تبدو ألمانيا الحالة الأكثر بروزاً من بين "الاقتصادات المريضة" في أوروبا التي تعاني دولها تدهوراً اقتصادياً بدرجات متفاوتة، وهو الأمر الذي يتجلى في شركة "فولكس واجن". ومع ذلك تمتلك ألمانيا أفضل الفرص للتعافي الذاتي، شريطة أن تدرك أن إخفاقاتها ترتبط بالسياسات المالية بقدر ارتباطها بالعوامل الصناعية.
تتعرض الصناعة الألمانية، التي تمثل نحو خُمس الناتج الاقتصادي، لعاصفة عاتية من التحديات التنافسية. تواجه شركات رئيسية منافسة عالمية أكثر شراسة، وتكاليف طاقة مرتفعة، ونقصاً في الابتكار، إذ تخطط "فولكس واجن"، وهي أكبر مؤسسة توظف العمالة في البلاد، لإغلاق مصانعها في ألمانيا لأول مرة، فيما يستحوذ مستثمرون من أبوظبي على شركة "كوفيسترو" (Covestro AG)، وهي أحد الكنوز بقطاع الكيمياويات، بعد عامين متتاليين من الخسائر. أما محاولات إعادة توطين تقنيات حيوية مثل أشباه الموصلات والبطاريات، بفضل سياسات صناعية طموحة ودعم حكومي كبير، فتعترضها عقبات تواجه شركات كبرى من "إنتل" إلى "نورثفولت" (Northvolt AB).
ألمانيا نموذج لبقية أوروبا
هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة. فعلى الرغم من نجاح ألمانيا في تخطي أزمة اليورو، ووضع سياسات شكّلت نموذجاً لبقية المنطقة، إلا أن اقتصادها الضعيف الآن يعاني تناقضاً واضحاً مع اقتصادات كانت متعثرة سابقاً، مثل إيطاليا وإسبانيا منذ عام 2019، كما يظهر في الرسم البياني أعلاه. هذا الأداء المتواضع لليورو يعيد إلى الأذهان منتصف العقد الأول من الألفية حين كانت ألمانيا تعاني اقتصادياً، وإن كان معدل البطالة اليوم أقل مما كان عليه آنذاك. في ظل معاناة فرنسا، وهي الشريك التاريخي لألمانيا في قيادة أوروبا، من تداعيات عجزها المتزايد في الميزانية، يبدو أن القارة قد تواجه تحديات صعبة، خاصة إذا عاد دونالد ترمب إلى الرئاسة مجدداً.
على عكس فرنسا، تمتلك ألمانيا خياراً بين أزمة أعمق أو علاج حقيقي. فالدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا أقل مما لدى نظرائها، وتكاليف الاقتراض منخفضة، والادخار مرتفع، مما يعني أنه من المتوقع أن يعوّض الإنفاق المحلي الركود، ويحفز النمو مع تراجع ركائز النموذج الألماني القائم على التصدير، من الغاز الروسي إلى التجارة مع الصين.
لكن الاستهلاك والاستثمار الخاص في ألمانيا أقل مما كان عليه قبل الجائحة، على عكس بقية منطقة اليورو والولايات المتحدة، حيث أن مشتريات الأميركيين حالياً من السيارات والثلاجات وأجهزة التلفزيون والأطعمة تزيد بـ20% مقارنة بعام 2019، وفقاً لكريستيان شولتس، اقتصادي في "سيتي غروب"، والسبب ليس محصوراً في تأثير ارتفاع أسعار الفائدة؛ بل إن الاستثمار العام الألماني يتراجع أيضاً، وكان ضعيفاً خلال الفترة بين 1995 و2023 بسبب التفسير الصارم لما يُعرف بـ"كابح الديون" الدستوري، الذي يحد من الاقتراض الصافي السنوي الجديد. يُعد هذا ألماً تفرضه ألمانيا على نفسها: فبينما تدفع فرنسا ثمن إسرافها المالي، تدفع ألمانيا ثمن تقشفها المالي.
