أحد أكبر الأسئلة التي تحيط بالاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي هي عما إذا كانت الحكومة تنفق كثيراً جداً من الأموال، ويحذّر بعض أبرز الاقتصاديين من أنه حان وقت الضغط على المكابح.
وجاءت حزمة الإغاثة من الوباء الخاصة بالرئيس جو بايدن، البالغة 1.9 تريليون دولار، بعد حزم مشابهة بقيمة 3.1 تريليون دولار في 2020. وحالياً يخطّط الرئيس لمبادرتين كبيرتين جديدتين على الأقلّ للإنفاق على البنية التحتية والوظائف.
تسارع التضخم
ويقلق بعض الاقتصاديين من أن هذا الإنفاق مُبالَغ فيه، ومن أن الضرائب الأعلى لن تغطي كل الإنفاق الجديد، وإذا ظلّ الأمر على هذا النحو واختار "الاحتياطي الفيدرالي" أن يُبقي على انخفاض أسعار الفائدة، فستكون النتيجة تسارع التضخم.
لكن قبل أن تشعر بالقلق الشديد، تَذكَّر أن الاقتصاد الكلي موضوع صعب، وحتى الخبراء يعرفون قليلاً فقط عن كيفية عمل الاقتصاد، لذا، في الوقت الذي يجب أن ننتبه فيه بالتأكيد لحدس الاقتصاديين في ما يتعلق بأشياء مثل الإنفاق الحكومي والتضخم والبطالة، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أيضاً أن تصريحاتهم بعيدة كل البعد عن أن تكون الكلمة النهائية.
ولننظر على سبيل المثال إلى سلسلة تغريدات حديثة من رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين السابق جيسون فورمان، التي أعلن فيها أن معظم الاقتصاديين الذين تحدث معهم يعتقدون أن حزمة إغاثة بايدن كانت كبيرة جداً، ناهيكم بالفواتير المستقبلية التي ستُستحقّ.
"لأكون واضحاً، فإن إحساسي قائم على التحدث مع خبراء الاقتصاد الكلي الأكاديميين الذين ليسوا جزءاً من الجدل في العاصمة، ويعتقد أكثر من 90% منهم أن خطة الإنقاذ الأمريكية كبيرة جداً، وأكثر من 70% منهم يعتقدون أن بنك الفيدرالي متساهل جدّاً حالياً"، حسب ما جاء في التغريدة.
توقعات غير مؤكَّدة
بالطبع هذا لا يمكن أن يكون إجماع جميع الاقتصاديين، بل ببساطة تفكير مجموعة مختارة من الاقتصاديين داخل فقاعة "فورمان"، ولكن لنفترض أن هذا هو الإجماع الحقيقي بين الأكاديميين، فهل يجب أن نقلق؟
دعونا نتحدث عن ذلك. أولاً، من المهمّ أن نفهم أنه على عكس المهندسين، أو حتى خبراء الأرصاد الجوية، لا يمتلك الاقتصاديون نظريات يمكنها توقُّع أشياء مثل التضخم أو البطالة بدرجة عالية من الموثوقية.
ويمكن لنماذج التنبؤ الأكاديمي الأكثر تعقيداً أن تعطي فقط صورة غامضة لما سيبدو عليه الاقتصاد بعد أفق مدته ثلاثة أشهر.
وحتى في هذه الحالة تميل إلى إعطاء صورة أدق بكثير من النماذج الأبسط التي يمكن لطالب جامعي أن يصنعها ويجرّبها في بضع دقائق، لذا، رغم أنه من الممكن نظرياً أن تتمكن تلك النماذج -التي لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل- من التنبؤ بتأثير السياسة الحكومية، فإن تنبؤاتها تكون غير مرجحة بقدر كبير.
إذاً لا يملك الاقتصاديون كرة بلورية، بل ما لديهم هو المعرفة المتراكمة من قضاء كثير من الوقت في بحث الإحصاءات الاقتصادية ودراسة التاريخ وقراءة الأخبار.
