تنحى جيم سيمونز عن منصبه كرئيس مجلس إدارة "رينيسانس تكنولوجيز" (Renaissance Technologies) الشركة التي تعرف بأنَّها صندوق التحوُّط الكمي الأكثر نجاحاً في التاريخ. ليضع بذلك نهاية حقبة من المكاسب الدائمة. فطوال مسيرة سيمونز المهنية التي تروى عنها الحكايات، أثبتت "رينيسانس" أنَّ كتب الاستثمار، التي تدَّعي أنَّه لا يمكن التغلب على السوق بشكل دائم، كانت على خطأ. لكن حدود نجاح "رينيسانس"تظهر أنَّ الكتب ليست جنونية بالكامل أيضاً.
يكمن جوهر نظرية عالم المال الأساسية في فرضية الأسواق الفعَّالة، التي تقول إنَّ الطريقة الوحيدة للحصول على عائدات أعلى بشكل مستمر في سوق الأسهم، هي في قبول مخاطر أعلى. وتبرر ذلك بأنَّه طالما تضمُّ الأسواق المالية الكثير من المشاركين الموهوبين الذين يحاولون جميعاً معرفة الأسعار الصحيحة للأصول؛ فلن يكون أي متداول قادراً على الاحتفاظ بميزة المعلومات التي يعرفها لوقت طويل، فإن توصَّلت إلى استراتيجية رابحة، فلن يمضي وقت طويل قبل أن يصل إليها شخص آخر وينسخها، وتفقد تلك الميزة تماماً.
شركة أم قسم جامعي
إن وجد أي شخص على الإطلاق يمكنه أن يثبت خطأ هذه النظرية، فهو جيم سيمونز عالم رياضيات من الطراز العالمي الذي ترك عمله في التدريس في قسم الرياضيات في جامعة "ستوني بروك" (Stony Brook) في سن الأربعين، ليبدأ العمل في الاستثمار. وعيَّن نخبة علماء الرياضيات والعلماء الذين يمكن للمال أن يشتريهم من جميع أنحاء العالم. ثم خبَّأهم في مقر "رينيسانس" السري للغاية في لونغ أيلند، كي يقلل من احتمال معرفة حيتان مدينة نيويورك لاستراتيجياتهم. كانت "رينيسانس" تدار بخبرة، مع بيئة مفتوحة وطليقة أشبه بقسم جامعي من كونها شركة. وكان يتمُّ شرح استراتيجيات التداول، ومناقشتها واستخدمها فقط بعد اختبارها بلا هوادة.
وكان هذا المزيج بين قائمة الموظفين وثقافة الإدارة أذكى من السوق. كما حقَّق صندوق "ميداليون" (Medallion) الرئيسي منذ عام 1988 حتى عام 2018، في "رينيسانس" متوسطَ عائد سنوي يبلغ حوالي 40% بعد اقتطاع الرسوم، مع عدم وجود سنوات خسارة أموال تقريباً؛ قبل احتساب الرسوم، كما كانت عائداته أكثر إبهاراً . وبالرغم من أنَّ السوق يكتشف استراتيجيات تداول "ميداليون" في النهاية، مما يجبر الشركة على اكتشاف أوجه القصور الجديدة واستغلالها، إلا أنَّ ربحيتها تميل إلى أن تكون مستمرة لعقود، وليست مجرد شهور فقط. ودرَّ هذا الأداء المتفوِّق المطَّرد على سيمونز ثروة تقدَّر بـ 22.9 مليار دولار، وفقاً لمؤشر بلومبرغ للمليارديرات.
التفرد والاستثناء
لكنَّ أسلوب نجاح "رينيسانس" يُظهر سبباً أخر لكونه فريداً واستثنائياً، يتمثَّل في عدم تراكم عائدات صندوق "ميداليون" كثيراً. ونعتقد عادة أنَّ العائدات المالية تتضاعف أضعافاً مضاعفة بمرور الوقت. فإن استثمرت 1000 دولار في مؤشر "ستاندرد أند بوزر 500"، ونما بمعدل 10% سنوياً على مدى 40 عاماً، فسينتهي بك الأمر مع حوالي 45000 دولار. لكنَّ عائدات "ميداليون" بنسبة 40% لا يمكن أن تعمل بهذه الطريقة. ويدير الصندوق حالياً حوالي 10 مليارات دولار. ومع معدَّل عائد سنوي يبلغ 40% على مدى 20 عاماً، سيتحوَّل مبلغ 10 مليار دولار إلى 8.4 تريليون دولار - أكثر من ضعف المبلغ الذي تديره حالياً جميع صناديق التحوط على الكوكب.
من الواضح أنَّ هذا لم يحدث؛ إذ يقوم صندوق "ميداليون" بتوزيع أرباح منتظمة من أجل أن يبقى المبلغ الإجمالي للأموال الموجودة في الصندوق عند بضع مليارات من الدولارات. كما لا يُسمح للمستثمرين بالاحتفاظ بكلِّ أموالهم في "ميداليون" عاماً بعد عام حتى تصل إلى القمة؛ بدلاً من ذلك، يمكنهم الاحتفاظ بجزء منها فقط، وكسب المال بشكل ثابت، ولكن ليس بشكل كبير.
استراتيجية حجم رأس المال
مما لا شك فيه ، أنَّ سبب بقاء "ميداليون" عند حجم صغير نسبياً هو عدم توسع استراتيجياته. إنَّ أوجه القصور في السوق التي تسمح لعلماء الرياضيات اللامعين بجني أموال ثابتة ليست بلا حدود؛ فإن راهنتَ بأموال كافية على هذه الاستراتيجيات، فستتوقف عن تحقيق أرباح ضخمة عند انتقال الأسعار إلى محاذاة أكثر كفاءة. وهذا هو السبب في أنَّ "رينيسانس" لا يسمح للمستثمرين بالاحتفاظ بكلِّ أموالهم في "ميداليون"، وبالتالي فإنَّه لا يطلب أموالاً من مستثمرين خارجيين جدد - فالمزيد من الأموال من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض العائدات. يقوم "رينيسانس" بتشغيل عدد من الصناديق الأخرى، التي تستخدم استراتيجيات مختلفة تتوسَّع بشكل أفضل، كما أنَّها متاحة للمستثمرين الخارجيين. لكن هذه الصناديق الأضخم تفتقر بالضرورة إلى وصفة "ميداليون" الخاصة. فخلال عام 2020، عندما قلب كوفيد- 19 الأسواق المالية رأساً على عقب، أبلغ "ميداليون" عن تحقيقه عائدات بنسبة 76%. لكن ثلاثة من أكبر صناديق "رينيسانس" خسرت أموالاً طائلة في عام 2020.
لا يشكِّل هذا ضربة ضد "رينيسانس"، فأحياناً تخسر الأموال أموالاً، كما كان عام 2020 عاماً غير عادي للغاية، لكنَّه يوضِّح كيف أنَّ هذا النوع من شبه المناعة الذي يتمتَّع به صندوق "ميداليون" السحري، ليس من النوع الذي يمكن لمعظم المستثمرين الوصول إليه.
بعبارة أخرى ، من خلال إظهار إمكانية التفوُّق باستمرار على السوق، يوضِّح جيم سيمونز وفريقه من عباقرة الرياضيات مدى صعوبة القيام بذلك بطريقة استثنائية. لقد حقَّقت شركته الكثير من المال ، لكنَّها لم تقلب عالم المال. بالنسبة إلى البشر العاديين - بما في ذلك الغالبية العظمى من صناديق التحوُّط - سيظل سجل سيمونز أمراً بعيد المنال إلى الأبد.