تقوم أطروحتي الأساسية على أن التوّقعات الاجتماعية المحلية هي ما يحدد الاحتيال بشكل كبير. فلن يقوم الناس بالاتصال بالشرطة أو اتهامك بالاحتيال أو حتى لن يتوقفوا عن اللعب معك، إذا تفاخرت بالمراهنة بمبالغ ضخمة أثناء لعب البوكر، و نجحت في خداعهم للوقوع بشباكك، وأخذت أموالهم، ثم أخبرتهم أنك تحايلت عليهم. قد ينزعج هؤلاء الناس من أنفسهم، أو قد تُزعجهم شماتتك بهم فقط.
هؤلاء الناس يشكّلون جزءاً من سياق اجتماعي، يتوّقعون فيه الإيقاع بهم من قبل نظرائهم، بل ويقومون هم أنفسهم أحياناً بخداع أقرانهم، وغالباً ما يعلّقون على خدعة جريئة وناجحة بالقول: "حسناً.. هذا نجاح باهر. لقد تمكّنت مني".
هذه القاعدة لا تنطبق على معظم مناحي الحياة، لكنها تنطبق نوعاً ما على بعض المجالات التي تميل لأن تكون مصدر الكثير من حالات الاحتيال. قد تكون تاجراً في بنك بسوق السندات، ويأتيك عميل قائلاً: "أود شراء السندات (أ)"، فتجيب: "لدي بعض منها واشتريتها بـ 106، لكنني سأبيعها لك بـ 106.125. أنا بالكاد أجني أي مبلغ من المال، ولكن لأنك عميل جيد سأسدي لك معروفاً". ثم يرد عليك العميل قائلاً: "تمت العملية"، ويدفع لك 106.125. في الواقع، لقد دفعت أنت 101 لتلك الأسهم وحققت عليها أرباحاً كبيرة، فهل ما قمت به يعد احتيالاً؟.
حسناً.. يبدو أن المدعين الفيدراليين اعتبروا الأمر كذلك. فقد اتهموا مجموعة من تجار السندات بالاحتيال للقيام بذلك، وأقنعوا بعض المحلّفين بإدانة هؤلاء التجار على أساس نظرية واضحة إلى حد ما، وهي أنهم كذبوا على العملاء. لكن التجار في الاستئناف كانت لهم حجة أخرى. فقد قالوا للمحاكم: "لا.. أنتم لا تفهمون الأمر. لقد توقّع العملاء منّا أن نكذب عليهم، وهم أيضاً يكذبون علينا طوال الوقت. الجميع يكذب بعضهم على بعض في هذا السوق، وكلنا يعرف ويقبل هذا، لذلك لم يتم الاحتيال على أحد.". اقتنعت محاكم الاستئناف بهذه الحجج إلى حد كبير، وألغت بعض الإدانات.
تحايل أم كذب؟
بوسعك أن تروي قصة قانونية حول هذا الموضوع، فيُمكنك استخدام كلمات مثل "الاعتماد المعقول"، و"الأهمية النسبية" للتوصل إلى فكرة أساسية مفادها أنك إذا كذبت على أناس يتوّقعون منك أن تكذب عليهم، فأنت لا تتحايل عليهم حقاً.
هذه القصة لن تستميل معظم المدعين العامين كثيراً، ولكن يبدو أنها تحظى ببعض القبول لدى بعض القضاة. مع ذلك، يبدو أنها لا تستميل هيئة المحلّفين بشكل كبير، فإذا قُلت لهيئة محلّفين مكوّنة من أناس عاديين "بالتأكيد كنت أكذب على عملائي، ولكن عليك أن تفهم أننا مجموعة دنيئة تقوم بالكذب على بعضها بعضا طوال اليوم في صفقات بملايين الدولارات، لربما كان جواب تلك الهيئة هو: "حسناَ.. يجب أن نضعكم جميعاً في السجن".
لننظر هنا إلى الشركات الناشئة أيضاً. تقول إحدى النظريات إنك تكون قد كذبت وارتكبت احتيالاً إذا قمت بتشغيل شركة ناشئة، وقمت بجمع الأموال من المستثمرين، ثم تفوّهت بأقوال من أمثال "وصلت إيراداتنا إلى 10 ملايين في الربع الأخير"، أو "بنينا شاحنة كهربائية تتحرّك من تلقاء نفسها"، أو "لدينا فحص دم مأخوذ من الأصبع يستطيع اكتشاف 100 مرض"، فيستجيب المستثمرون بانبهار، ويمنحونك الأموال.
