوقية) مقابل 50% فقط قبل 10 سنوات. ويرجع ذلك بدرجة كبيرة، قطعاً، إلى نمو شركات التكنولوجيا العملاقة في الولايات المتحدة. ومع ذلك، هناك مشكلات أخرى.
تقلصت حصة المملكة المتحدة إلى حوالي 3.9% على المؤشر، أي نصف ما كانت عليه قبيل خروجها من الاتحاد الأوروبي: فقد تراجع حجم التداول في الأعوام الأخيرة، وأدت مغادرتها للاتحاد الأوروبي إلى "التهام" مصادر إدراج الأسهم الجديدة في بورصة لندن، إذ أن منطقة اليورو تعمل على ترويج مراكزها المالية الخاصة، وشركات الأسواق الناشئة تستقر في مراكزها الوطنية.
بعد أن كانت رمزاً للسوق الحرة.. لماذا تدهورت أحوال بورصة لندن؟
أسواق باريس وفرانكفورت لم تخطُ هي الأخرى خطوات واسعة نحو سد هذه الفجوة، وانخفضت حصة فرنسا في مؤشر "إم إس سي آي وورلد" للأسهم العالمية عن مستوى 4%، بينما ارتفعت حصة أمستردام ارتفاعاً طفيفاً إلى 1.4%.
ومع أن الهيئات التنظيمية تروج لزيادة التكامل بين أسواق رأس المال في الاتحاد الأوروبي، لا تزال المراكز المالية في القارة تبدو وطنية بصورة واضحة.
تراجع روح القطيع
إن تدهور الحيوية التي تتسم بها روح القطيع، مع ضعف نمو الاقتصاد، ترتب عليهما انخفاض في عدد الشركات المدرجة في أوروبا بنسبة 17% في العقد الماضي، بينما زادت أعدادها في الولايات المتحدة، وفقاً للجمعية الفرنسية للأسواق المالية "أمافي" (Amafi). أما المبلغ الذي سجلته الطروحات العامة الأولية في بورصات أوروبا، والذي وصل إلى 14 مليار دولار في العام الماضي، فهو أقل رقم تحققه منذ ما يقرب من 10 أعوام. ويعتمد الكثير على ما في جعبة العام الحالي من طروحات أولية، من شركة "أمبير" (Ampere) لإنتاج السيارات الكهربائية التابعة لـ"رينو"، إلى أكبر مطار في اليونان.
هناك أثمان حقيقية لتأخر السوق الأوروبية، أحدها أن تواجه الشركات صعوبة أكبر في جمع رأس المال عبر أسواق الأسهم في أوروبا، إذ يطالب المستثمرون بتعويض أعلى مقابل المخاطرة، بحسب ما قاله بير إينار إليفسن، الرئيس التنفيذي لشركة "أموندسن إنفستمنت مانجمنت" (Amundsen Investment Management).
واحد من الأمثلة على ذلك هو قطاع السيارات، حيث تكتسب القدرة على جمع الأموال أهمية حاسمة. وقد جمعت شركة صناعة السيارات الأميركية "تسلا" في عام 2020 مليارات الدولارات من خلال أسواق الأسهم في غضون 10 أشهر، وليس مرة واحدة أو مرتين، وإنما ثلاث مرات. ومع ذلك ارتفع سعر سهمها في البورصة بدلاً من أن ينخفض مثلما يحدث عادة عند بيع الأسهم.
سهم "تسلا" يستهل 2024 بأسوأ بداية عام له منذ الإدراج
من الصعب أن نتخيل إنجازاً مماثلا في أوروبا، حيث مبيعات أسهم صناعة السيارات نادرة وأصغر حجماً. وعلى الرغم من تطلع شركة "رينو" لأن يتراوح تقييم "أمبير" بين 8 مليارات و10 مليارات يورو، فإن "بلومبرغ إنتليجنس" تتوقع رقماً أقل من ذلك.
بعد جيوسياسي
وسط ما يزعم نائب المستشار الألماني روبرت هابيك بأنه "منافسة" أوروبية مع الولايات المتحدة والصين، هناك بعد جيوسياسي. إذ أن وجهة رأس المال والشركات تكتسب أهمية خاصة مع تحول حركة التجارة وتدفقها إلى طابع إقليمي أكثر منه عالمي. وبسبب ذلك، منحت ألمانيا شركة تطوير بطاريات السيارات الكهربائية "نورث فولت" (Northvolt) مساعدات تقترب قيمتها من مليار يورو حتى تبني مصنعاً في ألمانيا بدلاً من أن تتجه إلى الولايات المتحدة.
حصلت "نورث فولت" أيضاً على قرض أخضر قيمته 5 مليارات دولار، ربما في إشارة إلى ميل أوروبا القوي نحو التمويل من خلال القروض. غير أن أسواق الأسهم سوف تتحول باستمرار إلى مصدر لرأس المال بالغ الأهمية في عملية تحول الطاقة. ومع توقع "نورث فولت" بشكل واضح طرح أسهمها للاكتتاب العام، فإن أوروبا لا تتحمل تكلفة عدم المشاركة في هذا السباق.
ما الذي يمكن عمله؟ من الواضح أن دمج 27 سوقاً متباينة في الاتحاد الأوروبي في سوق واحدة من شأنه أن يغير قواعد اللعبة، ويوحد القواعد والأعمال التنظيمية من أجل تشجيع وزيادة توجيه المدخرات نحو شراء الأسهم. لكن ذلك لن يكون سهلاً مع استمرار السلطات الوطنية وغيرتها على حماية مناطق نفوذها الخاصة.
الاستماع إلى الأسواق
ربما يمثل الاستماع إلى أسواق الأسهم نفسها نقطة بداية جيدة، وقد اقترح داريل بيرن، رئيس البورصة الأيرلندية مؤخراً، توفير بيئة تضمن المساواة بين اللاعبين في الأسواق في ما يتعلق برسوم الدمغة على الاستثمار، التي تبلغ 1% في أيرلندا و0.3% في فرنسا و0.5% في المملكة المتحدة (وصفر في الولايات المتحدة). وفي الوقت ذاته، دعا ستيفان بوجناه، الرئيس التنفيذي لشركة "يورونكست" إلى إعادة النظر في لوائح تنظيم قطاع التأمين المعروفة باسم "الملاءة المالية 2" (Solvency II) التي قال في عام 2016 إنها تعيق قدرة مؤسسات الاستثمار على الاستثمار.
ويقدر تقرير في عام 2021 عن "الملاءة المالية 2"، أصدره معهد "لوي باشلييه" (Institut Louis Bachelier)، أن القيود التنظيمية قد تمثل فرقاً يبلغ 15 نقطة مئوية في الاستثمار المحتمل في الأسهم من جانب المستثمرين في المدى الطويل.
وإلى أن تتعاون أوروبا فيما بينها، توقع أن تظهر كثرة أحذية "بيركنستوك" بصورة تدعو للإحباط، وأن تظل مصدراً لاختلال خزانة الملابس.