اعتُبر الانسحاب السريع للولايات المتحدة من أفغانستان -ماضي سايغون في عام 1975 يعيد نفسه- فوزاً للصين وفرصة لبكين لتوسيع نفوذها عبر المنطقة. وقُدّم هذا الانسحاب درساً لتايوان كي لا تعتمد على الحماية الأمريكية، هذا من وجهة نظر صحيفة "غلوبال تايمز" التي تديرها الحكومة الصينية.
مع ذلك، فإن الحقيقة الساخرة بالنسبة إلى الصين هي أن الشيء الوحيد الأسوأ من الجنود الأمريكيين بالقرب من حدودها هو عدم وجودهم هناك على الإطلاق. تشكل أفغانستان الآن صداعاً كبيراً لبكين، التي تخشى أن تمتد الفوضى إلى هناك، ليس فقط إلى منطقة شينغيانغ المضطربة، بل إلى باكستان أيضاً. استثمرت الجمهورية الشعبية في مشروعات بنية تحتية ضخمة، بالإضافة إلى تقديم قروض ضخمة لإسلام أباد، كجزء من مبادرة الحزام والطريق، التي هي إحدى بصمات سياسة الرئيس شي جين بينغ.
منذ إنشاء مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، أنفقت الصين مليارات الدولارات في الخارج: بناء الطرق والسدود ومحطات الطاقة، أقرض بنكا السياسة النقدية الرئيسيان –بنك التنمية الصيني وبنك التصدير والاستيراد الصيني- ما يقدر بنحو 282 مليار دولار لبلدان في جميع أنحاء آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، إلى درجة أنه في عام 2020 سجّل حساب رأس المال الصيني عجزاً للمرة الأولى.
إنّ باكستان، التي تجاور الصين وأفغانستان، هي أكبر مستفيد من حملة بكين للبنية التحتية الخارجية. يقال إن ما يسمى بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني وحده تبلغ قيمته 62 مليار دولار. من المحتمل أن تكون باكستان حلقة وصل رئيسية بين مصالح الصين في آسيا الوسطى والممرات الملاحية في المحيط الهندي.
لكن في الآونة الأخيرة بدأت بكين تقلق بشأن أصولها هناك. في 14 يوليو، أدى انفجار في حافلة صينية في شمال باكستان إلى مقتل تسعة مهندسين صينيين يعملون في سد داسو لتوليد الطاقة الكهرومائية بقيمة 4 مليارات دولار. المشروع، الذي تقوده مجموعة "تشاينا جيزوبا" (China Gezhouba Group) المملوكة للدولة، ليس حتى جزءاً من ذاك الممر الأكثر إثارة للجدل، والممول من قِبل البنك الدولي. جاء هذا الهجوم في أعقاب حادثة أخرى في أبريل، عندما نفذت حركة طالبان الباكستانية تفجيراً انتحارياً في فندق كان يقيم فيه السفير الصيني.
بعد مرور شهر على الحادثة، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن هجوم داسو. وألقت باكستان الأسبوع الماضي باللوم على حركة طالبان عبر الحدود، قائلة: "استُخدمت الأراضي الأفغانية لهذا الحادث".
باكستان تسعى إلى تخفيف عبء الديون الصينية من مبادرة "الحزام والطريق"
حتى الآن، يتصرف الصينيون بدبلوماسية. فعندما سُئلت وزارة الخارجية في يوليو عن العلاقة بين هجوم داسو وطالبان، ردت بتمييز مثير للاهتمام: أي طالبان؟ إذ إنّ بكين تصور حركة طالبان الأفغانية على أنها "قوة عسكرية وسياسية محورية"، لكنها تعتبر طالبان الباكستانية جماعة إرهابية. في أواخر يوليو، خلال زيارة دبلوماسية مستهجنة لطالبان الأفغانية، تمكنت بكين من الحصول على تعهد علني بأن الجماعة لن تسمح للمقاتلين باستخدام الأراضي الأفغانية قاعدة لمهاجمة الصين.
