
تواجه الدول التي يُشار إليها مراراً باعتبارها فائزة في الحرب التجارية الأولى تحديات صعبة. فاقتصادات جنوب شرق آسيا، التي يُنظر إليها عادة باعتبارها مستفيدة من تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، تواجه آفاقاً غير مستقرة. وستشهد المنطقة أداءً قوياً من بعض الدول، إذا تمكن أي طرف من الخروج من الصراع التجاري بوضع مقبول، لكنها ستضم أيضاً نصيبها من الدول المتعثرة. الأمر الواضح بشكل مؤسف، هو الإيمان بأن التدفق الحر نسبياً لتبادل السلع والخدمات تعرض لضربة قوية.
اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً تدابير أشمل وأوسع نطاقاً، مستهدفاً بها المكسيك وكندا. ومع ذلك، يُنظر إلى العلاقة بين الولايات المتحدة والصين في آسيا باعتبارها مؤشراً رئيسياً على مدى اهتمام أميركا بسلاسل التوريد الواسعة وأفضل المواقع لإقامتها. لكن المؤشرات لا تبدو مبشرة، إذ إن الزيادة البالغة 10% في الرسوم الجمركية على الواردات الصينية تُعد الأكبر على الإطلاق في عهد ترمب، وفقاً لتقديرات "نومورا" (Nomura). وبشكل عام، ارتفع متوسط الرسوم الجمركية الفعلية "بشكل طفيف" إلى 2.8% في عام 2020 من 1.5% في عام 2016، وفقاً لما ذكره اقتصاديون بالشركة في مذكرة يوم الإثنين.
تحديات الصمود والنمو في المنطقة
قدرة جنوب شرق آسيا على الصمود في وجه العاصفة التي أثارها ترمب سيلعب دوراً في تحديد ما إذا كانت المنطقة قادرة على الحفاظ على التحسن الكبير في مستويات المعيشة الذي شهدته خلال العقود الماضية. ورغم أن البيت الأبيض وافق في وقت متأخر من يوم الإثنين على تعليق الرسوم الجمركية المفروضة على المكسيك وكندا لمدة شهر، فإن الإدارة الجديدة تميل إلى اللجوء لمثل هذه التدابير ضد أي أمر تعتبره انتهاكاً أو تهديداً للمصالح الأميركية. وهذا يمثل احتمالاً مقلقاً لمنطقة تعتمد على الاستثمار الأجنبي والصادرات. فعلى سبيل المثال، هل ستتضرر ماليزيا إذا مُنعت طائرات الشحن الأميركية من الهبوط، أو إذا أخرت إحدى الحكومات المحلية الموافقة على إنشاء مركز بيانات تديره إحدى شركات التكنولوجيا الكبرى في الساحل الغربي للولايات المتحدة؟
اقرأ أيضاً: العجز التجاري الأميركي يتفاقم قبيل بدء حرب رسوم ترمب الجمركية
لم يعد النمو في المنطقة قريباً من المستويات القوية التي منحت بعض الدول لقب اقتصادات النمور خلال الثمانينيات والتسعينيات. فتايلندا، التي كانت ذات يوم مركزاً صناعياً مزدهراً، تعاني الآن من تباطؤ حاد في النمو، حتى أن "كابيتال إيكونوميكس" (Capital Economics) وصفتها مؤخراً بأنها "الرجل المريض الجديد في آسيا". أما ماليزيا، فرغم تحقيقها نمواً اقتصادياً جيداً، إلا أنه لا يرتقي إلى مستوى الدول الرائدة عالمياً. كما سجلت سنغافورة أداءً جيداً في عام 2024، لكن النمو تباطأ في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام. أما فيتنام، التي تحظى بالثناء باعتبارها قوة اقتصادية صاعدة، فهي تسعى إلى إصلاح بيروقراطيتها وتقليص حجم القطاع الحكومي بنسبة 20%، لكنها في الوقت ذاته تخشى أن يضعها فائضها التجاري الهائل مع الولايات المتحدة تحت ضغط واشنطن. ومن جانبها، لا تشعر إندونيسيا بالرضا عن معدل نموها البالغ 5%، لكنها تطمح بشكل غير واقعي إلى رفعه إلى 8%. وبشكل عام، سجلت المصانع في معظم أنحاء آسيا نمواً ضعيفاً خلال يناير.
