انهيار الحكومة الائتلافية المكونة من ثلاثة أحزاب، غير المحبوبة بشكل عميق وغير المتكاملة في ألمانيا، يمنح أكبر اقتصاد في أوروبا فرصة للتجديد السياسي والاقتصادي. يطرح هذا الوضع سؤالين مهمين: هل ستضع ألمانيا خلافاتها السياسية جانباً وتستغل هذه الفرصة الذهبية؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماذا يمكن ويجب عليها أن تفعل؟.
أولويات الحكومة المقبلة
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، لست واثقاً تماماً. أما بالنسبة للنقطة الثانية، فلا يوجد نقص في الأفكار الجريئة والمعقولة، ومن أبرزها إصلاح "سقف الديون" في ألمانيا لتمويل الاستثمارات ووقف هجرة رأس المال وتمويل الجيش بشكل صحيح، وهي أمور يجب البدء بها.
يتوقع أن يصبح فريدريش ميرتس، زعيم المعارضة المحافظة، المستشار القادم لألمانيا، ومع ذلك فإن تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي/ الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري يحصل حالياً على نسبة تأييد تقارب 32% في استطلاعات الرأي ولا يستطيع الحكم بمفرده.
مع تزايد انقسام المشهد السياسي في ألمانيا، بداية بسبب صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، ومؤخراً حزب "تحالف سارة فاغنكنشت" اليساري المتطرف والمعادي للهجرة، أصبح تشكيل ائتلاف حاكم في ألمانيا أمراً معقداً للغاية.
ميرتس، المعروف بدعمه لقطاع الأعمال وتوجهه الأطلسي، وبمزاجه الحاد، يستبعد تماماً تشكيل حكومة مع حزب "البديل من أجل ألمانيا". في هذه الأثناء، يواجه الحزب الديمقراطي الحر المؤيد لقطاع الأعمال والمستثمرين تراجعاً كبيراً في استطلاعات الرأي، مما قد يجعله دون الحصول على نسبة 5% اللازمة لدخول البرلمان.
في ظل الأوضاع الحالية، يرجح أن تكون الحكومة المقبلة في ألمانيا عبارة عن ائتلاف آخر من "رفاق غير مريحين"، حيث سيقود المحافظون الحكومة إما بالتعاون مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي أو مع حزب الخضر من بين الاحتمالات.
بعد الاضطرابات السياسية المرهقة خلال السنوات الثلاث الماضية، لن ألوم الناخبين على خوفهم من العودة إلى نفس النقاشات المملة وغياب التوافق السياسي.
ميرتس مدرك تماماً للتهديدات التي تواجه الاقتصاد ورفاهية الشعب في ألمانيا، ولكنني أخشى أن العديد من الناخبين قد لا يدركون تماماً مدى عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تواجه البلاد.
من السهل على البعض النظر إلى مشكلات الاقتصاد الألماني على أنها دورية، بينما في الواقع هي هيكلية، مما يجعل حلها صعباً.
توافر عوامل تشمل ضعف نمو الإنتاج وتدهور البنية التحتية، وشيخوخة القوى العاملة، يعني أن الناتج الاقتصادي معرض للركود لسنوات قادمة. في الوقت نفسه، تواجه الصناعات التقليدية في ألمانيا، وخاصة شركات السيارات، تهديدات كبيرة في تنافسيتها.
فشركة "فولكس واجن"، التي طالما كانت تعطي الأولوية للحفاظ على الوظائف على حساب الأرباح، تفكر الآن في إغلاق مصانعها في ألمانيا.
تسود مخاوف من خطر الدخول في حلقة مفرغة، إذ يؤدي النمو الضعيف وهروب رأس المال إلى انخفاض الإيرادات الضريبية، الأمر الذي يدفع بدوره إلى نشوب خلافات حول كيفية تقسيم الموارد، كما رأينا مراراً عند محاولة ألمانيا إقرار الموازنة.
الاقتراض في ألمانيا منخفض
في دول أخرى، يكون الحل واضحاً، وهو اقتراض المزيد من الأموال لتمويل الاستثمارات. لكن هذا الأسلوب غير ممكن في ألمانيا بسبب "سقف الدين" الذي يقضي بألا تزيد الديون الجديدة عن 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، "على الرغم من وجود بعض المرونة المحدودة في حالات الطوارئ والحفاظ على دورة الاقتصاد".
تقييد الحصول على ديون أمر غير مبرر بالنظر إلى أن الاقتراض في ألمانيا منخفض حسب المعايير الدولية. لذا، فإن مناشدتي الأولى لحكومة ألمانيا القادمة بسيطة: من فضلكم، عليكم بإصلاح سياسة سقف الديون وتعديلها لتكون أكثر مرونة.