تفوُّق توقعات "الفيدرالي"
بالتالي، أياً كانت خوارزمية التعلم الآلي الموجودة داخل رؤوسهم والتي تولّد حدسهم، فإنها تتمتع بخبرة وبيانات أكثر بكثير من تلك التي يتمتع بها الشخص العادي، مما يسمح لهم بامتلاك رؤى أفضل بكثير.
ويوجَد بعض الأدلة على صحة هذا الأمر، على الأقلّ للاقتصاديين في الفيدرالي، وتشير عدة دراسات إلى أن توقعات "الفيدرالي" المعروفة باسم "غرين بوك" (Greenbook)، تتفوق على منهجيات التنبؤ الأخرى، وكذلك على الاقتصاديين في القطاع الخاص، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بالتضخم.
وقد يرجع هذا إلى تفوُّق حدس الاقتصاديين الفيدراليين أو -على الأرجح- لإمكانية وصولهم إلى البيانات أفضل من أي شخص آخر، وإذا كان هذا هو السبب فعلياً، فهذا يعني أن الأكاديميين، الذين يفتقرون إلى الوصول إلى بيانات الفيدرالي، لن تتفوق توقعاتهم.
أيضاً يمكننا إلقاء نظرة على لجنة خبراء الاقتصاد الأمريكي، التي تديرها مبادرة الأسواق العالمية في كلية "بوث" للأعمال بجامعة شيكاغو، وهي عبارة عن مسح منتظم يشارك فيه كبار الاقتصاديين الأكاديميين ويتضمن عديداً من الأسئلة المتعلقة بالسياسة.
وفي عام 2012، على سبيل المثال، رأينا أن الاقتصاديين عموماً لم يقلقوا كثيراً من أن تؤدّي الجولة الثالثة من التسهيل الكمي للاحتياطي الفيدرالي إلى تضخُّم كبير.
وفي الواقع فشل التضخم في الارتفاع وانخفضت الأسعار فعلياً.
تباين الآراء
لكن لاحظوا مدى عدم تأكد الاقتصاديين! وعلى الرغم من فشل جولتين سابقتين من التيسير الكمي بوضوح في إشعال فتيل التضخم، فإن أقلّ من نصف الاقتصاديين الذين شملهم الاستطلاع كانوا على استعداد للقول إن النتائج ستكون نفسها في عام 2021! لذا فإن حدس الاقتصاديين لا يحصل على الدرجات الكاملة هنا.
علاوة على ذلك، يغيّر الاقتصاديون أحياناً رأيهم بحسم في مسائل السياسة الأساسية، وفي عام 2013، وجد استطلاع مبادرة الأسواق العالمية أن 34% من كبار الاقتصاديين اعتقدوا أن الحد الأدنى للأجور الفيدرالية عند 9 دولارات من شأنه أن يقلّل بشدة نسبة العمالة بين ذوي الأجور المنخفضة.
ولكن بحلول عام 2015، اتفق 26% فقط على أن الحد الأدنى للأجور الذي يبلغ 15 دولاراً سيضرّ بشدة بالوظائف منخفضة الأجر، ثم بحلول عام 2020 وصل هذا الرقم إلى 40%!
ويُعَدّ الحدّ الأدنى للأجور إحدى القضايا الأساسية والكلاسيكية في السياسة الاقتصادية، وإذا كانت آراء الاقتصاديين حول هذا الموضوع تتغير على هذا النحو، فهذا يعني أن حدسهم السياسي ليس راسخا.
لذا، في حين أن من الجيد الحصول على أفكار من الاقتصاديين حول قضايا مثل إذا كان بايدن ينفق بشكلٍ مفرط أم لا، فمن المهم عدم اعتبارها أفكاراً مقدَّسة.
ويُعتبر الاقتصاد الكلي موضوعاً معقداً بطبيعته، لدرجة أنه حتى كبار الخبراء غالباً ما يكونون مثل الأعمى الذي يقود المكفوفين، وإذا كان فورمان محقاً بشأن إجماع الأكاديميين، فهذا يعني أن بايدن يجب أن يكون أكثر حذراً -ولكن قليلاً فقط- بشأن الإنفاق المتسبب في عجز.