
إذا كنت قد أمضيت ساعات طويلة في محاولة يائسة للعثور على أي ترابط منطقي في استراتيجية البيت الأبيض التجارية، المقرر الكشف عنها في الثاني من أبريل، وهو التاريخ الذي يصفه الرئيس دونالد ترمب بـ"يوم التحرير"، فلا تقلق لأنه ليس فيها ما يمكن اعتباره مترابطاً.
حتى الآن، طرح ترمب ثلاثة أهداف رئيسية من وراء فرض الرسوم الجمركية. الهدف الأول يتمثل في زيادة الإيرادات الضريبية للمساهمة في سد عجز الميزانية الفيدرالية، وتمويل تمديد قانون خفض الضرائب والوظائف الصادر عام 2017، والذي من المقرر انتهاء العمل به مع نهاية العام الجاري.
الهدف الثاني هو إعادة الصناعات التي فرت إلى الخارج لتستقر مجدداً في الولايات المتحدة، في محاولة لإشعال شرارة "عصر ذهبي" جديد للاقتصاد الأميركي. أما الهدف الثالث، فهو تحقيق أهداف تتعلق بالسياسة الخارجية.
تحقيق كل من هذه الأهداف على حدة يُعد تحدياً كبيراً، فكيف بها جميعاً في آن واحد كما يقترح ترمب؟. ووصف ذلك بغير الممكن لا يفي بالغرض. فقد عبر عن هذا بوضوح اقتصاديو "مورغان ستانلي" في تقرير بحثي بأنها "الثالوث المستحيل لأهداف الرسوم الجمركية". وأكدوا أن "الرسوم الجمركية يجب أن تكون أعلى بكثير وأكثر استمرارية" من تلك التي طرحها البيت الأبيض حتى يمكن اعتبارها "مصدراً كبيراً" للإيرادات الضريبية.
وذلك مع الأخذ في الاعتبار فكرة ارتفاع متوسط معدل الرسوم الجمركية الأميركية إلى ما بين 10% و15%، وهي النسبة الأعلى منذ أربعينيات القرن الماضي، مقارنةً بالمعدل الحالي الذي لا يبلغ حوالي 2.2%.
تأثير الرسوم الجمركية على عجز الميزانية
في الواقع، أجرى مختبر الميزانية في جامعة "ييل" دراسة شاملة حول تأثير الرسوم الجمركية. وتشير تقديراته إلى أن الرسوم على السلع المستوردة، وفقاً للمقترحات المطروحة، قد تُدر نحو 3.52 تريليون دولار بين عامي 2026 و2035، (مبالغ تقع على عاتق المستوردين الأميركيين، ومن ثم على كاهل المستهلكين وليس الدول المصدرة).
رغم أن هذا الرقم يبدو كبيراً، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى العجز المتوقع البالغ 4.6 تريليون دولار حتى عام 2034، وهو ما قدره مكتب الميزانية في الكونغرس كنتيجة لتمديد قانون خفض الضرائب والوظائف، الذي يُعد أبرز إنجازات ترمب التشريعية خلال ولايته الأولى. كما أن إيرادات الرسوم الجمركية لن تُحدث فرقاً يُذكر في العجز المالي الذي بلغ 1.8 تريليون دولار في العام المالي 2024 وحده، والذي يتوقع مكتب الميزانية أن يتفاقم ليصل إلى 21.8 تريليون دولار بحلول عام 2035 (وذلك دون إدخال أي تعديلات على القوانين الضريبية الحالية).
وحتى لو رُفعت الرسوم الجمركية إلى مستوى يكفي لتحقيق عوائد كبيرة، فإن ذلك سيعني الفشل في تحقيق الأهداف الأخرى، وفقاً لما يؤكده خبراء الاقتصاد في "مورغان ستانلي".
تضخم الأسعار بسبب الرسوم الجمركية
إن فرض الرسوم الجمركية على نطاق واسع سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين الأميركيين، وقد يتسبب أيضاً في تقليص هوامش أرباح الشركات. وهذان العاملان لا يضعفان احتمالات زيادة الإيرادات الضريبية، إذ من المرجح أن يقلل المستهلكون، الذين أنهكتهم بالفعل فترة طويلة من الأسعار المرتفعة، من إنفاقهم.
وفي هذا السياق، يُقدر مختبر الميزانية أن معدلات التضخم قد ترتفع بمقدار 1.7 نقطة مئوية على المدى القصير إذا لم تتخذ الدول الأخرى تدابير انتقامية، وبمقدار 2.1 نقطة مئوية إذا فعلت ذلك (بافتراض عدم تدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي لمعالجة تداعيات الرسوم الجمركية). ويقول مختبر الميزانية إن هذا يعني تكاليف إضافية تتراوح بين 2700 إلى 3400 دولار لكل أسرة، بالقيمة المتوسطة للدولار في عام 2024.