رغم أن المحافظين، بقيادة ميرتس، متمسكون بوضع ميزانيات تتسم بالتوازن، إلا أن زعيم الحزب أبدى مؤخراً مرونة طفيفة إزاء مراجعة سياسة سقف الدين (مع الاستمرار في الإصرار على أن تبذل ألمانيا مزيداً من الجهد للسيطرة للإنفاق على الرفاه الاجتماعي).
صندوق تعزيز الاستثمار المحلي
اقترح وزير الاقتصاد روبرت هابيك إنشاء صندوق لتعزيز الاستثمار المحلي من خلال منح الشركات دعماً بنسبة 10% من إجمالي استثماراتها. ورغم أن فكرة هابيك تستحق الدراسة، إلا أنها تتطلب موارد مالية كبيرة.
من شأن تخفيف سقف الديون أيضاً تحديث قدرات الجيش الألماني بسهولة، مما يضمن قدرته على الدفاع عن نفسه بشكل مناسب ودعم أوكرانيا.
في حين ستفي برلين هذا العام بالتزاماتها تجاه حلف شمال الأطلسي بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على جيشها لأول مرة منذ عقود، فإن رئاسة دونالد ترمب الثانية تزيد من ضرورة قيام ألمانيا بالوفاء بمسؤولياتها.
حال إصرار ميرتس في الإبقاء على سقف الاقتراض، توجد وسائل أخرى لتعبئة رأس المال. وكما قلت سابقاً، فإن الألمان يقوضون اقتصادهم وازدهار القطاع الخاص لديهم من خلال وضع مدخرات بمليارات في حسابات مصرفية منخفضة العائد.
في حين كان وزير المالية المقال مؤخراً كريستيان ليندنر يشكل مصدر إزعاج بالنسبة للائتلاف الحاكم، فإن أفكاره الرامية إلى تعزيز ثقافة الملكية في الأسهم وإصلاح نظام التقاعد القائم على الدفع حسب الاستخدام في البلاد كانت منعشة ولا ينبغي تجاهلها.
من حسن الحظ أن ميرتس، المحامي السابق للشركات ورئيس مجلس الإشراف لدى شركة "بلاك روك أسيت مانجمنت" في ألمانيا، لديه معرفة وخبرة قوية في أسواق رأس المال.
ينبغي على الحكومة المقبلة تخفيف اللوائح المتعلقة بقطاع الإسكان لتعزيز البناء، حيث تحتاج ألمانيا إلى 400 ألف منزل جديد سنوياً، ومع ذلك، لا يزال حوالي نصف السكان غير قادرين على دخول سوق الإسكان.
مضاعفة دعم الشركات الناشئة
كما يجب على برلين مضاعفة دعمها للشركات الناشئة، حيث لا يزال قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، المعروف باسم "ميتيلشتاند"، العمود الفقري للابتكار في ألمانيا، لكن عدد الشركات الناشئة الجديدة منخفض بشكل صادم.
أخيراً، يجب على الحكومة الجديدة إعادة تقييم سياسة الطاقة. ففي إحدى أكثر الخطوات التي تهدم الذات بعد إعادة توحيد ألمانيا، مضت الحكومة الائتلافية المكونة من ثلاثة أحزاب في إغلاق آخر ثلاث محطات طاقة نووية خلال 2023، رغم تفاقم أزمة المناخ وفقدان واردات الغاز بسبب غزو روسيا لأوكرانيا.
قد يكون من الصعب من الناحية الفنية والسياسية إعادة تشغيل تلك المحطات، لكن إذا قررت ألمانيا القيام بذلك، فيعني أنها تجاوزت مرحلة الخوف من اتخاذ القرارات الصعبة وأنها لم تعد تقبل التنازلات غير الجادة.
ملخص
يشير المقال إلى أن انهيار الحكومة الائتلافية في ألمانيا يوفر فرصة للتجديد السياسي والاقتصادي، خاصة مع توقعات تولي فريدريش ميرتس رئاسة الحكومة. يواجه الاقتصاد الألماني تحديات هيكلية مثل ضعف النمو وتدهور البنية التحتية، وشيخوخة القوى العاملة، وتراجع تنافسية الصناعات التقليدية. يقترح الكاتب إصلاح "سقف الديون" لتمويل الاستثمارات الضرورية في البنية التحتية والدفاع، خاصة مع تصاعد التهديدات الدولية، ويشدد على أهمية تحديث الجيش ليتماشى مع الالتزامات تجاه حلف الناتو.
بالإضافة إلى ذلك، ينادي الكاتب بتخفيف اللوائح لزيادة بناء المنازل وتعزيز الشركات الناشئة ودعم قطاع "ميتيلشتاند" كركيزة للابتكار. أخيراً، يدعو الكاتب إلى إعادة تقييم سياسة الطاقة، ويقترح إعادة تشغيل محطات الطاقة النووية التي أغلقت حديثاً، بما يعكس استعداد ألمانيا لاتخاذ قرارات صعبة لمواجهة التحديات الاقتصادية والمناخية.