فخ فنزويلا
يوضح هذا الوعد وحده مدى عدم ارتياح الصين لحكام أفغانستان الجدد، ففي حين أن الصين لم تستثمر كثيراً في أفغانستان، فإنها لا تستطيع تحمل زعزعة استقرار باكستان. لا تزال بكين تحتفظ بذكريات حية للغاية عن فخها الأخير كدائن، ذاك الذي وقعت فيه مع فنزويلا قبل ست سنوات. فرهان فاشل آخر على دولة فاشلة سيضرب أحلام مبادرة الحزام والطريق للرئيس الصيني في صميمها.
ذات مرة، كانت فنزويلا الوجهة المفضلة لبنوك السياسة الصينية. وعبر نهج القروض مقابل صفقات النفط، راهنت الصين على أن إنتاج النفط في البلاد كان ضماناً كافياً لسداد الديون. لكن مع بداية ولاية الرئيس نيكولاس مادورو عام 2013، كانت الصين قد زودت فنزويلا بخط ائتمان بقيمة 40 مليار دولار، مع بقاء نحو 30 مليار دولار من هذا المبلغ مستحقاً.
الصين تلجأ إلى "التلاعب" لاستيراد النفط الفنزويلي
كان ذلك سوء تقدير. فخلال فترة انكماش السلع بين عامَي 2014 و2015 انخفض سعر خام برنت من 100 دولار للبرميل إلى نصف ذلك، واضطرت الصين إلى تجديد 9 مليارات دولار من شرائح القروض السابقة، فقط لمساعدة الفنزويليين على تجاوز الأزمة وتعزيز الطاقة الإنتاجية للنفط. لم تحصل الصين على جزء كبير من أموالها حتى الآن. في العام الماضي، ورد أن الحكومة الفنزويلية تلقت فترة تأجيل على قروض تبلغ قيمتها نحو 19 مليار دولار.
لقد أضعف فخ الدائن هذا الثقة. لم تقدم بنوك السياسة الصينية تمويلاً جديداً لفنزويلا منذ عام 2013. علاوة على ذلك، بلغ إجمالي قروضها التنموية في الخارج ذروته في عام 2016، بعد فترة وجيزة من تمديد ديون فنزويلا. سيثير الفشل في حماية مصالحها في باكستان مزيداً من الأسئلة حول نموذج "بناء الأمة" الذي يقدمه الرئيس تشي.
كارثة أمريكا ليست فوزاً للصين
يأتي كثير من متاعب بكين من الطريقة التي تنتهجها في تقديم القروض. ففي حين أن البنك الدولي يمول مشاريع تستند إلى مقاييس محددة مثل علاوة مخاطر الدولة ومعدل العائد المطلوب، يبدو أن الصين تعمل على أساس الغريزة. فبدلاً من النظر إلى الوراء في التاريخ الائتماني لبلد ما، تحاول بكين تصور الشكل الذي قد يبدو عليه المدين إذا حصل على ما يكفي من الاستثمار والبنية التحتية، وهو نهج لا مثيل له.
قد تكون في الداخل الصيني انتكاسة بسبب فشل مبادرة الحزام والطريق. قد لا يكون الشعب الصيني بهذا الكرم في ما يتعلق بسخاء بكين في الخارج إذا كان يدرّ القليل فقط. في الواقع، أُنشئت بنوك السياسة لتنفيذ التحفيز المالي ومنح قروض الأعمال في الداخل، لا لتمويل الدول الفاشلة. فبنك التنمية الصيني، الأكثر قوة، يعاني بالفعل من نقص في رأس المال مقارنة بنظرائه العالميين. لماذا يجب أن تغرق البنوك الصينية في الدول المنكوبة؟ حتى بمساعدة بكين، فإن باكستان هي حالة صعبة. فلقد احتاجت إلى 13 عملية إنقاذ خلال 30 عاماً من صندوق النقد الدولي.
مما لا شك فيه أن خروج الولايات المتحدة المتسرع من أفغانستان شكّل دعاية سيئة، لكن كارثة أمريكا ليست فوزاً للصين. تريد قوة عظمى واحدة أن يعود جنودها إلى ديارهم. وماذا عن القوة الأخرى؟ تريد الصين فقط بعض معدلات العائد الداخلية الإيجابية لتبرير حلمها بطريق حرير جديد.