ا تُبنى العواصم في يوم وليلة، بل تتطور ببطء على مدى عقود وربما قرون قبل أن تقترب من حلم مبتكريها، إن وصلت إلى ذلك أصلاً. واكتشفت إندونيسيا أن مثل هذه المساعي الضخمة تتطلب جهوداً هائلة وتواجه تأخيرات متكررة، وغالباً ما يتدخل الاقتصاد بشكل مزعج ليفرض قيوداً على كل شيء.
تراجعت الضجة المحيطة بمدينة نوسانتارا، المركز الإداري الذي تبلغ تكلفته 30 مليار دولار، والذي يعتبره الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو أحد مشاريعه البارزة، إلى حد ما. كان من المتوقع أن يكون تشييد مدينة جديدة من الصفر في غابات بورنيو الاستوائية مهمة شاقة.
خلال الأسبوع الماضي، قدمت السلطات تنازلين مهمين: الأول هو أن العاصمة الجديدة قد لا تكون جاهزة لاستقبال أول دفعة من الموظفين الحكوميين كما كان مخططاً، والثاني هو تقليص قائمة المدعوين للاحتفال باليوم الوطني نظراً لنقص خدمات التموين والإقامة.
خلال زيارتي للموقع قبل حوالي 18 شهراً، أدركت أن الجدول الزمني الذي وضعه "جوكوي"، كما يُعرف بين العامة، سيكون من الصعب الالتزام به. كانت هناك الكثير من المسارات الترابية والشاحنات، لكن التشييد الفعلي كان من الصعب رصده. كما أن الطرق المؤدية إلى المنطقة من باليكبابان، أقرب مدينة، كانت ضيقة. ومنذ ذلك الحين، أحرزت أعمال التشييد بعض التقدم، لكنه لم يكن بالمستوى المأمول.
إرث جوكوي
تقترب نهاية ولاية "جوكوي" الثانية في أكتوبر، مما يزيد الضغط على المشروع. وعلى الرغم من أن خليفته برابوو سوبيانتو قد أبدى دعمه لمشروع "نوسانتارا"، إلا أن التحدي يكمن في التكلفة الباهظة للعاصمة الجديدة، بالإضافة إلى أن "برابوو" لديه خطط طموحة خاصة به. لذا، فإن قرارات صعبة تنتظر التنفيذ.
ترك "جوكوي" لخليفته ميزانية في وضع جيد نسبياً، حيث من المتوقع أن يبلغ العجز لعام 2025 حوالي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يظل ضمن الحد القانوني البالغ 3%، وفقاً لما أعلنته الحكومة الجمعة الماضية.
اتبعت الإدارة المنتهية ولايتها سياسة مالية متينة خلال العقد الذي أمضاه "جوكوي" في السلطة، بمساعدة وزيرة المالية سري مولياني إندراواتي، التي تحظى بتقدير كبير من المستثمرين الأجانب. وكانت الخطوة الوحيدة المحفوفة بالمخاطر التي اتخذها أثناء ذروة الجائحة هي السماح للبنك المركزي بشراء السندات الحكومية بشكل مباشر، وهو ما يعد تسييلاً للدين، وهي خطوة لطالما تجنبتها الدوائر الاقتصادية المحافظة وربما يصعب قبولها في الظروف الطبيعية.
طموحات برابوو تجاه نوسانتارا
أبدى "برابوو"، وهو جنرال سابق رفيع المستوى، انزعاجه من قيود الإنفاق، وتعهد بتعزيز النمو الاقتصادي بشكل كبير. إذ يطمح إلى تحقيق زيادة سنوية قدرها 8% في الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أن هذه النسبة لم تتجاوز 5% على مدار العقد الماضي. من الصعب تحديد ما إذا كان "برابوو" يعتقد فعلاً بإمكانية تحقيق هذا الهدف أم أنه مجرد تعبير عن طموحه. ففي كل مرة يُعبر فيها "برابوو" عن إحباطه من المسار الاقتصادي الضيق لإندونيسيا، يسارع مساعدوه إلى ترتيب الفوضى من خلال التأكيد على الالتزام بالقواعد وتهدئة مخاوف الأسواق. ولا شك أن اختياره لوزير المالية سيكون حاسماً في تحديد مسار السياسات الاقتصادية المستقبلية.
وعد الرئيس المنتخب بإكمال مشروع "نوسانتارا"، الذي كان من المقرر إنهاء المرحلة الأولى منه هذا العام. ويتوقع "جوكوي" أن يعيش ويعمل في المدينة الجديدة قرابة مليوني شخص بحلول عام 2045. لكن السؤال المطروح هو مدى جدية هذا الالتزام.
صرح "جوكوي" للصحفيين الأسبوع الماضي قائلاً: "أخبرته أن تطوير نوسانتارا سيستغرق 10 أو 15 أو 20 عاماً.. وكان رده أن (هذا ليس سريعاً بما يكفي بالنسبة لي، فأنا أريد الانتهاء منها في غضون أربعة أو خمسة أو ستة أعوام). الأمر متروك له الآن." إذا نظرنا إلى هذا التصريح بظاهره، فإنه يضيف ضغوطاً إضافية على أجندة برابوو، بما في ذلك تعهده بتخصيص 29 مليار دولار لتوفير وجبات مجانية لتلاميذ المدارس.
التعلم من دروس الماضي
لا شك أن فكرة نقل العاصمة من جاكرتا، التي تعاني من الاكتظاظ السكاني والغرق، فكرة سليمة. لكن هل من المعقول نقل العاصمة إلى مدينة جديدة بالكامل تقع على جزيرة مختلفة، وتستغرق رحلة طيران لبضع ساعات للوصول إليها؟ هذا ليس مشابهاً لمشروع خدمة القطارات السريعة "أسيلا" بين نيويورك وواشنطن، أو القيادة لثلاث ساعات من سيدني إلى كانبرا. لقد نشأت في كانبرا وعشت في العاصمة واشنطن، وأعلم أن مثل هذه المستوطنات تستغرق وقتاً طويلاً لتتشكل، ولا يمكنها أن تكون خالية تماماً من المصالح الراسخة.
الخبر السار هو أن مشروع "نوسانتارا" بدأ يأخذ طابعاً أكثر واقعية، لكن لا ينبغي الاستعجال في إنجازه. على سبيل المثال، اختيرت كانبرا لتكون عاصمة لأستراليا في عام 1913، لكن أعمال التشييد تأخرت بسبب الحربين العالميتين والكساد الاقتصادي. كما تعرضت واشنطن للحرق على يد البريطانيين خلال حرب 1812. عادةً يجري بناء العواصم من الصفر على فترات زمنية طويلة.
من الأفضل بكثير اتباع نهج مدروس بدلاً من التسرع، كما حدث مع برازيليا في أواخر الخمسينيات. كانت برازيليا أحد المشاريع الضخمة التي فضلها الرئيس جوسيلينو كوبيتشيك، لكنها خلفت إرثاً من التضخم السريع والديون المرتفعة، مما أدى إلى أزمة اقتصادية مهدت الطريق لأعوام من الحكم العسكري.
هذا ليس ما يريده "برابوو"، صهر الديكتاتور السابق سوهارتو، أن يُسجل في تاريخه. فهذه حكومة وليست سباقاً.