
إن غرينلاند واحدة من مناطق قليلة جداً في العالم التي تعتبر أحياناً التغير المناخي فرصةً، فهو سيزيد إنتاجية الجزيرة لسكانها، ويسهّل وصول الزوار إليها. وهذا أمر لم يفت قادة دول أخرى، فمع فقدان الجزيرة لحجابها الطبيعي الذي كان يوفره الجليد البحري، نجد العالم يطرق بابها اليوم.
لكن المشهد ليس وردياً بالكامل. فبرغم أن احترار كوكب الأرض قد يفتح آفاقاً اقتصادية جديدة لسكان غرينلاند، وعددهم 57 ألفاً، عبر مشاريع التعدين أو الشحن أو السياحة، إلا أنهم سيواجهون خطر فقدان إرثهم، إلى جانب مخاطر جديدة تتعلق بالطقس.
اقرأ أيضاً: ترمب يريد ضم غرينلاند إلى أميركا.. حسابات الربح والخسارة لجزيرة الجليد الدنماركية
تغير حياة السكان الأصليين
يُعد القطب الشمالي المؤشر الرئيسي لتتبع التغيرات المناخية، نظراً لوقوعه على الخطوط الأمامية لأزمة المناخ. فقد ارتفعت درجات الحرارة فيه بسرعة تقارب أربعة أضعاف المتوسط العالمي بين 1979 و2021.
في كل عام، يتوجه علماء إلى الغطاء الجليدي الشاسع في غرينلاند حاملين أجهزة قياس دقيقة لرصد التغيرات. لكن الإنويت، أي السكان الأصليين الذين يشكلون غالبية سكان الجزيرة، لا يحتاجون إلى كل تلك الأجهزة المتطورة؛ فقد شاهدوا هذه التحولات بأم أعينهم.
أخبرني بيلي تيزجنر، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة غرينلاند "إليسيماتوسرفيك" (Ilisimatusarfik) أن الإنويت لاحظوا اشتداداً في قوة الرياح، وهي تعيق تكوّن الجليد البحري. إذ اعتاد شعب غرينلاند على مدى قرون على التنقل بواسطة زلاجات تجرها كلاب من أجل صيد الأسماك والحيوانات، لكن هذا التقليد مهدد بالزوال في غضون جيل، بسبب تراجع سماكة الجليد وتقلبات الطقس.
في إقليم يكاد يخلو من الطرق، يهدد تغير المناخ بعزل المجتمعات التي تعيش في مناطق نائية، فيما ينذر تراجع الصيد الذي يتكلون عليه للبقاء بتداعيات على الأمن الغذائي، بما أن 32% من السكان يجمعون نصف غذائهم أو أكثر من البيئة الطبيعية، وفقاً لاستطلاع أُعد بين 2018 و2019.
مع ذلك، قد تكون خسارة التقاليد التحدي الأشد وطأة. فالإرث، سواء كان معنوياً أو مادياً، يرتبط ارتباطاً وثيقاً برفاه الإنسان والتماسك الاجتماعي، وهما قيمتان تتراجعان في ظل التحولات التي يشهدها القطب الشمالي.
تبعات كل ذلك بدأت تتجلى، ويمكن ملاحظتها من تراجع أعداد الكلاب التي تجر الزلاجات، وانتقال الناس للعمل في وظائف عصرية، متخلين عن أسلوب حياتهم التقليدي القائم على الترزق. ربما هذا ليس سيئاً، لكن بعدما عانى السكان الأصليون كثيراً على يد الاستعمار الدنماركي، فإن ما يحدث لطمة جديدة لهوية السكان الأصليين وثقافتهم في المنطقة.
معادن ثمينة وموقع استراتيجي
اعتبر نصف من شملهم "استطلاع آراء سكان غرينلاند" أن تغير المناخ سيضر سكان الإقليم ذاتي الحكم. لكن، أشار كثير منهم إلى أن التغير المناخي قد يعود بالفائدة على الزراعة والسياحة والشحن والتعدين. ولدى سؤال بعضهم عن كيفية تأثير الطقس الأدفأ على حياتهم وحياة أسرهم، اختصروا الفوائد المحتملة بأشياء من قبيل "بطاطا أكبر"، و"أسماك أكثر"، و"فرص تجارية أوسع".