هذه النظرية مدعومة بشكل كبير، حيث يقول القانون واقعياً: "يرتكب أي شخص عملاً غير قانوني عند الإدلاء ببيان غير صحيح حول حقيقة مادية.. وفيما يتعلّق بشراء أو بيع أي ورقة مالية".
يتسق هذا الأمر أيضاً مع الفهم البديهي العادي لعملية "الاحتيال"، فإذا ذهبت إلى مجموعة من الناس العاديين، وربما يجلس بعضهم في هيئة المحلّفين، وسألتهم: "هل أنا أحتال على المستثمرين عندما أكذب عليهم لجمع المال؟، قد يجيب أغلبهم بنعم.
تغيير العالم
لكن هناك نظرية أخرى تقول إن هؤلاء المستثمرين يريدون الكذب عليهم حقاً، فهم يؤمنون بالمنافسة القائمة على مبدأ "من سيبدو أكثر حماساً وإقناعاً وجنوناً عند الكذب علينا"، ليمنحوا الفائز أموالهم بعد ذلك.
إنهم لا يرسمون الأمر بهذه الكلمات الحرفية، ولكن هؤلاء المستثمرين يريدون شخصاً خيالياً ذو عينين حالمتين ورؤية وبصيرة لا تنظر إلى العالم كما يبدو، ولكن كما يُمكن أن يكون. إنهم يُريدون شخصاً يرى المليون دولار من الإيرادات على أنها 10 ملايين دولار، ويرى المئات من السيارات في خطوط الإنتاج بمجرد النظر إلى مخططات الشاحنة الكهربائية، وينظر إلى فحص الدم على أنه يعمل بينما هو لا يعمل.
في الحقيقة، هم يريدون شخصاً يؤمن بشيء لا يؤمن به الآخرون، ويحمل رؤية خارجة عن الإجماع لتغيير العالم. من الواضح أنهم يفضلون أن تتحقق تلك الرؤية الجامحة لذلك الشخص، خصوصاً إذا نجحت في تغيير العالم. لكن الخطوة الأولى تتطلب دعم المؤسسين بأفكار مجنونة، وإذا صلحت واحدة منها، فهي ستدفع ثمن 10 أفكار من تلك المجنونة.
هذه النظرية مدعومة أيضاً. سيقول الكثير من أصحاب رؤوس الأموال المغامرة ذلك، ولكن أنظر يا رجل أيضاً إلى التاريخ الكامل لشركة "سوفت بنك"، وكيف التقى ماسايوشي سون من "سوفت بنك" بآدم نيومان من "وي وورك"، ليُطلعه "نيومان" على رؤية تتعلق بمساحات تأجير مكاتب ستغيّر العالم، مما دفع "سون" لمنحه 3.1 مليار دولار. من المعروف أن "السيد نيومان قال للآخرين إن السيد "سون" قدّر جنونه، لكنه اعتقد أنه يحتاج إلى أن يكون أكثر جنوناً".
مع هذا، أنت لا تقول ذلك ثم تستدير للتدقيق في كل سطر من التقديرات المالية لكي تبحث عن المبالغات في الأرقام والافتراضات غير المبررة. أنت تستثمر في الشركات الناشئة للالتقاء بالمجانين، وإخبارهم بأن يكونوا أكثر جنوناً، ومن هنا لن يتعلّق معيارك الاستثماري بالبحث الدقيق.
محاكمة هولمز
المشكلة هي أن المدعين العامين لا يريدون سماع ذلك، ولا النظريات التي تقول "لا.. أنت لا تفهم شيئاً. هؤلاء المستثمرون يبحثون عن أشخاص يقولون لهم أشياء مجنونة، ولذلك فعلت. لم ينجح الأمر، ولكنهم كانوا على علم بضآلة احتمالاته، وبالتأكيد لقد قلت إن منتجنا نجح فعلاً، ولكنه لم ينجح. هذا هو النوع الذي يتوّقعونه من مؤسس شركة تقنية صاحب رؤية، ولكنهم لم يأخذوه على محمل الجد.". مع هذا، سيجيب المدعي العام بجملة تقول: "لكنك بعت الأوراق المالية من خلال الكذب فيما يختص بالحقائق المادية، أليس كذلك؟"
على أي حال، بعد أربع سنوات من التأخير المتكرر وولادة طفلها، من المقرر أن تتم محاكمة إليزابيث هولمز، مؤسس الشركة الناشئة، "ثيرانوس" Theranos، لفحوصات الدم، بتهمة الاحتيال، في مثال على غطرسة وطموح وخداع وادي السيليكون.