تصاعد القلق بشأن النزاعات التجارية
قادة المنطقة لديهم أسباب وجيهة للحذر. فقد أخبر رئيس وزراء سنغافورة، لورانس وونغ، الصحفيين في نوفمبر بأن "التجارة تمثل ثلاثة أضعاف ناتجنا المحلي الإجمالي. نحن اقتصاد مفتوح. نحن اقتصاد يعتمد على التجارة. وسنشعر بالقلق في عالم يشهد المزيد والمزيد من التوترات". الرسالة هنا هي أن النزاعات التجارية، بغض النظر عن مدتها أو حدتها، تضر في النهاية بالنتائج الاقتصادية المرجوة.
اقرأ أيضاً: ترمب يرث اقتصاداً مواتياً للإيفاء بوعد إطلاق حقبة ذهبية
في بعض النواحي، لا تقل الأجواء العامة التي تبعثها واشنطن أهمية عن التفاصيل المتعلقة بالرسوم الجمركية. فإذا كان من الممكن فرض رسوم بنسبة 25% على المكسيك وكندا في غضون أسابيع من عودة ترمب إلى المكتب البيضاوي، فماذا يعني ذلك بالنسبة لآفاق التكامل التجاري في أماكن أخرى؟
أشير هنا تحديداً إلى الشريكين في أميركا الشمالية لأنهما، إلى جانب الولايات المتحدة، وقعا على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية في أوائل التسعينيات. وخلال الولاية الأولى لترمب، أُعيدت صياغة الاتفاقية في صفقة وصفها الرئيس بأنها "اتفاقية نموذجية". ومع ذلك، فإن طريقة تعامله مع أوتاوا ومكسيكو سيتي هذه المرة تقلل فعلياً من شأن هذا الاتفاق. ومن الصعب تصور أن أي اتفاق تجاري شبه شامل مع الصين سيحظى بمعاملة أفضل.
تداعيات طويلة الأمد للحرب التجارية
عندما بدأ ترمب معاركه التجارية خلال ولايته الأولى في البيت الأبيض، كانت اقتصادات جنوب شرق آسيا في وضع جيد. وكان يُنظر إلى الأضرار على أنها محدودة، بل وربما تكون مفيدة، اعتماداً على مدى استعداد الشركات للتحوط ضد رهاناتها على الصين وتنويع مواقع إنتاجها. لكن تحقيق ذلك على نحو صحيح لم يكن سهلاً، فقد استفادت المنطقة من تعميق علاقاتها مع بكين، بينما تمتعت الشركات الأميركية بمكانة راسخة. كما أن العديد من الدول كانت تربطها علاقات ودية مع الولايات المتحدة، وكان لبعضها روابط سياسية ودفاعية وثيقة مع واشنطن. وبينما لم يكن من الممكن النظر إليها باعتبارها مستفيدة من الرغبة في الانفصال عن الصين، إلا أنها لم تتجاهل أيضاً فرص الاستثمار الجادة القادمة من التكتلات الغربية.
اقرأ أيضاً: حرب التجارة بين أميركا والصين تهدد طفرة الطاقة الشمسية بجنوب شرق آسيا
ربما تحاول الدول تجنب الأضواء، لكن من الصعب البقاء بعيداً عن الأنظار لمدة أربعة أعوام. وربما لا تكمن الأهمية الكبرى فيما يحدث لدول معينة أو حتى صناعات محددة، بل في الأضرار الجانبية التي تؤثر على مكانة الاتفاقيات التجارية والمبادئ التي ترتكز عليها. فقد تعرضت التجارة الحرة، أو التجارة غير المقيدة نسبياً، لضربة فلسفية. وهذه ليست نهاية العولمة، لكنها بلا شك فصل جديد مليء بالتحديات. عندما كنت صحفياً شاباً في سيدني، وأفكر في أول فرصة لي لمهمة خارجية في كوالالمبور عام 1996، قال لي معظم من استشرتهم شيئاً مثل: فقط اذهب إلى هناك واكتشف الأمر بنفسك، لا يمكنك أن تخسر لأن في آسيا يكمن النمو.
تبدو هذه المرحلة أكثر تهديداً، وستتمكن جنوب شرق آسيا من تجاوزها، لكنها لن تخرج منها سالمة. فالحروب التجارية تُخاض من أجل الصمود، أما الازدهار فهو مسألة مختلفة تماماً.