بالفعل، قد يحمل التغير المناخي بعض الإيجابيات للجزيرة، فارتفاع درجات الحرارة وانحسار الجليد، سيسهلان الوصول إلى المعادن الثمينة، ويطيلان موسم الزراعة في جنوب الجزيرة، ويجلبان أنواعاً جديدة من الأسماك إلى مياه الإقليم، كما يعدان بفتح طرق تجارية جديدة وإطالة الموسم السياحي.
إن غنى الجزيرة بالمعادن وموقعها الاستراتيجي محور دافع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليجدد إعلان رغبته في شراء الجزيرة. بعد ذلك التصريح، توجّه ابنه في زيارة إلى مدينة نوك، عاصمة غرينلاند، وكذلك سيل من مؤيدي ترمب يعتمرون قبعاتهم الحمراء التي تحمل شعار "لنعد لأميركا عظمتها". إلا أن كلاً من رئيس وزراء الدنمارك ورئيس وزراء غرينلاند أكّدا أن الجزيرة ليست للبيع.
اقرأ أيضاً: هل حلم ترمب بشراء غرينلاند قابل للتحقيق؟
لكن حتى هذه الفوائد تهددها تقلبات الطقس. فأيام فصل الصيف تتقلب بين أمطار غزيرة وجفاف شديد، ما يلقي بثقله على النشاط الزراعي في المنطقة. هكذا، وجد المزارعون أنفسهم إما مفتقرين لتبنٍ لإطعام حيواناتهم في الشتاء، أو محاطين بمحاصيل تغلغلت فيها الرطوبة. وعلى عكس التوقعات، تراجع عدد المزارع خلال السنوات الماضية.
حتى صيد الأسماك الذي يؤمّن أكثر من 80% من إيرادات صادرات الإقليم واجه عثرات هو الآخر، مع اتجاه أنواع أسماك جديدة نحو الشمال نتيجة ازدياد دفء المياه.
السياحة سيف ذو حدين
بالإضافة إلى البحر العاصف، يتسبب انحسار الأنهار الجليدية بتدفق الطين الذي يُعرف بـ"مسحوق الصخور الجليدية" الغني بالمواد الغذائية. هذا الطين قد يكون مفيداً، فيجوز استخدامه سماداً للمحاصيل الزراعية، ويساعد على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، ولكنه قد يحجب رؤية صيادي الأسماك، ويدفع بالسمك نحو مياه أعمق لا تصلها شباك الصيد. وكان ذلك قد تسبب بمشكلات في 2023 حين علقت سفينة سياحية فاخرة بالطين عند الساحل الشرقي للجزيرة لثلاثة أيام.
اقرأ أيضاً: شراء غرينلاند بسبب المعادن الحرجة.. حماقة "ترمبية" جديدة؟
تُعد السياحة مصدراً واعداً لزيادة إيرادات سكان غرينلاند، لكنها سيف ذو حدين. فيما يتيح التغير المناخي زيارة الجزيرة لمزيد من الناس، فإن السياح الذين يصلون على متن السفن السياحية أو الرحلات الدولية إلى المطار الذي وُسع منذ فترة وجيزة، سيتسببون في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، التي تفاقم المشكلة.
أشار بيرير بوبل، رئيس مشروع دراسة ظروف الحياة في القطب الشمالي في جامعة غرينلاند (إليسيماتوسرفيك)، إلى أن تأثيرات تغير المناخ على نمط حياة الإنويت التقليدي قد يحدّ من جاذبية الجزيرة للسياح.
مثلاً، تُعد الزلاجات التي تجرها الكلاب أحد أبرز الأنشطة على موقع السياحة الرسمي لغرينلاند، لكن كما أسلفت، تسبب التغير المناخي بتراجع سماكة الجليد وعدم استقراره لفترات أطول من فصل الشتاء، ما يحدّ من أنشطة السياحة والصيد باستخدام زلاجات تجرها كلاب.
المناخ ليس وحده الذي يتغير على الجزيرة. فمع اقتراب الانتخابات في العام المقبل، يسود نقاش في أوساط سكان غرينلاند حيال استقلال الجزيرة وعلاقتها المستقبلية بالقوى الكبرى. لكن السؤال الأجدى قد لا يكون "هل التغير المناخي فرصة؟" بل "من نحن في ظلّ التغير المناخي؟".