عندما تولى ميشيل بارنييه، السياسي اليميني الوسطي البالغ من العمر 73 عاماً، منصب رئيس وزراء فرنسا في سبتمبر، لم يتوقع الكثيرون أن الرجل الذي حافظ على وحدة الاتحاد الأوروبي خلال أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، سيجد نفسه أمام إمكانية الإطاحة بحكومته بحلول عيد الميلاد.
لكن هذا السيناريو أصبح قريباً من التحقق الآن، إذ يبدو أن تعهد زعيمة أقصى اليمين مارين لوبان بإسقاط حكومة بارنييه بسبب خطة ميزانية تقشفية أثارت استياء متزايداً بين الناخبين، ليس مجرد تهديد. ورغم تقديم بارنييه تنازلات بقيمة مليارات اليوروهات شملت تخفيض ضرائب الكهرباء وحتى تقليص تعويضات الأدوية، صعدت لوبان من معارضتها تدريجياً إلى موقف أكثر تشدداً. وأكدت دعمها لاقتراح بحجب الثقة عن الحكومة، مستندة إلى "خطوط حمراء" حددتها ضد سياسات التقشف، من شأنها أن تعرقل عمل أي حكومة مقبلة.
وحذر اقتصاديون في "سيتي غروب" الأسبوع الماضي من أن "أي حكومة فرنسية لن تتمتع بأي مساحة سياسية حتى خريف العام المقبل على الأقل".
اقتصاد تحت ضغط
هذا الوضع يمثل أزمة غير مسبوقة وفوضى واضحة لثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. باستثناء حدوث معجزة في عيد الميلاد، مثل تغيير موقف الكتلة اليسارية المناهضة لبارنييه بشكل علني، تواجه فرنسا خطر دخول العام الجديد دون ميزانية معتمدة أو حكومة عاملة.
ورغم أن الرئيس إيمانويل ماكرون يمتلك أدوات مؤسسية للتخفيف من حدة الأزمة، مثل اللجوء إلى ميزانية مؤقتة أو تعيين رئيس وزراء جديد أو مؤقت، إلا أن الضغوط على الأسواق المالية ستتفاقم مع استمرار الجمود السياسي وارتفاع مستويات الدين والعجز.
وبينما قد تستفيد بعض الفئات، مثل المتقاعدين، من تأجيل خطط التقشف، تشير تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى أن تأخير التعديلات المالية اللازمة قد يفاقم مستويات الدين العام بشكل كبير، لتتجاوز 120% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، مقارنة بالمستوى الحالي البالغ نحو 112%.
فرنسا ليست اليونان أو إيطاليا
مع ذلك، لا يمكن القول إن فرنسا تقف على حافة أزمة شبيهة بما حدث في اليونان، أو الوضع الذي عاشته إيطاليا خلال حكم حركة "النجوم الخمسة". فالبلاد تمتلك مؤسسات قوية، وتحظى بدعم شركائها الأوروبيين، كما تبلغ ثروتها الوطنية 20.1 تريليون يورو (21 تريليون دولار)، أو ما يعادل 686% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لمحللي "ستاندرد آند بورز" الأسبوع الماضي.
ومن المتوقع أن يخفف البنك المركزي الأوروبي من حدة الضغوط من خلال سياسة التيسير النقدي. ومع ذلك، يبقى مستوى عدم اليقين مرتفعاً، كما أن الآثار السلبية تتزايد على الاقتصاد، وهو ما يظهر في الفارق المتزايد بين عائدات السندات الفرنسية والألمانية، بالإضافة إلى استحقاق ديون حكومية فرنسية بقيمة 350 مليار يورو العام المقبل. هذا التدهور في ثقة الأسواق قد يؤدي إلى تأجيل قرارات الاستثمار، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وإعاقة النمو الاقتصادي بشكل عام.
إخفاق النخبة السياسية الفرنسية
هذا الوضع يعكس فشل النخبة الفرنسية في التصدي لمشكلة عدم استدامة المالية العامة، وهو تحدٍ يتطلب، من الناحية النظرية، توفير 110 مليارات يورو بحلول عام 2027، مع نهاية الولاية الثانية لماكرون.
ورغم تكرار كلمة "أزمة"، إلا أنها بدت أقرب إلى مناورة شكلية من كونها كلمة حقيقية حتى هذه اللحظة. فقد عجزت الأحزاب السياسية، من مختلف التيارات بين اليسار واليمين، التي لا يتمتع أي منها بأغلبية كافية للحكم بمفرده، عن تحقيق توافق سياسي بعد الانتخابات المبكرة التي جرت هذا الصيف. وبدلاً من العمل بشكل جماعي، ركزت الأحزاب على تقليص ميزانية بارنييه لتحقيق مكاسب سياسية.
وبهذا الصدد، دعت الأحزاب من أقصى اليمين واليسار، إلى التراجع عن إصلاحات المعاشات التقاعدية، في بلد يُخصص حوالي 14% من ناتجه المحلي الإجمالي لصناديق التقاعد. ويبدو أن بارنييه، رغم خبرته الواسعة خلال مفاوضات "بريكست"، قد بالغ في تقدير قوة موقفه السياسي.
مراهنة على الفوضى
من جهتها، تخلت لوبان بشكل مثير للقلق عن استراتيجية التطبيع التي اتبعها حزبها، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح ناخبيها. وتراهن لوبان على أن أي أزمة ستسرع برحيل ماكرون، مما يعزز فرصها الانتخابية قبل صدور حكم قضائي محتمل ضدها بشأن مزاعم إساءة استخدام أموال الاتحاد الأوروبي.
تقول كاثرين فيشي، مؤلفة كتاب "الشعبوية"، إن "الفوضى أصبحت بمثابة عملة سياسية بحد ذاتها". ومع ذلك، فإن نجاح هذه الاستراتيجية ليس مضموناً، حيث أظهرت بيانات صدرت يوم الإثنين عن استطلاع رأي أجراه "إيبسوس" (Ipsos) أن الثقة العامة في الأحزاب السياسية تهاوت إلى 14% بعد أن كانت 18% خلال العامين الماضيين.
ومع ذلك، لا يزال حزب التجمع الوطني بزعامة لوبان يتمتع بأعلى نسبة تأييد بين الأحزاب الرئيسية، حيث يحظى بدعم 37% من الناخبين.
في أوج أزمة "بريكست"، كان قادة بريطانيا يرددون أن "عدم التوصل إلى صفقة أفضل من صفقة سيئة". ويبدو أن شعوراً مماثلاً يسيطر الآن على فرنسا، حيث يسود اعتقاد بأن عدم اعتماد ميزانية أفضل من اعتماد ميزانية سيئة.
لكن هذا الاعتقاد مضلل. ففي ظل وجود فرصة لتجنب الانزلاق نحو المجهول بسبب "الخطوط الحمراء" التي وضعتها لوبان بقيمة 3 مليارات يورو تقريباً، ينبغي على فرنسا اغتنامها. وإن لم تفعل، فإن الجانب المشرق الوحيد للأزمة المقبلة قد يكون إدراك الواقع تماماً.