وقد تكون التكلفة أكبر من ذلك بكثير. فقد كشفت دراسة نُشرت في مجلة "أميركان إيكونوميك ريفيو" (American Economic Review) أن الرسوم التي فرضها ترمب في عام 2018 على غسالات الملابس القادمة من كوريا الجنوبية والصين أدت إلى زيادة مماثلة تقريباً في أسعار الغسالات المباعة في السوق الأميركية. ليس هذا فحسب، بل ارتفعت أيضاً أسعار المجففات، رغم أنها لم تكن خاضعة لأي رسوم، في ما يُعرف بتأثير "الارتداد غير المباشر".
غياب الحوافز لإعادة التصنيع
ثانياً، فإن الشركات التي تجد نفسها عالقة في خضم حرب تجارية وتشهد تراجعاً في أرباحها بسبب تقلص إنفاق المستهلكين، لن يكون لديها دافع قوي لإعادة أنشطتها الصناعية إلى داخل الولايات المتحدة. ومن المهم التذكير بأن الإيرادات الضريبية للشركات تعتمد بشكل مباشر على الأرباح، وهي أرباح كانت راكدة خلال ولاية ترمب الأولى، عندما خاض مواجهة جمركية واسعة مع الصين، تسببت في ركود قطاع التصنيع، بحسب ما أشار إليه معهد إدارة التوريد (Institute for Supply Management).
ويُلفت الاقتصاديون في "مورغان ستانلي" إلى أن الجزء الأكبر من الإيرادات التي جُمعت من تلك الرسوم تم توجيهها لتعويض المزارعين الأميركيين عن الخسائر التي لحقت بمبيعاتهم في الخارج جراء رد الصين بتحويل طلبها إلى منتجين غير أميركيين.
الرسوم كأداة ضغط سياسي
وبهذا، يمكن طي صفحة الهدفين الأول والثاني. أما الهدف الثالث، والمتمثل في استخدام التهديد بفرض الرسوم الجمركية كوسيلة لتحقيق غايات في السياسة الخارجية، مثل الحد من تدفق المهاجرين أو المخدرات غير المشروعة أو تقليص الحواجز التجارية أمام المنتجات الأميركية، فإن تحقيقه بنجاح يعني تلقائياً أن مساعي تحصيل الإيرادات الضريبية أو إعادة التصنيع المحلي مسألة صورية.
تأمل ما حدث في بداية فبراير، عندما كان ترمب يستعد لفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات الأميركية من المكسيك وكندا. ففي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، كتب قائلاً: "اصنعوا منتجكم في الولايات المتحدة ولن تكون هناك رسوم جمركية! لماذا على الولايات المتحدة أن تخسر تريليونات الدولارات في دعم دول أخرى؟".
لكن كيفن هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني التابع للبيت الأبيض، صرح حينها بأن الرسوم الجمركية لا علاقة لها بذلك على الإطلاق. فقد قال لشبكة "سي إن بي سي" (CNBC) إن "هذه ليست حرباً تجارية، بل حرب ضد المخدرات".
وربما كان محقاً، إذ إن المكسيك وكندا قدمتا بعض التنازلات الرمزية بشأن الأمن الحدودي مع الولايات المتحدة، مما دفع ترمب إلى تعليق الرسوم الجمركية. وخلال تلك الفترة، لم يكن هناك أي حديث فعلي عن الرسوم كمصدر للإيرادات.
إليكم ما خلص إليه خبراء الاقتصاد في "مورغان ستانلي":
"لكي تنجح الرسوم الجمركية كمصدر هام للإيرادات، لا بد أن تفشل تقريباً في تحقيق كل هدف آخر سبق ذكره. فتخفيف الرسوم ضمن مفاوضات ناجحة يؤدي إلى تقليص الإيرادات. وخفض الواردات أو إعادة التصنيع المحلي يقللان من تدفق الأموال الواردة. وخلق استثناءات لإعفاء بعض السلع يحد من الإيرادات، تماماً كما تفعل مدفوعات إغاثة للمنتجين الأميركيين المتضررين".
لطالما اتسمت السياسات التجارية التي يتبعها ترمب بطابع شعوبي أكثر من كونها براغماتية. وقد يلقى هذا الأسلوب رواجاً في أجواء الحملات الانتخابية، إلا أنه يتحول إلى مقامرة غير محسوبة عند تطبيقه على أرض الواقع. وفي ظل هذا النهج، بدأ الاقتصاديون في رفع احتمالات دخول الاقتصاد الأميركي في حالة "ركود تضخمي"، تلك الضربة المزدوجة التي يتباطأ فيها النمو الاقتصادي بينما يستمر التضخم في الارتفاع.
ومحاولة البيت الأبيض تنفيذ تهديداته بفرض الرسوم الجمركية تبدو أشبه بمشهد كلب نجح أخيراً في الإمساك بسيارة، فهو سعيد بما حققه، لكنه غير مستعد لعواقب ذلك.