فيما تحاول الائتلافات الحاكمة المتعثرة في ألمانيا البحث عن حلول، ينبغي أن يصاحب الحديث عن الإصلاحات الجذرية مناقشة الاستثمار والإنفاق وتخفيف كابح الديون (الذي لا يمكن تغييره إلا بدعم ثلثي أعضاء البرلمان). قد تكون الوصفة القديمة التي تعتمد على خفض تكاليف العمالة والاعتماد على الصادرات لدفع النمو فعّالة في عام 2005، لكنها غير كافية في هذه المرة. فالصين تتحول بشكل متزايد إلى منافس شرس في مجالات مثل السيارات والآلات. كما قد تُضيف إدارة ترمب، إن عادت، المزيد من الحواجز التجارية.
تعزيز الاستثمار المحلي وخفض التكاليف
في المقابل، يمكن أن يؤدي تعزيز الاستثمار المحلي إلى خفض التكاليف للمستثمرين وتحسين الإنتاجية. وإذا أضفنا إلى ذلك احتياجات التحول في الطاقة والابتكار والدفاع، التي قد تتطلب 2.8 تريليون دولار من الإنفاق الإضافي للدول الأوروبية، يتضح أن إعادة إنعاش الاقتصاد ستجلب فوائد جمة. يقول نيلس ريديكر، نائب مدير مركز "جاك ديلور"، إن ألمانيا جزء من مشكلة النمو في أوروبا، ويجب أن تكون جزءاً من الحل أيضاً.
من الواضح أن هذا الطريق طويل وصعب أمام الائتلاف الحالي. لكن العام المقبل يشهد انتخابات في ألمانيا، ويتساءل دبلوماسيون في عدة دول أوروبية بصمت عمّا إذا كان المرشح الأوفر حظاً، فريدريش ميرتس، زعيم المعارضة المحافظة، سيواجه أزمة عميقة بما يكفي لكسر المحظورات القديمة.
ميرتس، الذي شغل سابقاً منصباً تنفيذياً في "بلاك روك"، قد يغير الأفكار الألمانية بشأن الثروة، بحسب رأي زميلي كريس براينت، وقد لا يكون أمام ائتلافه المستقبلي خيار سوى إعادة النظر في الأفكار المتعلقة بالإنفاق أيضاً. من المرجح أن يكون ذلك مصحوباً بخطاب من نوع "ألمانيا أولاً" بدلاً من شعار ماريو دراغي "لنجعل أوروبا عظيمة مجدداً". لكن في الوقت الحالي، أي طريق ألماني نحو التعافي أفضل من طريق اليورو الذي لا يؤدي إلى شيء.
باختصار
تواجه ألمانيا تحديات اقتصادية كبيرة تجعلها أبرز "الاقتصادات المريضة" في أوروبا، وذلك بسبب مشاكل في الصناعة، وتكاليف الطاقة المرتفعة، والتنافس الشرس عالمياً، مما يهدد استقرار شركات رئيسية مثل "فولكس واجن" و"كوفيسترو". ومع أن ألمانيا تمتلك إمكانيات للتعافي بفضل مستويات ديون منخفضة ومدخرات مرتفعة، إلا أن قيود السياسة المالية، مثل كابح الديون الدستوري، تعرقل استثمارها في الاقتصاد المحلي.
التحدي أمام ألمانيا يكمن في التحول من نموذجها التقليدي القائم على التصدير نحو تعزيز الاستهلاك والاستثمار المحلي، خاصة مع التغيرات الجيوسياسية، بما في ذلك العلاقات المتوترة مع الصين والمخاوف من سياسات أميركية أكثر صرامة في حالة عودة ترمب للرئاسة. ومع اقتراب الانتخابات المقبلة، قد يشكل الزعيم المعارض فريدريش ميرتس تغييراً في التوجهات الألمانية نحو سياسات أكثر دعماً للاقتصاد الداخلي.