يبدأ اختيار هيئة المحلّفين الثلاثاء المقبل، في المحكمة الفيدرالية بسان خوسيه في ولاية كاليفورنيا، تليها المرافعات الابتدائية الأسبوع المقبل. وتخوض السيدة هولمز، التي من المتوقع أن تستمر محاكمتها لثلاثة وأربعة شهور، معركة اتهامها بـ 12 تهمة احتيال وتآمر لارتكاب احتيال سلوكي يتعلّق بادعاءات كاذبة بشأن اختبارات الدم وأعمال " ثيرانوس".
في العام 2018، وجّهت وزارة العدل الاتهامات لها وشريكها في العمل وصديقها السابق راميش بالواني، المعروف باسم ساني، على أن تبدأ محاكمة السيد بالواني في أوائل العام المقبل. ودفع الاثنان بأنهما غير مذنبين.
تم تقديم قضية السيدة هولمز على أنها مثال على ثقافة وادي السيليكون المتغطرسة والقائمة على مبدأ "زيّفها حتى تصنعها"، التي ساعدت في دفع الشركات الناشئة بالمنطقة نحو الثراء والقوة الاقتصادية الغامضة. أتاحت هذه الروح للمخادعين والمحتالين غير الأخلاقيين فرصة للتألق دون تحقيق الكثير من النتائج في أغلب الأحيان، ما أثار تساؤلات حول قبضة وادي السيليكون الحديدية على المجتمع.
خبرة الشركات الناشئة
تكمن المشكلة الأخرى لهذا الدفاع في الشكوك حول عدم رغبة هيئة المحلّفين بسماع ذلك أيضاً، رغم أنني أفترض أن الأمر يعتمد عليهم. وإذا كان الاحتيال يقوم على التوّقعات الاجتماعية المحلية، فهذا يعني أنك تريد هيئة محلّفين قائمة على نفس تلك التوّقعات، وإذا كنت من مؤسسي الشركات التقنية، وكانت هيئة المحلّفين مكوّنة من أصحاب التكنولوجيا و رؤوس الأموال المغامرة، فأعتقد أن الأمر سيكون على ما يرام بالنسبة إليك.
ما أعنيه هو أن الخبراء القانونيين يقولون إن السيدة هولمز تحتاج لمحلّفين على دراية بسوق الشركات الناشئة، والذين سيكونون منفتحين على فكرة أن شركة فحص الدم كانت حالة بريئة من الفشل بدلاً من كونها احتيالاً ضخماً.
وفقاً لوجهة النظر تلك، قد تنتصر "هولمز" إذا تماشت روايتها لانهيار "ثيرانوس" مع فهم المحلّفين لكيفية جذب المستثمرين من خلال عروض البيع، وكيف يُمكن أن تنحرف أفضل الخطط المرسومة عن مسارها. بالطبع، لما لا.. كان من الممكن أن تتم تبرئة تجار السندات هؤلاء إذا كانوا قد حظوا بهيئة محلّفين مكوّنة من تجار السندات.
هناك مشكلة أخرى في هذا الدفاع، فلقد باعت "هولمز" تقنية فحوصات دم لم تبدو ناجحة، مما أتاح لها فرصة لجمع الكثير من الأموال من المستثمرين، ولكن هل "ثيرانوس" قامت بالعديد من فحوصات الدم؟ ألم ينجح هذا؟ وهل سيتم السماح للمرضى الذين حصلوا على نتائج دم سيئة بالإدلاء بشهادتهم في محاكمتها، التي تدور حول كذبها على المستثمرين؟.
حتى وإن اقتنع المحلّفون بوجهة النظر التي تقول: " كذبت على المستثمرين ولكنهم كانوا راضين بذلك، لأنهم يحبون الكذب عليهم، ولم يتم الاحتيال على أحد"، فمن الصعب استشفاف الأمر فيما يتعلّق بالمرضى. لكن في الواقع، عندما تذهب لإجراء فحص دم، فأنت تتوقع أن يعمل الفحص، وأنت ببساطة لم تقم بتسجيل نفسك للانضمام إلى ثقافة وادي السيليكون المتفاخرة والقائمة على مبدأ "زيّفها حتى تصنعها". وبينما يرغب أصحاب رؤوس الأموال المغامرة الداعمين لأحد المؤسسين في الحصول على العوائد العالية، يريد الأشخاص الذين قاموا باختبارات الدم للحصول على مخاطر منخفضة.